د. ليلى نقولا الرحباني
الثبات
ناقض وزير الخارجية الأميركي جون كيري ما كان قد أعلنه الرئيس باراك أوباما في خطابه في الأمم المتحدة، من أن الشعب السوري يقرر مصيره بنفسه، حين هدد بأن إعادة انتخاب بشار الأسد لرئاسة الجمهورية العربية السورية سيمدد أجل الحرب، مع العلم أن إعادة الانتخاب - إن حصلت بشفافية وبمراقبة دولية - ستشير إلى أن الشعب السوري قد اختار من يريده، وما على الدول العالم التي تدّعي الديمقراطية سوى أن تحترم خيار الشعب السوري وحقّه في تقرير مصيره، واختيار نظام الحكم الذي يناسبه.
يتضح من التصريحات الأميركية ومما يتمّ تسريبه حول اجتماعات "أصدقاء المعارضة السورية"، أن الأميركيين لا يحملون طلباً عاجلاً ومُلحاً للمعارضين السوريين الذين يدورون في فلكهم لدفعهم إلى طاولة المفاوضات في "جنيف-2"، وما زال كيري يطمح إلى أن يكون "الائتلاف السوري" - أو ما يسميه "المعارضة المعتدلة" - هو المظلة لأي معارضة تضطلع بمهمة محاورة النظام والوصول إلى تسوية معه، بينما يصرّ الرئيس السوري بشار الأسد على جعل "المعارضة الداخلية الوطنية غير المرتبطة بالخارج" هي المحاور للسلطة حصراً.
الاختلاف على الطرف المفاوض للسلطة لا يبدو تفصيلاً في مسار التسوية المتصورة في سورية، فالأميركيون لا يمكن أن يقبلوا إلا بطرف محسوب عليهم مئة بالمئة، ولا يمكن لأي سلطة انتقالية أن تحظى بثقتهم ما لم تكن قد قطعت تعهدات مسبقة لهم، خصوصاً في ظل الإدراك الأميركي أن تكرار سيناريو العراق في سورية يبدو محتمَلاً إلى حد بعيد، لاسيما مع تزايد نفوذ "القاعدة" واحتمال خروجه عن السيطرة، والوصول إلى واقع تتحقق فيه لـ"القاعدة" دولة تهدد الشرق الأوسط برمّته، وقد ينتقل مداها إلى الجوار الأوروبي.
ولعل الهستيريا التي اجتاحت المملكة العربية السعودية بعد التراجع عن الضربة العسكرية والإعلان عن ضرورة الوصول إلى تسوية سلمية، وسياسة الحَرَد التي استخدمتها في الأمم المتحدة، هي التي تدفع الأميركيين إلى التريّث قليلاً في إعلان الخطط التي أعدّوها للمرحلة الانتقالية، أو لما بعد مؤتمر جنيف، علماً أن الجميع يدرك أن انعقاد "جنيف-2" دونه عقبات كبرى، وإنّ مجرد انعقاده لا يعني انتهاء التسوية والوصول إلى حل الأزمة السورية المتشابكة والمعقّدة، والتي تتداخل فيها العوامل الإقليمية والدولية، والعوامل الراديكالية الأصولية، والتي تجعل من الصعب عودة سورية إلى ما كانت عليه بـ"كبسة زر"، أو بمجرد مؤتمر دولي.
واستطراداً، يمكن القول إن أي تسوية أو أي لقاء في جنيف أو غيرها، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار المحطات التالية:
- وقف العنف، وعمليات نزع السلاح وإعادة إدماج المقاتلين، ودون هذه العملية صعوبات هائلة ترتبط بوجود "القاعدة"، وبمقاتلين من دول أجنبية وعربية لا تريد دولهم استعادتهم بالتأكيد، كما ترتبط بمصالح الدول التي تموّل هؤلاء، ومدى استعدادها لوقف الدعم والتمويل، إن لم تحصل على حصتها من التسوية المقبلة.
- عودة اللاجئين، والبدء بمسيرة الإعمار وتنمية المناطق، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وهذه تتطلب جهوداً دولية، وأموالاً طائلة، ودونها أيضاً تعقيدات ترتبط بمسار التسوية المحتمَلة بين الأطراف الدوليين، وكيفية تقسيم عقود إعادة الإعمار، ومَن يحصل على ماذا.
- البدء بعمليات الإصلاح السياسي، والسير بخيار "دمقرطة" المؤسسات، والذهاب إلى انتخابات رئاسية شفافة ونزيهة، تعكس فعلياً خيارات الشعب السوري وتفضيلاته، وتعطيه الحرية في تقرير مصيره بنفسه، ودون هذه أيضاً صعوبات هامة وأساسية، ويبدو أنها تفترض التقدّم في المرحلتين السابقتين مسبقاً، فكيف يمكن الوصول إلى هذه الخطوة بدون فرض الأمن والاستقرار، وفي ظل خروج مناطق عديدة عن سيطرة الدولة؟ وكيف يمكن التأكد من عدم ممارسة الضغط على الناخبين في ظل انتشار السلاح في أيدي المواطنين في معظم المناطق السورية؟ وكيف يمكن التأكد من صحة التمثيل وعدالته في ظل وجود الملايين من السوريين خارج البلاد؟
في المحصلة، يبدو أن التسوية المرتقَبة، ولو كان بشائرها تلوح في الأفق، إلا أنها ما زالت بعيدة المنال، ولا شكّ أن ما قاله الرئيس بشار الأسد في مقابلته الأخيرة يعكس ثقة بالنفس لن تدفعه إلى تقديم تنازلات لفئة معارضة كل ما تملكه هو بعض العبارات الغربية المشيدة بـ"اعتدالها"، بينما هي في الواقع لا تعكس تمثيلاً على الأرض، لا ميدانياً ولا شعبياً.. وإلى أن تنضج التسوية، يبقى الميدان هو الحكم والفاصل.