د. ليلى نقولا الرحباني
في وقت يمرّ العالم العربي بتطورات متسارعة لا يدرك أحد ما ستتكشف عنه، وما
سيكون مصيرها، وهل ستقود هذه التغيرات، دول المنطقة الى عالم أكثر انفتاحًا
وديمقراطية، أم ستغرقه في جهل وتكفير ودماء لا تنضب، أما ستعبث باستقراره بشكل
دموي قاتل كما يحصل في العراق؟
وفي خضمّ هذه التطورات، وفي جو من الحزن يلف العالم على انطفاء نور داعية
سلام أفريقي، نيلسون مانديلا، تضجّ فكرة الاستفادة من تجربة جنوب افريقيا
التصالحية، في رؤوسنا ونسأل: هل يمكن للعراق ومصر وسوريا على سبيل المثال، أن
تستفيدا من تلك التجربة؟.
قام نيلسون مانديلا، عقب انهيار نظام الفصل العنصري فى جنوب أفريقيا- متأثرًا بتجارب أميركا اللاتينية التي سبقته، وخاصة
التجربة التشيلية- بتعيين لجنة الحقيقة والمصالحة
بموجب قانون تعزيز الوحدة والمصالحة الوطنية رقم 34 للعام 1995. وجاء تأسيسها
طبقًا للقانون الذي عكس التوازن السياسي والعرقي الدقيق الذي كان قائمًا في مرحلة
انتقال البلاد من حكم الأقلية البيضاء العنصري إلى حكم الأغلبية السوداء فى عام
1994.
وكانت "لجنة الحقيقة والمصالحة" الجنوب افريقية عبارة عن هيئة
على شكل محكمة يتم دعوة الشهود الذين كانوا ضحايا لانتهاكات سافرة لحقوق الإنسان
للادلاء بشهاداتهم أمامها. وقد أعطيت هذه اللجنة صلاحيات واسعة واستثنائية قياسًا
إلى "لجان الحقيقة" التي تشكلت قبلها للنظر في انتهاكات حقوق الإنسان فى
الدول الأخرى فكان من ضمن صلاحياتها منح عفو للمتهمين الذين يثبت عدم ارتكابهم
جنايات وتحديد موعد منح الأهلية السياسية التي تتيح للمتهم مزاولة حقوقه السياسية،
ومنح التعويضات للضحايا أو ورثتهم، كما اعتمدت تصوّر العفو المشروط أو الجزئي
كسبيل لتحقيق العدالة بدلاً عن العدالة العقابية، فعوضًا عن تقديم المنتهكين لحقوق
الإنسان إلى المحاكم اعتمدت اللجنة جلبهم للاعتراف بأخطائهم وطلب الصفح ممن ألحقوا
بهم الأذى .
تلقت اللجنة حوالى سبعة آلاف طلباً للعفو، أغلبيتها من سجناء كانوا يعملون فى
الأجهزة الأمنية والقمعية الحكومية وكانت لجنة أخرى من اللجان الفرعية التابعة للجنة
الحقيقة والمصالحة - وهى لجنة العفو المستقلة ذاتياً، والتى ترأسها قاضٍ فى المحكمة
العليا- مسؤولة عن النظر فى هذه الطلبات والبت فيها. وجرى البت فى العديد منها على
أساس الأوراق المقدمة، من دون عقد جلسات، لكن في ألف حالة على الأقل، تمّ التوصل إلى
قرارات حول الطلبات عقب عقد جلسات علنية أمام لجنة العفو.
حقق عمل اللجنة
نجاحًا واسعًا لأنه أعاد اللحمة للشعب الجنوب أفريقي ويسّر له سبل التقدم مما جعل جنوب
أفريقيا تتربع على العرش الاقتصادي والسياسي للقارة الافريقية، وذلك بعكس أول لجنة
للحقيقة والمصالحة عرفها العالم والتى تأسست فى أوغندا عام 1974 على أيدي الرئيس الأوغندي
الراحل عيدي أمين بايعاز وضغوط من مجموعات حقوق الإنسان ولكنها فشلت فى تحقيق أي من
أهدافها لأن النظام الأوغندي رفض نشر نص التقرير الذى توصلت إليه اللجنة أو تنفيذ أي
من توصياته. ومنذ ذلك التاريخ حذت بلدان عدة حذو أوغندا فى تكوين لجان للحقيقة والمصالحة
كسبيل لتحقيق العدالة الانتقالية فى بلدان مزقتها الحروب والصراعات فكانت التجربة الأرجنتينية
(1983-ـ1985)، وتجربة تشيلي (1990ـ 1991)، وغيرها إلى أن أصبحت واحدة من الأساليب المعروفة
عالميًا كسبيل للتعامل مع خروقات سابقة لحقوق الإنسان. ورغم أن تجربتي الأرجنتين وشيلي
فشلتا مثلما فشلت تجربة أوغندا ولنفس الأسباب تقريبًا، لكن النجاح الكبير الذى حققته
لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا جعلها النموذج الذي يحتذى به فى العالم وتكررت
بعدها فى أرجاء أخرى من العالم.
إذًا، ما الذي
يمنع العراق على سبيل المثال من أن ينتهج نهجًا مماثلاً لجنوب افريقيا، وماذا لو
فتحت حكومة العراق المجال واسعًا أمام المصالحة الوطنية بالدعوة الى التخلي عن
السلاح ودعم الارهاب مقابل العفو؟ ألا يؤدي هذا الى عزل الارهابيين المنتشرين في
الداخل، وتفكيك البيئة الحاضنة التي تدعمهم؟
"بغياب الحقيقة والاعتراف بها، تغدو المصالحة مستحيلة"، عبارة
لطالما ترددت على ألسنة كثيرين من المفكرين، بالرغم من أن تعريف المصالحة يختلف عن تعريف كشف الحقيقة، فالمصالحة هي عمل
براغماتي لتغيير السلوك والتصورات بين الأعداء السابقين، بينما كشف الحقيقة هو عمل
يهدف إلى شيء آخر قد يكون المصالحة من ضمنه، ولعله يبدو من أحد أهم المقومات
الرئيسية في عملية المصالحة.
لكن بلا
شكّ، أن السير نحو المصالحة الحقيقية في دول العالم العربي التي تمرّ بفترات
انتقال، يتطلب شجاعة استثنائية، ويتطلب الكثير من التعالي عن الجراح من أجل السير
بالأوطان الى السلام والاستقرار، وقبل كل شيء يتطلب دعمًا - أو على الاقل -
اقتناعًا من قبل دول الجوار أن المسار الجديد في المنطقة يتطلب تغييرًا في
السياسات السابقة الداعمة للارهاب، فها هي الدول الاوروبية ترفع الصوت عاليًا
معربة عن قلقها من عودة الارهابيين اليها، وروسيا بدأت بتدريب فرق خاصة لمحاربة
هؤلاء، فهل يستغل العرب هذا التوجه الحقيقي نحو مكافحة ارلاهاب، فيجتثونه من فكرهم
ومجتمعاتهم، أم يفوتون الفرصة تلو الأخرى ويغرقون في الجهل والدماء والتكفير؟... نريد
بلا شكّ نيلسون مانديلا عربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق