2013/10/10

"الإسلاميون الجدد".. وسياسة الانتحار الجماعي

د. ليلى نقولا الرحباني
الثبات      
يوماً بعد يوم تتكشف فصول جديدة من الصراع الدامي في سورية، والذي بات أشبه بعملية انتحار جماعية يقاتل فيها الكل ضد الكل، في حرب قد يكون عُرف مصدر شرارتها، وكيف بدأت، لكن لا يمكن لأحد التكهّن بنهايتها أو بأسس حلّها. ولعل الأزمة السورية الطويلة والصمود الذي حققه نظام الأسد في سورية، والتحالف الدولي القوي الذي لم ينفضّ من حوله على الرغم من كل الظروف، هو ما عاد وقلب الأوراق في عالم عربي انتفض فجأة على حكامه الديكتاتورييين ليحلّ محلهم فوضى عارمة واقتتال وعنف وإرهاب، وليضرب الحلم التركي بإعادة زمن "الخلافة"، وليحطم الحلم السعودي باستعادة زمن الشريف حسين وأحلامه بحكم دولة عربية كبرى.

وهكذا، وفي زمن التغييرات السريعة التي حصلت بوتيرة أسرع مما تخيل الجميع يوماً، يمكن رصد مشهد الانتحار الجماعي، خصوصاً مشهد انتحار "الإسلاميين الجدد" بفروعهم المختلفة:

أ- يقوم "الإخوان المسلمون" في مصر بعملية انتحار غير مسبوقة، فهم تحوّلوا من ممسكين بالسلطة بطريقة تعسفية ديكتاتورية، إلى ممارسة عملية الانتحار الجماعي من خلال ممارسة العنف ضد الجيش المصري، وضد الشعب، وتعكير صفو المناسبات الوطنية الكبرى، في مشهد يشير إلى أن هؤلاء لا يتمتعون بحس وطني ولا قومي، وأن المصالح الضيقة وطمعهم بالسلطة قد أعمى بصيرتهم وبصرهم، وجعلهم يتخطون جميع الخطوط الحمراء.

لقد كشف "الإخوان المسلمون" عن وجه عنفي خطير جداً بعد فقدانهم السلطة، وهم وإن كانوا لم يتورعوا عن استعمال العنف في مرحلة الثورة وما بعدها، إلا أن ما يقومون به اليوم في مصر من قتل وإجرام  يسقط عن تحركاتهم أي ادّعاء بحق مسلوب، أو شرعية حكم أو سواها.

ب- ولعل تخطي الخطوط الحمراء بشكل مقلق، بات سياسة "إخوانية" بامتياز، فها هو حزب "العدالة والتنمية" التركي يندفع إلى تسهيل مرور "القاعدة" وأخواتها للقتال في سورية، في سياسة خطيرة ومميتة يعرف الأتراك قبل غيرهم خطورة نتائجها، فالمشهد العراقي - السوري ما زال ماثلاً للعيان، وتدفع سورية ثمناً هائلاً لوجود "القاعدة" على حدودها، ولعل سياسة الانتحار تتجلى أيضاً في دفن الرؤوس في الرمال، ففي وقت تعلن السلطات التركية عن بناء جدار على الحدود مع سورية بارتفاع مترين، ووضع أسلاك شائكة فوقه لمنع العبور غير القانوني ووقف حركة التهريب، يتمّ تسريب معلومات عن إرسال الجيش التركي طائرات مقاتلة إلى الحدود السورية، بهدف منع القوات الجوية السورية من الاقتراب من المناطق الحدودية بين البلدين، ثم منعها من شن غارات على هذه المناطق، وهي بالمناسبة المناطق التي تتمركز فيها "داعش"، وتحاول السيطرة عليها لإنشاء "دولة القاعدة" على الحدود مع تركيا.

ج- أما الوهابيون الذين هالهم بداية التقارب الأميركي - الإيراني، والابتسامات الموزَّعة في نيويورك، وخشوا من تسوية يدفعون ثمنها، ومن تخلٍّ أميركي عنهم بسبب إخفاقهم في تنفيذ المهمة المكولة إليهم، فاندفعوا إلى تفكيك هياكل المعارضة السورية السياسية والعسكرية، فقضوا على "الجيش الحر" وكفّروه، وعرّوا معارضة الخارج وجرّدوها من إمكانية الادّعاء بتمثيل - ولو محدود - للقوى الشعبية في سورية.

د- وقد يكون من مؤشرات الانتحار الجماعي أيضاً، الانفصال عن الواقع الذي تعيشه الأطراف في سورية، خصوصاً المعارضة منها. لقد كان مؤكداً أن الإدارة الأميركية لا تريد أن تحارب، لا قبل الأزمة المالية الداخلية ولا بعدها، وقد ظهر جلياً من أزمة الكيماوي السوري أن الإدارة الأميركية ستفعل أي شيء لتتجنّب المواجهة العسكرية المباشرة، وهكذا دفعت المعارضة السورية ثمناً للوهم المتمثل بالقدرة على دفع الكبرى لأن تكون أدوات في أيدي دول إقليمية توهمت بأنها تستطيع أن تهدد وتبتز بوتين، وتدفع أوباما إلى تبني خيارها في إسقاط بشار الأسد بالقوة العسكرية.

مقابل كل هذا الانتحار، تحاول إيران الدفع نحو ممارسة سياسة "الانخراط الإيجابي"، فها هي تنتزع من الدول الكبرى إقراراً بدورها الإقليمي، والتعهد بعدم العمل على تغيير نظامها، والاعتراف بحقها في امتلاك التقنية النووية السلمية، وهناك مؤشران هامان يدلان على عمق الأزمة التي تواجهها الدول الإقليمية المواجهة لإيران:

- تبدّل سياسة إدارة أوباما نحو الحلفاء النفطيين التقليديين للولايات المتحدة، فالرئيس الأميركي يتصرف وكأنه توصل إلى استنتاج أنه ليس في حاجة إلى إرضاء الدول النفطية الخليجية.

- رغبة إيرانية بالتوجّه للأصيل، وعدم القيام بمبادرات تؤدي إلى تنازلات للوكيل، فالثمن الذي يعتقد الإيراني أن عليه دفعه ثمناً للتسوية، سيدفّعه للولايات المتحدة الأميركية، وما على الوكيل حينئذ إلا القبول بنتائج التسوية.

النتيجة أنه لا يمكن لسياسات انتحارية أن تصنع مستقبلاً، والسؤال الأخطر: ما الذي يمكن أن يقدم عليه هؤلاء في حال اقتنع الأميركيون بأن إيران قادرة على تحقيق التوازن والاستقرار وتأمين مصالحهم في المنطقة؟

2013/10/06

هل أسقط المتضررون جنيف 2 ؟

د. ليلى نقولا الرحباني

بتزايد نفوذ تنظيم القاعدة بمتفرعاته المتعددة في المناطق التي تسيطر على المعارضة السورية، تكون الامور قد اتجهت الى تعقيد القضية السورية أكثر فأكثر، ودخولها مرحلة جديدة من الاستنزاف الذي يحصد المزيد من الضحايا والخراب وتدمير الدولة السورية ونسيجها الاجتماعي. ولعل سيطرة داعش الميدانية على بعض المناطق السورية، يعطي مؤشرات عدّة على دخول الميدان السوري مرحلة جديدة مختلفة عما سبقها، وتبرز هذه المؤشرات بما يلي:

أولاً- قلق تركي من قرب تشكّل إمارة القاعدة على حدودهم المباشرة. وبالرغم من ان المسؤولين الاتراك لا يصرّحون، وقد تكون العنجهية الاردوغانية ترفض الاعتراف بخطورة ما يحدث لأن في ذلك تداعيات كبيرة على مستقبله ومستقبل حزبه في السياسة التركية المستقبلية وخاصة الانتخابات القادمة. فعليًا، يدرك الأتراك تمامًا صوابية ما قاله الرئيس السوري بشار الأسد؛ من أن تركيا ستدفع غاليًا ثمنًا لدعمها مقاتلي المعارضة السورية المتشددين، وسماحها لمقاتلي القاعدة بالمرور عبر أراضيها لمقاتلة الجيش السوري. وقد يكون الادراك التركي لهذا الواقع، مردّه الى تجربة الحليف الأميركي مع  تنظيم القاعدة،  حيث أن وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون كانت قد اعترفت سابقًا بأن الولايات المتحدة الأميركية هي من اخترعت هذا التنظيم - وبتمويل مادي وبشري مباشر من السعودية- ، لمقاتلة الاتحاد السوفياتي في افغانستان، لكن سرعان ما انقلب عليها وضربها في عقر دارها. ومن هذا الادراك التركي ولو غير المعلن، والقلق من قوة نفوذ تنظيم (داعش) على الحدود التركية السورية، يمكن القول أن تجديد التفويض الذي أعطاه البرلمان التركي للحكومة بإرسال قوات تركية إلى سوريا (إذا لزم الأمر)، وضد أي تهديد واضح، سيؤدي عاجلاً أم آجلاً لتدخل عسكري تركي في سوريا، فقد لا يكون هناك تهديد أوضح من قيام دولة للقاعدة على الحدود التركية مباشرة مع كل ما يستتبع ذلك من خطر على الأمن القومي التركي.

ثانيًا- نزع الشرعية عن الجيش الحر، وقد تكون هذه الضربة المباشرة التي سددها الخليجيون للغرب بعدما ظهرت بوادر الانفتاح الغربي الايراني، والحديث الأميركي عن تسوية في سوريا يحبكها الروسي والايراني ويدخل الاميركي طرفًأ فيها. وهكذا أظهر المتضررون من التسوية أن لا شيء أسمه "معارضة معتدلة" وأن الجيش السوري الحر الذي عوّل عليه الغرب، للدخول في تسوية تؤدي الى انتقال السلطة، ما هو في الحقيقة إلا واجهة أو ستار يتستر خلفه أكثر المقاتلين تطرفًا وراديكالية. يومًا بعد يوم، سيجد الأميركيون أن التسوية المفترض بروزها في عقد مؤتمر جنيف 2، باتت أبعد من ذي قبل بعد سيطرة القاعدة وانفراط ما سمي يومًا (الجيش السوري الحر). وبسقوط ورقة التوت عن الجيش السوري الحر، وباعلان الفصائل المسلحة عدم اعترافها بالائتلاف السوري المعارض ورئيس حكومته المعيّن، يكون الغرب الآن أمام مأزق، قد يدفعه الى تأجيل جنيف 2.

وهكذا، استطاعت الدول الاقليمية الممولة للجماعات المسلحة أن تعقّد الأمور وتجعل من التسوية السورية المتصورة في جنيف 2، تبدو بعيدة المنال أو غير واقعية أقلّه في المرحلة الراهنة. ولكن المسار الموازي الذي اتخذه الغرب وهو العمل على تسوية اقليمية شاملة مع القوة الاقليمية الكبرى أي الجمهورية الاسلامية في ايران، قد يجعل من التسوية تأخذ أشكالاً أخرى غير جنيف 2، فعندما يحلّ الاميركيون الأمور العالقة بينهم وبين ايران ويتفقون على متطلبات الانخراط الايجابي الايراني في المنطقة، الذي يحفظ الاستقرار ويؤمن للاطراف الكبرى مصالحها ويحفظ التوازنات بينها، ستحلّ المشاكل الاقليمية العالقة دفعة واحدة، وسيجد الخليجيون أنفسهم قد خسروا "الوكالة" الغربية، وقد تستعيد المنطقة المفردات الغربية الشهيرة - التي لطالما سمعها اللبنانيون في التسعينيات- بأن النظام السوري هو عامل استقرار في المنطقة.
د. ليلى نقولا الرحباني
 

2013/10/03

العلاقات الإيرانية – الأميركية ... استياء "إسرائيلي" وقلق خليجي

د. ليلى نقولا الرحباني
كان التقارب الأميركي الإيراني، أو ما ظهر بأنه كسر للجليد بين الطرفين، أمراً مقلقاً لكل من الخليجيين و"الإسرائيليين" على حد سواء، بالرغم من أن كلام أوباما فيما بعد وخلال لقائه نتنياهو، والتصرفات الإيرانية الحذرة في نيويورك، تشير إلى أن كسر الجليد الذي حصل ما زال يحتاج إلى كثير من الجهود الدبلوماسية قبل أن يتحوّل إلى تسوية ناضجة يمكن أن يعوَّل عليها للبدء بمسيرة الحلول المستعصية في المنطقة ككل.

من الواضح أن الاستياء "الإسرائيلي" من الكلام الدبلوماسي الإيراني المنمَّق والمفعَم بلهجة الانفتاح على الغرب، هو الذي جعل نبرة نتنياهو أعلى من ذي قبل، في ظل توجه واضح وحازم لإدارة أوباما بالتفاوض مع إيران، وحلّ الخلافات المزمنة بالطريقة الدبلوماسية، خصوصاً أن استطلاعات الرأي الأميركية - وآخرها استطلاع نشرته محطة "سي أن أن" الأميركية - أظهرت أن ثلاثة من كل أربعة أميركيين يؤيدون المفاوضات والتوصُّل إلى حل دبلوماسي مع إيران، بالإضافة إلى أن الأزمة الاقتصادية الأميركية المستجدة لا تسمح بالمغامرات التي يريدها نتنياهو، كما قد يكون "الإسرائيليون" قد استشعروا الخطر حين ظهر أن الرئيس باراك أوباما قد قدّم لإيران - في خطابه في الأمم المتحدة - ما لم تحلم به، وما كانت تصرّ عليه منذ سنوات، وهو الاعتراف بشرعية نظامها والتعهد العلني بعدم تغييره، ثم الاعتراف بدور إيران الإقليمي، بالإضافة إلى فتح الباب أمام تخفيف العقوبات الاقتصادية تمهيداً للتفاوض على ملفها النووي.

أما القلق الخليجي، والذي قد يعتبره البعض مشروعاً، فيتأتّى من أن التقارب الإيراني الأميركي سيتيح المجال ليس فقط للحوار حول الملف النووي الإيراني فحسب، بل سيفتح الباب لمسار تفاوضي يطاول عدداً كبيراً من الملفات، تبدأ في أفغانستان، مروراً بالعراق وسورية ولبنان وفلسطين، ولا تنتهي بشبه الجزيرة العربية وملفاتها المتعددة، خصوصاً ملف البحرين واليمن، وقد تكون الهستيريا التي أصابت نظام الحكم في البحرين، مردّها إلى هذا القلق بالذات، والخوف من أن تكون إحدى نتائج التسوية المفترَضة السماح للمعارضة بالمشاركة في الحكم، على حساب السلطة السياسية القائمة حالياً.

وقد يكون من بواعث القلق الخليجي أيضاً، أن أوباما اعترف عملياً بدور إيران وروسيا في التسوية السياسية المحتمَلة في سورية، محدِّداً أسس التسوية بالتفاوض معهما، وبمخاطبتهما دون سواهما من الدول الفاعلة في الأزمة السورية، وبهذا الأمر يكون الرئيس الأميركي قد حيّد الدور الخليجي عن رسم معالم المستقبل السوري، وهو ما يجعل مجموعة الخاسرين تدفع باتجاه تأزيم الأمور ميدانياً في الداخل السوري، ومحاولة تأجيج الصراع السُّني - الشيعي في مناطق أخرى، وافتعال توترات أمنية حيث يجب.. كل ذلك بهدف رسم معادلة أساسية قوامها "كما تمّ التعبير عن الاقتناع بأن أي تسوية محتمَلة في الشرق الأوسط غير ممكنة من دون الجمهورية الإسلامية في إيران، فإنها لن تكون ممكنة أيضاً من دون المملكة العربية السعودية".

من هنا يجب قراءة مشهد الاقتتال والإلغاء بين المجموعات المسلحة في سورية، حيث يبدو أن التقاتل والتصفية قد يكون هدفها إما حجز مقعد للقوى المموِّلة لها على طاولة المفاوضات في "جنيف - 2"، وإما عرقلة التسوية وتأجيلها إلى أن يحصل شيء ما يعيد الأمور أشهراً إلى الوراء، وتدفع الغرب إلى عملية "إعادة تفويض" للوكيل السعودي بالملف السوري، وإلا فإن الوكلاء مستعدون لسنوات طويلة من الاقتتال والعنف، ما دامت القوى الفاعلة لم تأخذ بعين الاعتبار مصالح من كانوا رأس حربة في المشروع الغربي في سورية.

وهكذا، إن ما يمارَس في المنطقة برمتها، وليس في سورية فحسب، هي لعبة "عض أصابع مرعبة"، فقد سقط الرهان على ضربة عسكرية تطيح بالأسد، كما أن الرهان على قرار جديد من مجلس الأمن بسبب عدم الامتثال السوري يبدو غير واقعي، وقد استطاع النظام السوري أن ينتزع اعترافاً دولياً بسيادته وسلطته الفعلية من خلال القرار 2118، ولعل تشديد القرار على مسؤولية السلطة السورية في تطبيق القرار الدولي، يجعل من المستحيل المطالبة برحيل الأسد قبل الانتهاء من تنفيذ الاتفاق الكيميائي، والذي وضع سقفاً زمنياً لتدمير الأسلحة الكيمائية السورية في وقت متزامن مع الانتخابات الرئاسية السورية في العام 2014، وهذا يعني أن أي مطالبة برحيل الأسد قبل هذا الوقت ستبدو ضرباً من الخيال.

إذاً، بقاء الأسد في السلطة لغاية الانتخابات الرئاسية بات أمراً محتّماً، لا بل إن حكومته باتت شريكة فعلية للعالم في التخلص من السلاح الكيميائي، لكن ماذا لو اقتنع الغرب بأن الأسد وحكومته هما شريكان فعليّان في التخلص من الإرهاب التكفيري؟ قد يكون هذا ما يخشاه العرب والأتراك في الواقع.