2013/11/21

الواقعة الكربلائية من منظور قانون الحرب

مداخلة قدمتها في ندوة بعنوان "كربلاء: رؤية مغايرة" بدعوة من مؤسسة الفكر الاسلامي المعاصر في 21 تشرين الثاني 2013

مقدمة
        لن أدخل في نقاش الواقعة الكربلائة من منظور ديني أو قيمي واخلاقي أو عاطفي، ولا من منظور المدرسة المثالية الأخلاقية والعاطفية، فأنا أنحاز بطبيعة الحال الى المظلوم صاحب الحق، وسأنتصر له في مقاربتي العلمية، ولن أستطيع أن أكون محايدة، فالحياد بين الحق والباطل لا يجوز، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
        لهذا، ولكي أناقش الواقعة التاريخية بمنظار آخر، ومن موقع المحايد، علي أن آخذ مسافة قيمية واخلاقية وعاطفية منها، وأناقشها بعقل الباحث في القانون الدولي، فأتخذ من المقاربة القانونية البحت مقياسًا لتقييم تلك الأحداث وما حصل خلالها.
أولاً: قراءة كربلاء بصورة مجرّدة
  سأبدأ برسم صورة لتلك الواقعة التاريخية، مجرّدة منزّهة عن الأفكار الدينية والاخلاقية، والارتباط الثيولوجي، وهي تبدو كما يلي:
        بعد حروب أهلية ضمن الصراع على السلطة بين المسلمين، توفي الحاكم معاوية مورثًا الحكم لأبنه يزيد، في مخالفة واضحة لأصول الحكم والقانون المتبع في الدولة ومن غير ان يكون مستوفياً الشروط التي تفرضها الشريعة للقبول بالإمام الحاكم، والدولة لم تكن ملكية لتكون قاعدة الحكم فيها توريثًا من أب لأبن، يضاف الى ذلك أن الصفات الشخصية والقيادية ليزيد، لا تجعله مؤهلاً لحكم البلاد. لكل هذه الأسباب وغيرها، كان من الصعب جدًا عليه أن يقنع المواطنين بشرعية حكمه ووراثته للسلطة، فلا شرعية دستورية لتلك الوراثة، ولا شرعية تقليدية دينية، لذا حاول أن يفرض حكمه بالقوة، من خلال التخلص من معارضيه، وفرض مبدأ صارمًا، يعدّ سابقة في تاريخ تلك الدولة،  وهو مبدأ: القبول بالبيعة أو الموت.
        وكان الحسين بن علي، من طليعة المعترضين على هذا التوريث، رافضًا القبول بالبيعة، وبما أنه من "أحفاد الرسول"، فقد كان له مكانة خاصة بين المسلمين، وكان يزيد يحتاج الى أن يكسب منه - بشكل خاص- اعترافًا بشرعيته، لكي يستطيع أن يحكم البلاد، بدون معارضة كبرى تقوّض له حكمه.
        كان يزيد، يدرك تمامًا مدى تأثير الحسين على الأمة، لذا حاول أن يأخذ منه الاعتراف بشرعية حكمه بأي طريقة، وبأي ثمن. وبما أن الحسين  قد تربى في كنف جدّه وورث عن أبيه وأمه العنفوان وعدم الرضوخ للتهديد وعدم التراجع عن المهمة، وقد تعلّم منهم مقاومة الظالم مهما كلّف ذلك من أثمان معنوية ومادية، قد تصل الى التضحية بالنفس ( وهنا افتح نافذة لأشير الى مقاومة فاطمة الزهراء التي امتدت خلال حياتها وبعد مماتها) كان من المستحيل عليه أن يقبل بالاستسلام أو الخضوع للابتزاز، أو القبول بتسوية مجحفة، أو الخضوع للترهيب.
        وهكذا، تطورت الأمور لتحصل الواقعة في كربلاء، فكيف يمكن لنا أن ننظر لها ونقيّمها من ناحية قانونية مجرّدة. علمًا أنه من المنطقي أن لا نحكم على تلك الواقعة بمنظار القانون الدولي الانساني الحالي، انطلاقًا من مبدأ عدم رجعية القوانين، لذلك سيكون الحكم والتقييم، انطلاقًا من القانون السائد في الدولة آنذاك، أي القانون الاسلامي، وبالأخص قواعد الحرب في الاسلام.
ثانيًا: في حق الحسين بالمقاومة ورفض البيعة
        لقد أكد الاسلام على حقّ المقاومة ليس كحق فحسب، بل كواجب أيضًا وذلك في نصوص عدّة، ومنها في الحديث النبوي الشريف: من رأى منكم منكراً فليقوّمه بيده، فان لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.
        يقول المفكرون إن خيار المقاومة يعكس انهيار ثقة المواطنين بالدولة، فاما أن تنشأ المقاومة لتقاعس السلطة عن أداء مهماتها في حفظ الارض والشعب من الاعتداءات الخارجية، فيقوم الشعب أو جزء منه بالدفاع عن الارض ومقاومة الاحتلال، او تنشأ لمقاومة استبداد السلطة وتعسفها فتطمح إلى بناء سلطة بديلة قادرة على تلبية مطالب المجتمع المتعلقة بالحرية الضامنة للكرامة والهوية.
        ومن البديهي القول ان المقاومة ليست اعتداء على الغير بل هي استعادة لحق مسلوب، وليست مجرد ممارسة للعنف، بل إنها فعل إنساني طبيعي للحفاظ على الوجود والعيش بكرامة وحرية. ولهذا تشمل المقاومة جميع جوانب الحياة المادية والمعنوية، فقد تكون عسكرية، ثقافية، سياسية، اقتصادية، تقنية وإعلامية كما تختلف أنماطها فتكون فردية أو جماعية، داخلية أوخارجية... لأنها دفاع عن الذات، عن الجماعة وعن الوطن .
       
        وبما أن البيعة ممارسة لإرادة حرّة وليست فرضًا وإملاء، نستطيع أن نقول أن ثورة الحسين وحركة مقاومته لم تكن خارجة عن القانون المعتمد والمعترف به في تلك الدولة، بل كانت تعتبر ثورة إصلاحية مشروعة من ضمن الأصول المعتمدة، والموصى بها من قبل جدّه.

ثالثًا: في مشروعية الحرب التي شنّها يزيد
        بداية، أريد أن أؤكد أن توصيف "حرب" لا ينطبق على ما حصل في كربلاء، فالحرب مواجهة تحصل بين طرفين يستخدمان فيها القوة العسكرية، وتفترض أن يكون جيش مقابل جيش أو قوة منظمة. انطلاقًا من هذا التعريف، لا يمكن الإدّعاء أن ما حصل في كربلاء كان حربًا، فالإمام الحسين لم يكن على رأس جيش بل كان الجمع مؤلفًا من 72  شخصًا مقابل جيش بكامل عتاده وعديده... لذا لا يمكن توصيفها أنها حرب، بل هي مجزرة فعلية.
        وحتى إن سلمّنا أنها حرب، فشن ّالحرب بموجب القانون الاسلامي السائد آنذاك، كان يفترض قواعد وشروط، فالاسلام لم يقرّ الحرب بوصفها سياسة وطنية أو وسيلة مفضلة لحسم النزاعات، بل لا تكون حرب إلا إن كانت هناك ضرورة ملّحة للجوء إاليها، أو إن فرضت فرضًا على المسلمين ولم يكن هناك من طريق لحل النزاع بوسيلة أخرى، ما يعني أن اللجوء الى القوة العسكرية، يجب أن يكون الخيار الأخير في حل النزاعات خاصة بين المسلمين أنفسهم.
وللحرب في الإسلام فلسفة يمكن إجمالها في النِّقاط التالية[1]:
أولاً: أما أن تكون حرب لإقرار الحق، ودَحْض الباطل.
ثانيًا: أو  لردِّ الاعتداء، لا لإبادة الأعداء.
ثالثًا: أو لنَشْر العقيدة الإسلامية وحمايتها، دونما إلزامٍ لأحدٍ بها.
رابعًا: أو لمَنْع الظلم والإفساد في الأرض.
خامسًا: أو حماية الدِّيانات الأخرى من أن تُمحى[2].
أيًا من هذه الشروط لم تكن متوافرة في حرب يزيد على الحسين وأصحابه، فيزيد كان هو مَن منتهك الحق، ولم تكن الحرب ضرورة ملّحة فالحسين لم يكن في حالة اعتداء عليه[3]، ولم يكنّ يزيد يحارب لمنع الظلم والإفساد في الأرض بل كان هو مصدرهما....
وحتى مبدأ الاستباق الذي يمكن أن يتمّ التذرع به للقول بالدفاع عن النفس ( أي أن الدولة تشنّ حربًا استباقية على خصم يتحضر لمقاتلتها) فلم يكن متوافرًا في الحالة هذه، لأنه يرتكز على وجود خطر حقيقي "جاهز وموجود، وهو ما لا تستطيع فرقة مؤلفة من 72 شخصًا تشكيله في معركة معروف سلفًا أنها ساقطة عسكريًا.
وهكذا، نجد أن العمل العسكري الذي قام به يزيد، كان عملاً عدوانيًا بامتياز، ولا يتصف بأي مشروعية قانونية، ولا يندرج ضمن الأصول والقوانين والأعراف المعتمدة في الدولة الاسلامية آنذاك، هو استعمال مفرط للقوة لم تفرضه الضرورة ولا قاعدة التناسب ولم يكن مبررًا في ظرفه ومكانه.

رابعًا: قانونية الأعمال العسكرية بموجب قواعد الحرب المعتمدة
عندما نتحدث عن قواعد الحرب، لا نتحدث بطبيعة الحال عن قانون النزاعات المسلحة الحديث، أو ما بات يطلق عليه اليوم القانون الدولي الإنساني، بل نقوم بتقييم الأعمال العكسرية في الواقعة الكربلائية من منطلق قانون وقواعد الحرب في الاسلام، والتي سبقت بكثير التطور الحديث في القانون الدولي الانساني الذي لم يبرز إلا في نهاية القرن التاسع عشر وتطور مع اتفاقيات جنيف وبروتوكلاتها خلال القرن العشرين.
تاريخيًا، ومنذ المعارك التي خاضها النبي محمد، وضع الإسلام واجبات شرعية على المقاتلين المسلمين ألا يتخطوها، وفرضت على العسكر المقاتل قواعد صارمة يجب أن يلتزموا بها قبل الحرب وخلالها وبعد انتهائها.
ولقد خالف يزيد وجيشه، قواعد وقوانين الحرب في الاسلام وأهمها ما يلي:

1- انتهاك صارخ لحق الإنسان في الحياة، الذي أقرّه الاسلام بشكل واضح، عندما نصّ القرآن الكريم في آية واضحة: }من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض كمن قتل الناس جميعًا{ (المائدة: 32).
وبما أن الحرب التي شنّها يزيد، لم تكن من أجل إصلاح أو  منع الفساد والمنكر، فيكون عمله العسكري خارقًا لهذا المبدأ الأساسي في القرآن، بصورة واضحة.

2- خرق فاضح لمبدأ التناسب الذي أتى به الاسلام، والذي يعني أن يكون الاعتداء بمثل نوع العدوان {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا انَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }.
بداية لم يكن هناك اعتداء من قبل الحسين، وثم لم يكن هناك أي تناسب بين الفريقين المتقاتلين، ولم تكن الافعال المرتكبة من قبل جنود يزيد متناسبة مع الأفعال التي قام به فريق الإمام الحسين. طلب الحسين ان تفتح الطريق أمامه ليكون فردًا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم و لكن أصرّ الخصم على القتال.

 3-  خرق لمبدأ التمييز بين المقاتلين والمدنيين
        كان للإسلام السبق في التمييز بين المقاتلين وغيرهم من المدنيين الذين لا يقاتلون. حيث يُروى عن النبي محمد أنه قال موصيًا زيدًا بن حارثة لما أرسله إلى مؤتة: "لا تقتلوا وليدًا ولا أمراة وكبيرًا ولا فانيًا ولا منعزلاً بصومعة".  وفي هذا الإطار، يكون الاستنتاج من مقارنة قوانين الشريعة الإسلامية وقوانين الفروسية الاوروبية في القرن الرابع عشر، أن قوانين الشريعة الإسلامية حمت المدنيين غير المشاركين في القتال كحق، بينما  شكّلت حمايتهم في قانون الفروسية التزامًا من جانب النبلاء أي إن الحماية أتت كهدية أو منحة من الأقوياء أو الرؤساء لمن هم أدنى درجة.
        لقد خالف عسكر يزيد هذا المبدأ الأساسي من قواعد الحرب في الاسلام، فلم يميّزوا بين المقاتلين والمدنيين، بل قاموا بقتل وإطلاق السهام بدون تمييز ما يجعلهم مجرمي حرب موصوفين.

4 - انتهاك لمبدأ عدم جواز قتل غير المشاركين في أعمال الحرب
        يُحكى أن النبي محمد رأى في إحدى الغزوات امرأة مقتولة فغضب كثيرًا، وقال: ما كانت هذه تقاتِل، لتقاتًل وتقتل. وأمر بأن ينطلق رسول من قبله الى خالد بن الوليد، ليقول له: إنَّ رسول الله يأمرك، ويقول: لاتقتلن ذريّة ولا عسيفاً.
        وهكذا، أقرّت قوانين الحرب في الاسلام أنه لا يجوز قتل غير المحاربين، إلا إذا اشتركوا في الحرب فعلاً برأي أو قول أو إمداد أو قتال أو تحريض. وهذا يتشابه مع قواعد قانون القانون الدولي الانساني الحالية، حول وجوب التمييز وحصانة غير المشاركين في الأعمال العدائية.
        من هنا، إن أعمال القتل التي قام بها جند يزيد، لمن لم يكونوا مشاركين في القتال، وقتل أولاد عائلة الحسين وأطفاله، يعدّ جريمة كبرى ومخالفة واضحة لقانون الحرب الاسلامي، ولها عقابها عند الله كما يقول الدين الاسلامي.



5-  مخالفة مبدأي لا تغدروا وارحموا
        لقد نهى النبي محمد عن الغدر واشترط على المقاتل المسلم أن يقاتل بشرف  وأن لا يقتنص عدوّه غدرًا وظلمًا وأن يرحم حين يستطيع. لم يمتثل المقاتلين التابعين ليزيد لهذه المبادئ، بل لقد تمّ غدر وقتل الذين ذهبوا للاستحصال على المياه للشرب للأطفال الرضّع، برميهم بالسهام. ولم يكن هناك رحمة بالأطفال ولا بالمرضى، بشكل لا يقبله قانون انساني أو ديني.

6- انتهاك لقاعدة واضحة جدًا: عدم التنكيل أو التمثيل بالجثث
        إن ما قام به جند يزيد بقطع رأس الحسين والتمثيل بجثته، أمر ترفضه كافة الشرائع السماوية والقانون والأعراف في أي دولة أو حضارة إنسانية.
        وفي الاسلام بالتحديد، نهى النبي محمد بشكل واضح وصارخ، عن التنكيل والتمثيل بالجثث، فالميت له حرمته، حتى لو كان كافرًا. ولقد قال النبي لاتباعه: إياكم والمثله ولو بالكلب العقور. وأمر بدفن قتلى الكفار في المعارك، ومنع ترك الجثث في الشوارع حتى لا تأكل منها الحيوانات.
لقد خرجت الأفعال التي قام بها جند يزيد عن كل معايير اخلاقية ودينية وقانونية، فالقواعد المتبعة آنذاك أكدّت على مبدأ عدم التمثيل بالجثث، وأمرت بأن يكون مصير الجثة أحد أمرين:
- أما دفنها لكي لا تبقى على وجه الأرض، كما فعل النبي مع قتلى قريش بعد معركة بدر.
-  أو تسليمها إلى العدو كما حصل في تسليم جثة نوفل بن عبد الله عقب معركة الخندق.

7- انتهاك صارخ لحرمة الأسرى
        وضع الإسلام منهاجًا في معاملة الأسرى جوهره التكريم والمحافظة على كرامة الأسير والمحافظة على حياته وذلك في آيات عدّة في القرآن الكريم. (البقرة:85، الأنفال: 67- 68، الأنفال 70-71، الخ...) وتتلخص مبادئ حرمة الأسير في الاسلام في: حسن المعاملة، عدم جواز قتله، الرفق بالأسير وإطعامه، وحتى وإن كان كافراً. ولو عجز الأسير عن المشي لا يجوز قتله، ولا يجوز تعذيب الأسير بالجوع والعطش وغيرهما من أنواع التعذيب. زد على ذلك، أن الشريعة الإسلامية كانت قد نهت عن وضع الأغلال في أيدي الأسرى، وأمرت بتركهم أحرارًا من دون تقييد أو تحديد لحركتهم.
فإذا كان الإسلام قد عامل الأسير - الرجل المقاتل- بهذه الطريقة الأخلاقية، فكيف بالنساء والإطفال الذين لم يشاركن بأعمال القتال؟.
        زد على ذلك، إن فعل السبي الذي حصل مع نساء عائلة الحسين- وهم أهل بيت النبي محمد- قد انتهك أولاً معايير السبي المعتمدة في الاسلام من ناحية أولى، ثم إن الاهانات وأعمال التعذيب والاذلال التي تعرضن لها، قد انتهكت كل المعايير القانونية التي وضعها الاسلام، بالاضافة الى انتهاكه لكل المعايير الاخلاقية والإنسانية من ناحية ثانية.

خاتمة
        لا شكّ أن ما حصل في كربلاء من قتل متعمد، وحرمان تعسفي للحياة، ومنع الأطفال والمدنيين من الوصول الى مياه الشرب، وتمثيل وتنكيل بالجثث، يمكن اعتباره جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية مكتملة الأركان، بالاضافة الى الانتهاكات الجسيمة لقواعد وقانون الحرب في الاسلام. وقد حصل افلات من العقاب وعدم محاسبة المرتكبين في حينه.
        وبما أن التجارب دلّت أن المنتصر هو من يسنّ القانون، ويقيم المحاكم للمهزومين ويكتب التاريخ... فإن بقاء الثورة الحسينية لغاية الآن، وعدم قدرة يزيد ومن بعده على تزوير الحقائق، وكتابة تاريخ مشوّه حول الثورة الكربلائية، يعني أن ثورة الحسين قد انتصرت، وإن الظلم لم يستطع أن ينتصر على نور الحق المنبثق منها.
       
        لكن، وبالرغم من قسوة المأساة وفجاعتها، من المؤسف أن تبقى رسالة الحسين وقيم عاشوراء أسيرة داخل جدران الحسينيات، بدل أن تخرج منها وتفرد جناحيها لتنطلق الى رحاب الانسانية الأوسع، وتجعل من هذا الظلم التاريخي عجلة تدفع الاسلام الى نهضة تنويرية؛ تخرج الأحقاد من التاريخ فتفجّر قيمًا انسانية تدعو الى رفض الظلم والطغيان وتدعو الى الوقوف مع الحق مهما كان الثمن.
وهنا يتبادر الى الذهن تساؤلان مشروعان:
- متى يستطيع الفقهاء المسلمون، من شيعة وسنّة، إخراج الواقعة الكربلائية من المقاربة العاطفية الغرائزية الى المدى الإنساني الأرحب؟
- متى يخرج يزيد من حياة وفكر المسلمين، ليتأتى لهم بعدها القدرة على تأطير الواقعة الكربلائية في مشاكل الناس الحديثة، والاستفادة من الآثار الفكرية لثورة الحسين وقيم استشهاده؟
        أما آن الأوان لمصالحة تاريخية تقوم على الاعتراف بالظلم الذي حصل والاعتذار والمسامحة، فالحقد لا يورث الا الحقد، والمسامحة والغفران لا تعني النسيان، بل ببساطة إنها تعني وضع الحقد جانبًا للاستفادة من التاريخ وعبره، في بناء الحاضر ورسم طريق المستقبل.


1- أحمد حمدي أحمد، قيم الحرب في الإسلام، دراسة مقارنة مع القانون الدولي الإنساني، أطروحة دكتوراه، قسم الفلسفة الإسلاميَّة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، 2012.
[2]  إن هذه  النقطة بالذات، ليست محل توافق بين الفقهاء المسلمين، ولم تذكر إلا في المصدر السابق ذكره.
[3]  وخاصة أن الإمام الحسين اتبع المبادئ التي اعتمدها والده الإمام علي في الحروب، ومنها عدم البدء بالقتال، وذلك من أجل تلافي سفك الدماء وإعطاء الفرصة للخصم للتراجع عن موقفه بشنّ الحرب. 

المشهد الدموي في لبنان.. أهداف وسيناريوهات

د. ليلى نقولا الرحباني
الثبات
وهكذا، انتقلت المواجهة المفتوحة في المنطقة إلى مشهد أكثر رعباً في لبنان؛ انتحاريون لأول مرة يحصدون الدمار والدماء في بيروت، في مشهد يعيد التذكير بالمآسي السورية والعراقية الممتدة منذ دخول الأميركيين إلى المنطقة باحتلال العراق، والتي لا تفرق بين مدني وعسكري، وتحصد المدنيين والأبرياء كل يوم.

بغض النظر عن إعلان "تنظيم القاعدة" مسؤوليته عن التفجيرين، عبر تصريح إلكتروني موقّع باسم "الشيخ" سراج الدين زريقات، إلا أن التصريح لا يؤكد بالضرورة مسؤولية "القاعدة" عن التفجيريْن، ولا ينفيه أيضاً، كما أن تنفيذ "القاعدة" للعملية الانتحارية لا يؤكد  حقيقة "الجهة" التي تقف وراء تنفيذ هذا الهجوم الإرهابي.

وفي دراسة مَن المستفيد، ولماذا حصل التفجير الإرهابي في بيروت، وإلى ماذا كانت ترمي هذه الرسائل الدموية، يمكن رصد السيناريوهات الآتية:

الأول: أن تكون "إسرائيل" وراء العملية كما اتهم الإيرانيون بطريقة مسرعة ومتسرعة نوعاً ما. لا شيء ينفي قيام "الإسرائيليين" بعمليات اغتيال، وإرسال رسائل عبر الساحة اللبنانية، خصوصاً بعدما بالغ "الإسرائيليون" في الصراخ تنبيهاً من خطر قيام الأميركيين بتسوية مع إيران، يعتبر "الإسرائيليون" أنها ستكون خطأ كبيراً وسيدفع ثمنه الغرب و"الإسرائيليون"، وأن إيران ستحصد المليارات، وستخدع العالم وستصنّع القنبلة.. من هنا، لا يمكن نفي فرضية قيام "إسرائيل" بمحاولة عرقلة قطار التسوية الذي يسير بسرعة قصوى في جنيف، لكن الأسلوب المعتمَد في إيصال الرسالة من خلال تفجير انتحاري، ليس أسلوباً "إسرائيلياً" تقليدياً، فهي تعتمد في عمليات الاغتيال التي تقوم بها، أساليب أحدث وأكثر تقنية وتكنولوجية، علماً أن "الإسرائيليين" يدركون تماماً أن اغتيال السفير الإيراني في بيروت لن يؤثّر على مفاوضات النووي الإيراني في جنيف، باعتباره ليس عاملاً مؤثراً فيها.

الثاني: أن يكون من صُنع بندر بن سلطان، كما سرت الاتهامات في بيروت على لسان أكثر من محلل وكاتب ومواطن عادي، وقد يكون الأمير السعودي ومخابراته بريئة من هذا العمل الإرهابي، لكن عوامل عدّة تغذّي هذا الاتهام:

أ- أن "الشيخ" زريقات الذي أعلن في تغريدة على "تويتر" تبنّي التنظيم الإرهابي للتفجيريْن، والذي يُعتبر من الوجوه الأساسية في "كتائب عبد الله عزام"، كان موقوفاً لدى مخابرات الجيش العام الماضي بتهمة القيام بأعمال إرهابية، ثم أُخلي سبيله بعد ساعات نتيجة تدخلات سياسية - دينية (مذهبية) على مستوى عالٍ، يرتبط أصحابها بالمملكة العربية السعودية.

ب- اعتراف بندر بن سلطان بسيطرته على المجموعات الإرهابية في معرض تهديده للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حينما رفض الأخير عرضاً بالتخلي عن الرئيس السوري مقابل إغراءات مالية وصفقات أسلحة كبيرة.

ج- أسلوب التفجير عبر انتحاريين يقدّم أحدهما للآخر، هو أسلوب اعتُمد بشكل كبير في القتال ضد الجيش السوري من قبَل الفصائل المموَّلة من قبل الدول الخليجية، حيث كان الانتحاري الأول يفجّر نفسه في حاجز الجيش السوري، ليقوم بعدها الثاني بالدخول وتفجير نفسه موقعاً الكثير من الضحايا.

د- يعتقد البعض أن الرسالة التي تلقّتها السفارة الإيرانية هي رسالة جنون يأس أخرى تضاف إلى الرسائل الدموية التي بدأ الخليجيون بإرسالها، بعدما تأكّد أن الأميركيين غير مستعدين للدخول عسكرياً في الحرب الدائرة في سورية، وأنهم بصدد الذهاب إلى "جنيف-2" لتتويج تسوية مع الروس، يبدو أن الخاسر الأكبر فيها ستكون السعودية وحلفاؤها، تضاف إلى خسارتها الكبرى بالاتفاق النووي الإيراني مع الغرب، الذي سيجعل إيران دولة إقليمية كبرى يُعترف لها بدورها الإقليمي الذي سينافسهم على الساحة الخليجية والشرق أوسطية.

السيناريو الثالث: ألا يكون هذا ولا ذاك، وأن طابوراً خامساً استغلّ التشنج في المنطقة والعلاقات المتوترة بين إيران وبعض دول الخليج، والتي غذّتها الحرب السورية، وانسحبت على اللبنانيين وكشفت الأمن في لبنان، فأراد تصفية حساباته مع الإيرانيين على الساحة اللبنانية، مستغلاً هشاشة الأمن فيه.

في المحصلة، لا يمكن لأحد استباق التحقيق، كما أن اتهام أي جهة أو نفي سيناريو معيّن يبدو مبكراً الآن، ولكن إلى أن يتم الكشف عن الحقيقة، لا بد من ملاحظتيْن أساسيتيْن:

- الأولى: أن مسار التسوية في المنطقة قد انطلق، والعمليات الإرهابية هنا وهناك لن توقفه، والجميع سيستفيد من السلام المتحقق إن عرفوا كيف تدار اللعبة، وأن السياسة ليست لعبة "صفرية"، بل يمكن تحقيق الربح النسبي للجميع، حينما يكون من المستحيل تحقيق الربح المطلق لأحدهم.

- الثانية: أن الطرف السعودي واللبناني المرتبط به بات عليه مسؤولية كبرى تجاه نفسه واللبنانيين، بالقيام بما ينفي عنه تهمة قتل الأبرياء من اللبنانيين في الضاحية الجنوبية والجناح. من هنا، بات ضرورة ملّحة كشف الغطاء السياسي عن كل الإرهابيين، سواء الموجودين في سجن رومية، أو المتنقلين بين عين الحلوة وعرسال وطرابلس وعكار، وبغير هذا سيبقى المجال متاحاً للاتهامات الجاهزة، ولمزيد من صبّ الزيت على النار المذهبية المشتعلة في المنطقة، والتي ستأكل الأخضر واليابس.

لعبة الأمم - هل تقامر أميركا بأمن إسرائيل ؟ - 2013-11-20

2013/11/17

مستقبل العرب في ظل ثلاثية "ايران- تركيا- اسرائيل" !!

د. ليلى نقولا الرحباني

كرّست الزيارة التاريخية التي قام بها وزيرا الخارجية والدفاع الروسيان سيرغي لافروف وسيرغي شويغو للقاهرة، مزيداً من الدخول الروسي الى منطقة الشرق الأوسط، الذي لا يمكن له أن يقوى بدون البدء بعلاقات مع الدول الفاعلة في المنطقة ومنها مصر. ويبدو أن السياسة المصرية بالانفتاح على روسيا، وتنويع مصادر التسليح، منسّقة مع الحليفين الأبرز لمصر بعد سقوط حكم الأخوان؛ السعودية والإمارات، اللتين ستمولان صفقة التسلح المصرية والتي تفاوتت التقديرات بشأن حجمها بين مليارين و10 مليارات دولار.
وهكذا، تزداد توسّع رقعة الدخول الروسي الى المنطقة، بحلف استراتيجي مع ايران وسوريا، وصفقات أسلحة وتعاون مع حلفاء أميركا التقليديين في المنطقة؛ ومنهم الأردن ومصر على سبيل المثال لا الحصر.
واللافت أن إدارة الرئيس باراك أوباما تبدو غير مكترثة بهذا التحوّل لحلفائها التقليديين نحو روسيا؛ لسببين أما لأنها تدرك بأنه لن يصبح تحوّلاً استراتيجيًا، وأنها مطمئنة لحجم نفوذها الذي كرّسته على مدى عقود، أو لأنها تقوم فعلاً بتطبيق سياسة التخفف من أحمال الشرق الأوسط، للتوجه بزخم أكبر الى الشرق الأقصى، وخاصة بعد التقارير التي أصدرتها وكالة الطاقة الدولية بأن الولايات المتحدة ستتفوق على السعودية وروسيا لتصبح أكبر منتج للنفط في العالم في عام 2015 وتقترب من تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة وتقليل اعتمادها على إمدادات أوبك، وأن الصين تتجه لتتحول- في نفس الفترة- إلى أول مستورد للنفط في العالم بداية من العام 2015.
وهكذا، تجد الولايات المتحدة أن عليها أن تغيّر سياستها في الشرق الأوسط، فجزء أساسي من استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق كانت بدافع تأمين ممرات النفط والسيطرة على منابعه وأمن اسرائيل. وبما أن الأميركيين سيحققون اكتفاءً ذاتيًا في مجالات النفط والطاقة، فإن علاقاتهم التاريخية مع الدول النفطية الخليجية ستتراجع لحساب علاقات استراتيجية مع ايران وتركيا واسرائيل، التي ستحاول الولايات المتحدة أن لا يكون انسحابها من المنطقة قد تمّ إلا بعد أن تحقق لاسرائيل ضمانات لأمنها واستقرارها. علمًا أن التقاطع الروسي الأميركي في المواقف تجاه اسرائيل يكاد يتطابق.
وهكذا، قد يكون التفاهم الروسي الأميركي في المنطقة مستندًا الى ثلاثية نفوذ اقليمية" ايران- تركيا- اسرائيل"، بتحييد الدول العربية التقليدية النفوذ - حليفة الولايات المتحدة. من هنا، بات على الدول العربية المحورية في المنطقة، القلقة من توسع النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط برمتها مقابل انحسار الحليف الأميركي، السعي لاعتماد سياسات ذات بعد نظر استراتيجي، تهدف الى أن يتمّ استبدال تركيا كدولة سنيّة مركزية، بدولة سنيّة عربية، والمؤهل لهذا الدور في هذه الفترة بالذات هما دولتان: مصر أو السعودية.
إن قيام مصر، أو السعودية، بفرض نفسها دولة محورية كبديل عن تركيا، يفترض بهما فهم التشعبات الاقليمية والدولية المستجدة جيدًا، والقبول بالدور الاقليمي الايراني الذي يبدو أن هناك إجماعًا دوليًا على التسليم بدورها الاقليمي، والقبول بايران نووية، ضامنة للاستقرار في الشرق الاوسط.
لكن، تبدو تركيا اليوم، أضعف من ذي قبل بسقوط الحلم الامبراطوري الاخواني، ويعاني حزب العدالة والتنمية من تصدع جبهته الداخلية بتصارع أجنحة قد تقلب المشهد التركي في الانتخابات المقبلة، والمنطقة قد تكون مقبلة على ربيع كردي، سيكون تأثيره على تركيا أكبر مما كان تأثيره على العراق وسوريا.
في المقابل، إن الأزمة الاقتصادية الكبرى التي تعيشها مصر، والأزمات السياسية والاجتماعية تجعلها غير قادرة في المدى المنظور على لعب هذا الدور المحوري في المنطقة كدولة عربية سنيّة بديلة لتركيا في ثلاثية "ايران- اسرائيل- تركيا". أما المملكة العربية السعودية،  فإن انغلاقها، وحكمها التقليدي المحافظ واستمرارها بلعب دور "يبدو" تخريبيًا للتفاهمات التي تعقد في المنطقة، مقابل انفتاح تركي وحركة دبلوماسية تركية نشطة تعيد التواصل مع اسرائيل وايران والقبول بالحلول السياسية، يجعل التركي طرفًا أكثر مقبولية، ويزيد من إمكانية حصول ربيع خليجي يطيح بالنفوذ السعودي المهيمن في منطقة الخليج.
وهكذا إذًا، تبدو المنطقة على أبواب تحوّل استراتيجي تاريخي، سيعيد رسم مشهد المنطقة بأكملها، الأرجح أن يكون مشابهًا للفترة التي أعقبت انحسار نفوذ الاوروبيين في المنطقة لصالح الأميركيين في منتصف القرن العشرين خلال الحرب الباردة، أو للفترة التي أعقبت الحرب العالمية الاولى، حينما تقاسم البريطانيين والفرنسيين السيطرة على الشرق الأوسط، مقسمّين الدول بحسب مناطق النفوذ بينهما. وفي خضّم هذه التحولات الكبرى، تبدو الدول العربية قاصرة عن مواكبة هذا التحوّل، لعجز أو لقصر نظر، مما سيجعل مراكز النفوذ المتحكمة بالمنطقة العربية، غير عربية.

2013/11/13

أميركا وايران... اللعب على المكشوف

د. ليلى نقولا الرحباني
تنتشر أجواء التفاؤل في العالم والمنطقة باحتمال قرب التوصل الى تسوية شاملة في منطقة الشرق الأوسط، وهو تفاؤل مشروع بعد وصول الرئيس روحاني الى سدة الرئاسة في ايران، ووجود باراك اوباما وفلاديمير بوتين على رأس السلطة في كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية.
وبالرغم من أجواء التفاؤل المفرطة التي عاد وبددها ما حصل في الاجتماع الأخير الذي حصل في جنيف بين الدول الست وايران، إلا أن ما يظهر من السياسات الخارجية  لكل من الولايات المتحدة الأميركية وايران، يظهر قدرة احترافية للطرفين في لعبة الشطرنج، التي تحتاج هدوء أعصاب وتكتيكات لا يبدو أنها تنقص أحد منهما. وهكذا نجد في لعبة الشطرنج المشتركة تلك ما يلي:
- توزيع أدوار غربي واضح بشكل لا لبس فيه، وقد اضطرت الولايات المتحدة الأميركية الى تبرير ما حصل في الاجتماع من عرقلة فرنسية مدروسة بالقول أن المواقف الغربية كانت منسقة، وذلك في ظل اتهام للفرنسيين بعرقلة اتفاق تاريخي انتظره العالم لعقود. ونفت باريس تفرّد وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس في طلبه خلال محادثات جنيف، إدخال التخصيب بنسبة 20 في المئة ومفاعل آراك الذي سيصنّع بلوتونيوم، في الاتفاق المرحلي المقترح، وأكدّت إن فابيوس كان قد نال موافقة تامّة من كيري قبل هذا الطرح.
- تذرّع الطرفين الأميركي والايراني بالمتطرفين والمتشددين على يمينه لحصد مزيد من المكاسب من الطرف الآخر. فمن ناحية الولايات المتحدة والغرب، يقوم الأميركيون بالانفتاح على ايران واطلاق التصريحات المتفائلة حول الدور الايراني الايجابي وإمكانية التوصل الى تسوية، وفي الوقت نفسه يهدد بعض أعضاء الكونغرس الأميركيين بالتصويت على تشديد العقوبات على ايران، ويقوم الاسرائيلي بالتهديد بالذهاب الى خيار الضربة العسكرية ضد ايران، علمًا أن الأميركي، لا يمكن أن يقدم على أي خطوة دبلوماسية أو عسكرية أو سياسية، في منطقة الشرق الأوسط بدون الأخذ بعين الاعتبار العامل الاسرائيلي ومصلحة وأمن اسرائيل مسبقًا وقبل أي اعتبار. وما هذا التباين بين التصريحات، إلا نوعًا من ذرّ الرماد في العيون، وتوزيع أدوار لكسب المزيد من التنازلات من الطرف الايراني.
وفي مقابل ذلك، يلعب الايراني اللعبة نفسها ويتقنها كما يتقنها الأميركيون تمامًا، ففي خضّم الحديث عن قرب التوصل الى اتفاق في جنيف، قام المرشد الاعلى علي خامنئي بدعم المفاوضين الايرانيين ولكنّه عبّر - مسبقًا- عن عدم تفاؤله بنتائج المفاوضات معتبرًا  أنه لا يمكن "الوثوق في عدو يبتسم، فالأمريكيون من ناحية يبتسمون ويعبرون عن رغبة في التفاوض ومن ناحية أخرى سرعان ما يقولون ان كل الخيارات مطروحة". وفي الوقت الذي كانت السلطات الايرانية تحاول مدّ جسور التواصل مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب، وتحاول القيام بمبادرات ايجابية لبناء الثقة والظهور بمظهر المستعد للحوار والانفتاح ولعب دور ايجابي والاسهام بالحلول في المنطقة، كانت الاحتفالات تعمّ طهران بمناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين لعملية احتجاز الرهائن في السفارة الاميركية في طهران مع استمرار التمسك بشعار الموت لاميركا، وتأكيد نحو 200 من نواب البرلمان ال290 في بيان مشاركتهم في التظاهرة السنوية التي تقام أمام مبنى السفارة  الأميركية السابقة والهتاف الموت لاميركا. كما أكد الحرس الثوري ان شعار الموت لاميركا هو رمز مقاومة وتصميم الأمة الايرانية أمام هيمنة الولايات المتحدة، الأمّة المستكبرة غير الجديرة بالثقة.
أما في المنطقة، فتقوم السياسة الخارجية الايرانية - وكما الأميركية- على خطين: السير نحو خيار الذهاب الة جنيف 2، والانفتاح نحو تركيا وبعض الدول الخليجية، سواء من قبل الايرانيين أو من قبل حلفائهم العراقيين، في مقابل الثبات على الموقف ودعم النظام السوري وعدم التخلي عن بشار الأسد، ومساعدته ماليًا ولوجستيًا وتقنيًا. وهو ما يفعله الأميركيون تمامًا بتسويق التزامهم بخيار التسوية التي اتفقوا عليها مع الروس وبضرورة الذهاب الى حل سلمي في جنيف 2، وفي المقابل يستمرون بدعم المعارضة المسلحة، وتوكيل حلفائهم السعوديين بإطالة عمر الأزمة ومحاولة تغيير موازين القوى على الأرض لكسب المزيد من التنازلات من الطرف الآخر.
إذًا، هي سياسة "المصافحة باليد اليمنى، والمسدس باليد اليسرى" يتقنها جيدًا الفريقان اللاعبان على الساحة الشرق أوسطية، وبات اللعب مكشوفًا جدًا، وتبقى الشعوب الفقيرة في العالم العربي، رهينة لعب الكبار في مصيرها، وبانتظار انتهاء اللعبة بيأس أحد الطرفين أو القبول بما تحقق من التسوية، اقتناعًا من الطرفين بأنه لم يمكن بالامكان أحسن مما كان.

2013/11/10

حلفاء أميركا الخليجيين وأوهام السفينة الغارقة

د. ليلى نقولا الرحباني
        يحاول العديد من المحللين أو السياسيين العرب المعروفين بولائهم للولايات المتحدة الأميركية، أن يخففوا من تداعيات ما يحصل مع الجانب الايراني في المفاوضات حول ملفها النووي، وحول أهمية الانفتاح الغربي - الأميركي على  القيادة الايرانية، أملاً بالاحتفاظ بمعنويات جمهورهم العالية، وخشية من أن يؤدي القلق من انجاز التسوية على حسابهم الى تداعيات دراماتيكية على حلفائهم الذين قد يهرولون للابتعاد عن المحور الخاسر، أو للحفاظ على جمهورهم الداعم.
       
ولهذه الأسباب، يقوم هؤلاء بترويج أفكار أو ما يقولون أنها "معلومات" حول سياسة جديدة للرئيس الايراني حسن روحاني والتي تتباين مع سياسة وتوجهات القائد "الخامنئي"، وبأنه  - ومن أجل إنقاذ الجمهورية من التدهور الاقتصادي، ومن أجل إراجة الجمهور الايراني في الداخل- مستعد للتخلي عن ملفات رئيسية في المنطقة، والتخلي عن الحلفاء مقابل تخفيف العقوبات الغربية عن بلاده، ومن هؤلاء : حزب الله في لبنان، والرئيس السوري بشار الأسد. ويشير هؤلاء كإثبات الى كلام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف حين قال ان طهران قد تستخدم نفوذها لتشجيع المقاتلين الأجانب في سورية على الانسحاب منها.
       
الحقيقة، إن من يشير الى هذه المواقف، أو يتكل على تلك الأقوال، يبدو إما أنه يحاول أن يسوّق بروباغندا معاكسة لتعميق الخلاف بين الحلفاء وتشجيع عدم الثقة بين بعضهم البعض، أو أنه لا يفهم التفاعلات الاقليمية في الشرق الأوسط وايران بصورة جدية. وفي الحالتين، يبدو القائل تافهًا وخارجًا عن منطق الأمور، للأسباب التالية:

أولاً: إن ما يقال أنه سياسة خارجية وداخلية لروحاني، تتباين مع نهج المرشد، تؤكد أن قائله لا يدرك أن "الولي الفقيه" في ايران هو الذي يحدد السياسات الاستراتيجية وبيده كل الامور الجوهرية والمفصلية، وما رئيس الجمهورية  الاسلامية الايرانية ووزرائه وطاقم إدارته، إلا منفّذين للخطوط الاستراتيجية التي يرسمها المرشد. من هنا، فإن أي رهان على خروج روحاني بسياسة استقلالية عن الخامنئي إلا ضربًا من الخيال، او الانفصال عن الواقع.

ثانيًا، يدرك الايرانيون جيدًا - ومعهم الروس وحزب الله - أن ما عليهم إلا ممارسة قليلاً من الصبر الاضافي، لتنضج التسوية التي ستعترف بانتصارهم في سوريا، فلماذا يقدم الايرانيون تنازلات أو يتخلون عن ورقة رابحة في سوريا، ومقابل ماذا؟ إن الحديث عن التخلي الايراني عن بشار الأسد، يظهر وكأن السياسة الايرانية هي سياسة "جمعيات خيرية"، تضحي من أجل مصلحة الآخرين... وهذا تفكير تافه بالنسبة لأي دولة في العالم، فكيف بايران التي تتقبل التعازي اليوم بممثل الإمام السيد علي الخامنئي ورئيس الشورى المركزية للجنة إمداد الإمام الخميني ، وقد سقط الاسبوع المنصرم في دمشق.
لقد دفع الايرانيون الاموال، والرجال وساهموا مساهمة حقيقية وفعلية في صمود النظام السوري، والتخلي عنها بهذه السهولة يعدّ نوعًا من المقامرة، وهو ما لا يمكن أن يفعله الايرانيون لا في سياساتهم الداخلية ولا الخارجية على حد سواء.

ثالثًا: إن الإدّعاء بأن الايرانيين سيتخلون عن حزب الله، من أجل مصالحهم الخاصة، والقول ان الدعم الذي حصل عليه الحزب كان من قبل الجناح الراديكالي في ايران، تدحضه النظرة الى تاريخ العلاقات الايرانية مع حزب الله، فقد يكون الدعم الأكبر الذي حظي به الحزب على الاطلاق، هو في فترة الرئيس خاتمي الاصلاحي. هذا بالاضافة الى أنه فقهيًا، وشرعيًا ودينيًا، لا يمكن لايران أن تتخلى عن حليفها الشيعي، فكيف وهو يتمتع بهذه القوة الكبرى التي تجعله يدعم نفوذها الاقليمي في المنطقة، ويعطيها توازنًا استراتيجيًا مقابل القوة الاسرائيلية المدعومة من الغرب؟

لكل هذه الأسباب وغيرها، بدءًا باعتراف العالم بدورها الاقليمي، والسعي الحثيث للانفتاح عليها، ومحاولة استرضائها، لا يعدو كل هذا الكلام الذي يسوّقه بعض العرب وخاصة الخليجيين منهم، كونه كلامًا للاستهلاك الداخلي، أو للتعمية عن الخسارة الحاصلة في محور حلفاء أميركا، أو حملة استباقية لعدم انفراط دراماتيكي سريع لمن يتبعون هذا الحلف، بتطمينهم لمنعهم من الهرولة الى الحلف المقابل، أملاً في تخليص أنفسهم من السفينة الغارقة قبل فوات الأوان.


2013/11/07

مسيحيو المشرق.... زوال الخطر الداهم

د. ليلى نقولا الرحباني
الثبات
توالت المؤتمرات التي تعالج الهواجس المسيحية والتي تبحث في قضايا الوجود المسيحي في هذا الشرق، ودوره الأخطار المحدقة التي تتهدده بعد بروز الحركات التكفيرية والتيارات الأصولية التي تمارس القتل والتنكيل والفظائع بالمسيحيين والمسلمين على حد سواء.
وقد تكون هذه المؤتمرات المسيحية أتت متأخرة نوعًا ما، بالرغم من أن الحركة المسيحية الداعية الى تثبيت المسيحيين في أرضهم، وحثّهم على عدم الهجرة الى الغرب، كانت قد بدأت منذ سنوات خاصة في عام 2008، بنشوء جمعية "مركزية مسيحيي المشرق" التي حددت ضمن أهدافها العمل على تجذّر المسيحيين في أرضهم وقراهم ومحاولة تأمين عيش كريم ولائق لهم، يحفظ لهم كرامتهم ووجودهم، وحددت عملها في دول المشرق المسيحي المهدد في دول ست هي مصر، لبنان، سوريا، العراق، الاردن، فلسطين.
ونقول بأن هذه الحركة المسيحية قد أتت متأخرة، ليس لأننا نعتقد أنه فات الأوان بالنسبة للمسيحيين وبات تهجيرهم أمرًا مفروغًا منه، أو قدرًا لا يمكن ردّه، بل لأن التطورات الحاصلة في المنطقة قد تخطت ذاك الخطر الداهم، وما كان يُحاك للمسيحيين في المشرق، أسقطته التطورات المتسارعة التي أطاحت بمعدّي مشاريع الاقتلاع والتهجير، ونستذكر فيها ما يلي:
- تزايد الخطر على المسيحيين المشرقيين بشكل كبير، بعد دخول الأميركيين الى المنطقة واحتلالهم العراق عام 2003، وقد تبين من التطورات العراقية خلال سنوات عشر أن تهجير المسيحيين لم يكن عَرَضيًا، بل كان سياسة منهجية مدروسة ومخطط لها، وشارك فيها الكثير من المسلمين والمسيحيين في العراق والمنطقة، ومنها بعض الجمعيات اللبنانية المعروفة.
- إن تعبير "الفوضى الخلاّقة" الذي أطلقه الأميركيون، عنى في ما عناه، تقاتل اسلامي اسلامي؛ أي تقاتل سنّي - شيعي، سنّي - سنّي، سنّي - علوي الخ.. وفي معركة داحس والغبراء الاسلامية، كان لا بد أن يقتلع المسيحيون لتخلو مناطق التماس المباشرة بين هذه المذاهب لكي يأخذ الاقتتال مداه، ويتوسع وتتعمّق الخلافات الاسلامية الاسلامية، بالدم والحديد والنار.
- وبعد التطورات التي حصلت في العالم العربي، وسعي الغرب الى التحالف مع المشروع الأخواني الذي حاول أن يعيد عهد الخلافة العثمانية الى سابق عهدها، والممارسة العملية التي أظهرت حجم الخطر المتأتي من هذا المشروع المدعوم أميركيًا، والذي ظهر في سياسات إقصاء وإلغاء تامّ لكل مخالف للرأي، أو مختلف مذهبيًا ودينيًا. حينها، كان الخطر على المسيحيين على أشدّه، فقد اعتبر الغربيون أنه بامكانهم ايجاد وكيل جديد يؤمن لهم مصالحهم في المنطقة ويحفظ أمن اسرائيل، وما الوجود المسيحي المشرقي المهدد من جماعات لا تؤمن بحق الاختلاف سوى "خسائر وأضرار جانبية" في معركة الغرب ضد الشرق، ويجب أن يقدم المسيحيون قرابين على مذبح المصالح الغربية والاوروبية، التي وعدت بأن تستقبل المسيحيين الهاربين من الاضطهاد كلاجئين في أرضها، وهكذا كان أمام المسيحيين - فيما لو نجح المشروع- الاختيار بين صفتين "أهل ذمّة في أرضهم أو لاجئين في الغرب".
- وما أن سقط المشروع الأخواني على صخرة صمود الحلف المقاوم الداعم لسوريا، ثم أسقاطه في الميدان السوري عبر هزيمته بالضربة القاضية في القصير، واستكمال المصريين القضاء عليه في ساحاتهم وشوارعهم، حتى استبدل الغربيون المشروع الأخواني للهيمنة على المشرق بالمشروع الوهابي الذي لم يعمّر طويلاً، فسقط بعد شهرين في الميدان السوري أيضًا، ولم تنفع محاولاته استجداء التدخل العسكري الأميركي بضربة عسكرية مباشرة لنظام الأسد لتعويمه.
- وهكذا، وبعد هذه التطورات الميدانية والسياسية  التي تسارعت في وقت قياسي، يمكن القول أن مصير المسيحيين لم يعد مهددًا كما كان في السابق، بل إن سقوط المشروع الغربي في المنطقة بعناوينه الثلاث" الفوضى والأخواني والوهابي"، وتسليم الأميركيين بتراجع نفوذهم في الشرق، وتقاسمه مع الروس، يجعل من الخطر الداهم الذي كان على المسيحيين معالجته، أقلّ من ذي قبل.
وتأسيسًا على ما سبق، وبما أن جبهات مشاريع الاقتلاع باتت تعاني انهيارًا دراماتيكيًا في صفوفها، بات على المسيحيين المشرقيين تغيير استراتيجيتهم وكيفية التعبير عن مطالبهم، فالخوف والقلق والخطر المحدق بهم، لم يعد يمسّهم وحدهم بل إن المسيحيين والمسلمين في هذا المشرق، على حد سواء باتوا أمام خطر أصولي تكفيري يتغلغل في مجتمعاتهم ويهدد أمنهم وحريتهم وكرامتهم، فإما أن يواجهوه معًا أو أن يسقطوا معًا.