د. ليلى نقولا الرحباني
كان التقارب الأميركي الإيراني، أو ما ظهر بأنه كسر للجليد بين الطرفين، أمراً مقلقاً لكل من الخليجيين و"الإسرائيليين" على حد سواء، بالرغم من أن كلام أوباما فيما بعد وخلال لقائه نتنياهو، والتصرفات الإيرانية الحذرة في نيويورك، تشير إلى أن كسر الجليد الذي حصل ما زال يحتاج إلى كثير من الجهود الدبلوماسية قبل أن يتحوّل إلى تسوية ناضجة يمكن أن يعوَّل عليها للبدء بمسيرة الحلول المستعصية في المنطقة ككل.
من الواضح أن الاستياء "الإسرائيلي" من الكلام الدبلوماسي الإيراني المنمَّق والمفعَم بلهجة الانفتاح على الغرب، هو الذي جعل نبرة نتنياهو أعلى من ذي قبل، في ظل توجه واضح وحازم لإدارة أوباما بالتفاوض مع إيران، وحلّ الخلافات المزمنة بالطريقة الدبلوماسية، خصوصاً أن استطلاعات الرأي الأميركية - وآخرها استطلاع نشرته محطة "سي أن أن" الأميركية - أظهرت أن ثلاثة من كل أربعة أميركيين يؤيدون المفاوضات والتوصُّل إلى حل دبلوماسي مع إيران، بالإضافة إلى أن الأزمة الاقتصادية الأميركية المستجدة لا تسمح بالمغامرات التي يريدها نتنياهو، كما قد يكون "الإسرائيليون" قد استشعروا الخطر حين ظهر أن الرئيس باراك أوباما قد قدّم لإيران - في خطابه في الأمم المتحدة - ما لم تحلم به، وما كانت تصرّ عليه منذ سنوات، وهو الاعتراف بشرعية نظامها والتعهد العلني بعدم تغييره، ثم الاعتراف بدور إيران الإقليمي، بالإضافة إلى فتح الباب أمام تخفيف العقوبات الاقتصادية تمهيداً للتفاوض على ملفها النووي.
أما القلق الخليجي، والذي قد يعتبره البعض مشروعاً، فيتأتّى من أن التقارب الإيراني الأميركي سيتيح المجال ليس فقط للحوار حول الملف النووي الإيراني فحسب، بل سيفتح الباب لمسار تفاوضي يطاول عدداً كبيراً من الملفات، تبدأ في أفغانستان، مروراً بالعراق وسورية ولبنان وفلسطين، ولا تنتهي بشبه الجزيرة العربية وملفاتها المتعددة، خصوصاً ملف البحرين واليمن، وقد تكون الهستيريا التي أصابت نظام الحكم في البحرين، مردّها إلى هذا القلق بالذات، والخوف من أن تكون إحدى نتائج التسوية المفترَضة السماح للمعارضة بالمشاركة في الحكم، على حساب السلطة السياسية القائمة حالياً.
وقد يكون من بواعث القلق الخليجي أيضاً، أن أوباما اعترف عملياً بدور إيران وروسيا في التسوية السياسية المحتمَلة في سورية، محدِّداً أسس التسوية بالتفاوض معهما، وبمخاطبتهما دون سواهما من الدول الفاعلة في الأزمة السورية، وبهذا الأمر يكون الرئيس الأميركي قد حيّد الدور الخليجي عن رسم معالم المستقبل السوري، وهو ما يجعل مجموعة الخاسرين تدفع باتجاه تأزيم الأمور ميدانياً في الداخل السوري، ومحاولة تأجيج الصراع السُّني - الشيعي في مناطق أخرى، وافتعال توترات أمنية حيث يجب.. كل ذلك بهدف رسم معادلة أساسية قوامها "كما تمّ التعبير عن الاقتناع بأن أي تسوية محتمَلة في الشرق الأوسط غير ممكنة من دون الجمهورية الإسلامية في إيران، فإنها لن تكون ممكنة أيضاً من دون المملكة العربية السعودية".
من هنا يجب قراءة مشهد الاقتتال والإلغاء بين المجموعات المسلحة في سورية، حيث يبدو أن التقاتل والتصفية قد يكون هدفها إما حجز مقعد للقوى المموِّلة لها على طاولة المفاوضات في "جنيف - 2"، وإما عرقلة التسوية وتأجيلها إلى أن يحصل شيء ما يعيد الأمور أشهراً إلى الوراء، وتدفع الغرب إلى عملية "إعادة تفويض" للوكيل السعودي بالملف السوري، وإلا فإن الوكلاء مستعدون لسنوات طويلة من الاقتتال والعنف، ما دامت القوى الفاعلة لم تأخذ بعين الاعتبار مصالح من كانوا رأس حربة في المشروع الغربي في سورية.
وهكذا، إن ما يمارَس في المنطقة برمتها، وليس في سورية فحسب، هي لعبة "عض أصابع مرعبة"، فقد سقط الرهان على ضربة عسكرية تطيح بالأسد، كما أن الرهان على قرار جديد من مجلس الأمن بسبب عدم الامتثال السوري يبدو غير واقعي، وقد استطاع النظام السوري أن ينتزع اعترافاً دولياً بسيادته وسلطته الفعلية من خلال القرار 2118، ولعل تشديد القرار على مسؤولية السلطة السورية في تطبيق القرار الدولي، يجعل من المستحيل المطالبة برحيل الأسد قبل الانتهاء من تنفيذ الاتفاق الكيميائي، والذي وضع سقفاً زمنياً لتدمير الأسلحة الكيمائية السورية في وقت متزامن مع الانتخابات الرئاسية السورية في العام 2014، وهذا يعني أن أي مطالبة برحيل الأسد قبل هذا الوقت ستبدو ضرباً من الخيال.
إذاً، بقاء الأسد في السلطة لغاية الانتخابات الرئاسية بات أمراً محتّماً، لا بل إن حكومته باتت شريكة فعلية للعالم في التخلص من السلاح الكيميائي، لكن ماذا لو اقتنع الغرب بأن الأسد وحكومته هما شريكان فعليّان في التخلص من الإرهاب التكفيري؟ قد يكون هذا ما يخشاه العرب والأتراك في الواقع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق