د. ليلى نقولا الرحباني
عاشت بيروت ومعها لبنان بأكلمه، خطرًا هائلاً ضجّ في سمائه على وقع رسالة دموية قاتلة تجلت في اغتيال وزير المالية السابق ومستشار الرئيس رفيق الحريري محمد شطح. وقد يكون الخطر الأمني الذي هدد لبنان، مستمرًا منذ تفجيرات الضاحية الارهابية ودخول ظاهرة الانتحاريين الى الساحة اللبنانية واستهداف السفارة الايرانية والجيش اللبناني، ولكن الخطر الاكبر والقلق الهائل، الذي شهدته الساحة اللبنانية لم يكن في الجريمة بحد ذاتها بل من التحريض المذهبي الذي ساقته قوى 14 آذار والتي حاولت المساهمة بشكل أو بآخر بتحقيق أهداف القتلة من التفجير.
لقد أفادت التحقيقات التي قام بها الجيش اللبناني أن السيارة المفخخة التي انفجرت كانت قد سرقت في وقت سابق من منطقة ساحل الشوف وأدخلت الى مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، وأشارت المصادر الى وجود موقوف حاليًا في سجن روميه المركزي في قضية سيارتين مسروقتين استخدمتا في أعمال ارهابية، ويدعى مرشد عبد الرحمن (سعودي الجنسية) ويتم إخضاعه للتحقيق حاليًا من قبل الأجهزة المعنية وقد اعترف أمام المحققين أن سارقي السيارة المفخخة موسى م. و"محمد السريع" أدخلاها فعلاً الى مخيم عين الحلوة وأنهما ينتميان الى "فتح الاسلام".
وهكذا، يكون التساؤل المشروع: لماذا اغتيال وزير المال السابق محمد شطح، وهو شخص معروف باتزانه بالرغم من وجوده بين مجموعة تتقن التوتير السياسي، وتدفع اليه؟ ولماذا تقوم جماعة فتح الاسلام باغتياله، وماذا الهدف الذي يبغيه من يحرك هذه المجموعات، علمًا أن فتح الاسلام لا يمكن أن تقوم بعملية اغتيال من هذا النوع إلا بأمر عمليات من جهة كبرى تمولها وتحرّكها؟
في الاجابة على هذه التساؤلات، لا يمكن لأي محلل ان يتبنى فرضية بدون الأخرى، والفرضيات قد تقول انها قد تكون رسالة ترهيب اقليمية الى تيار المستقبل، أو عملية تصفية حسابات بين أجنحة، أو أنها لتوفير مادة لترهيب خصومه على أبواب المحاكمات في المحكمة الدولية، او محاولة لتفجير الساحة اللبنانية بفتنة سنية شيعية، وقد تكون رسالة الى الأميركيين ذاتهم، بسبب قرب شطح من السياسة الاميركية، وهو معروف بأنه "محسوب على الأميركيين" في لبنان.
وبكل الاحوال، ومهما كان الهدف من الاغتيال، وقد يكون لأسباب أخرى غير معلومة، فإن اغتيال شطح الشخصية السنّية الأكاديمية المتزنة، تعني أن التسوية ما زالت بعيدة، وأن هناك بعض الأطراف الاقليمية يريدون إدخال لبنان في أتون حرب أهلية وتشنج مذهبي، وإنهم سيسعون بكل ما اوتوا من قدرة على توتير الاجواء في لبنان قبل الوصول الى تسوية مقبولة في المنطقة.
إن الحديث عن التسوية القادمة والتي قد تتبلور بإعلان تحالف دولي واقليمي عريض ضد الارهاب، يدفع بعض الخاسرين الى محاولة استباق تلك التسوية المرتقبة بتوتير الأوضاع في الساحات المترابطة أي سوريا ولبنان والعراق، واستعمال كل ما يمكن استعماله من أوراق وأدوات للدفع نحو التشنج والاقتتال.
وهكذا، وفي زمن الدفع نحو التشنج:
- يتم اقصاء كل صوت معتدل، والتضحية بكل ما من شأنه أن يضعف الجبهة بمواقفه المعتدلة، وقد يكون ذلك بالاغتيال على أن تستثمر الدماء في تصعيد التوتر المذهبي، والاستفادة منها لتحقيق أهداف سياسية لم يكن من الممكن تحقيقها بدون ذلك الاغتيال.
- استثمار الدماء والدفع نحو التصعيد ومحاولة توجيه الاتهام للخصم السياسي لاحراجه ووضعه في موضع الدفاع عن النفس، ومحاولة الكسب في المجال السياسي وهذا ما يؤدي الى تأزيم الوضع، وزيادة الاحتقان السياسي والمذهبي، ويحقق ما يصبو اليه الخاسر من التسوية، بجعلها مستحيلة.
وبكل الأحوال، وبغض النظر عن توقيت التسوية المنتظر، بات على اللبنانيين الإدراك بأن التلّهي واللعب بمصير الوطن الذي يقومون به، لم يعد مقبولاً وبات يهدد الجميع بدون استثناء. علمًا أنه في علم السياسة، أمور يبدو أن اللبنانيين ما زالوا عاجزين عن فهمها أما لقصورهم الفكري أو لعدم نضوجهم السياسي، وهي:
إن التسوية حين تحصل، فهي لا تطيح بالمهزوم وحده فقط، الذي يدفع الثمن الأكبر بأن يجعله أسياده كبش محرقة فيبيعونه ويقبضون ثمنه، ولكنها تطيح أيضًا بـ "رأس الحربة" في هذا المحور أو ذاك، فحتى المحور الرابح، الداخل في تسوية مع الخصم أو العدو، ينظر الى رأس الحربة بأنها أدّت ظيفتها المطلوبة، وما يصحّ في وقت الحرب، لا يصحّ في وقت التسوية والتفاوض، فالحرب لها ناسها وأدواتها، وما بعد التسوية له ناسه وأدواته وهكذا سيتمّ حرق "المتطرفين" لصالح حلفاء أكثر اعتدالاً مقبولين في زمن الصلح المفترض.
فهل يدرك اللبنانيون من السياسيين والأمنيين هذه المعادلة، وما النفع الآتي لهم ولوطنهم بأن يكون رأس حربة في مشاريع الآخرين في المنطقة، التي تحاول حرق لبنان، وجعله ساحة للارهابيين الذين لا يوفرون منطقة ولا مذهبًا ولا دينًا؟.