وهكذا، انتهت ظاهرة "الأسير"، وتنفّس الصيداويون الصعداء بعودة مدينتهم إلى مدنيّتها، وفي قلوبهم غصّة وحزن على شهداء الجيش اللبناني الذين سقطوا من دون سبب، وفي معركة لم يكن من المفترَض أن تحصل، لولا أن بعض اللبنانيين باتوا أدوات لمشاريع خارجية مشبوهة، جعلت صيدا تدفع من أمنها واستقرارها واقتصادها وحياة أبنائها.
أما السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: ما الذي دفع الأسير للقيام بتخطي الخطوط الحمراء والاعتداء على الجيش اللبناني؟ وما الذي
كان يهدف إلى تحقيقه؟
بداية، لا بد من الإشارة إلى أن ظاهرة الأسير - وغيره من الظواهر التكفيرية - ليست صناعة محلية لبنانية، إنما هي حركة أُسست بعد هزيمة "إسرائيل" في لبنان عام 2006، بتمويل وتسليح خليجي، وارتفعت أسهمها بعد الحراك في سورية، حيث أُعطيت مهمة مواكبة ما يحصل في سورية من معركة لإسقاط النظام السوري والتضييق على حلفائه في لبنان، وعليه، فإن إقدام "الأسير" على إحراق نفسه بهذه الطريقة لا بد أنه أتى بأمر خارجي أيضاً، وليس مجرد جنون رجل أصابه الغرور واعتقد نفسه أكبر من الدولة اللبنانية، كما حاول البعض أن يسوّق.
لا شك أن المراقب لحركة القوى الداعمة للمجموعات المسلحة في سورية، يدرك أن حركة "الأسير" لم تكن خارجاً عن السياق العام الذي يتحرك فيه هؤلاء منذ حرب 2006، فهم يتحركون بطريقة متسقة ومتلازمة مع الضغوط الخارجية على المقاومة، وعلى وقع الميدان السوري المتفجر مؤخراً، فالخسارة الميدانية في جبهات القتال في سورية تشعل جبهة طرابلس، والحاجة إلى إمداد عسكري ولوجستي للمقاتلين في سورية تجعل هؤلاء يحاولون إزاحة أي وجود للدولة اللبنانية في عرسال وعكار، وتسعير الصراع المذهبي ضد "حزب الله"، وإغراق لبنان بخطاب مذهبي لم يشهد له لبنان مثيلاً.
وتأسيساً على ما سبق، يكون من المؤكد أن "الأسير" لم يتصرف إلا بناء على أوامر من الجهات المشغِّلة، حددت له الزمان والمكان والوجهة، وقد أرادت تحقيق ما يلي:
- إحراج "حزب الله" في فتنة مذهبية داخلية، تخفف الضغط عن المجموعات المسلحة في سورية، وتدفعه إلى إعادة النظر في عملية القتال في سورية ككل، ولعل ما أبداه السيد حسن نصر الله من حرص على الوضع والاستقرار اللبنانييْن بدعوته هؤلاء للقتال في سورية وتحييد لبنان، هو ما دفعهم لمحاولة القتال في الداخل اللبناني، تصوّراً منهم أن في هذا إحراجاً للمقاومة وإشغالها.
- الاستعجال بمحاولة اقتطاع منطقة لبنانية تكون قاعدة متقدمة للمجموعات السورية المسلحة و"جبهة النصرة" وحلفائها اللبنانيين، لقطع طريق الجنوب، وللإطباق على "حزب الله" من جبهات عدة، وإشراك المخيمات الفلسطينية في القتال، ودفع "إسرائيل" إلى حرب محدودة للقضاء على المقاومة، بعد أن يسيطروا على صيدا ويطردوا الدولة اللبنانية منها، وهو ما تجلى في وعود الأسير لمناصريه بأن الدعم العسكري قادم وما عليهم إلا الصمود.
- استعجال حمد بن جاسم للخروج بانتصار ما يتوّج به حياته السياسية، ويبقيه ركناً لا يُستغنى عنه في المعركة الدائرة في سورية، وهو ما كان قد وعد به من "إجراءات وتدابير سريّة" اتخذها المجتمعون في الدوحة، من شأنها "أن تغيّر المعادلة على الأرض في سورية"، وهنا أظهر الخليجيون في لبنان، كما في سورية، عدم دراية حقيقية بواقع المجتمعيْن اللبناني والسوري، فالأدوات التكفيرية التي استعملوها، ومنها "الأسير"، هي ظواهر غريبة وشاذّة عن المجتمع اللبناني ككل، وعن المجتمع السُّني اللبناني المعروف بعروبته وانفتاحه وتعايشه مع الآخرين، لذا لا بد له من أن يلفظها، وهو بالفعل ما حصل في صيدا، التي أعطت الغطاء والدعم للجيش اللبناني بسرعة فائقة، فأحرجت السياسيين اللبنانيين ودفعتهم إلى تأمين الغطاء للجيش ولو متأخرين. كما أن هؤلاء، وبمحاولتهم التأليب على الجيش اللبناني، وتكرار سيناريو الانشقاقات المذهبية في سورية، قد أظهروا أنهم قاصرون عن فهم أهمية الجيش اللبناني في الوعي الجماعي اللبناني، فاللبنانيون قد يختلفون على كل شيء إلا على دعم الجيش اللبناني، لذلك نرى الحاقدين على الجيش من أمراء الميليشيات السابقين يمارسون الازدواجية والنفاق في تعاطيهم مع الجيش ودعمه، وذلك خشية من أن يتم نبذهم من قبل مجتمعاتهم إن هم جاهروا بعدائهم له.
وهكذا، ومرة تلو المرة، يدفع اللبنانيون بشكل عام، والسُّنة بشكل خاص، أثمان رهانات الخليجيين ومقامراتهم، واستغلالهم للشباب والتغرير بهم، وما الارتياح الذي انعكس على أبناء عبرا وصيدا بانتهاء ظاهرة "الأسير" إلا شاهد على مجتمع بات يدفع من سمعته وكرامته وأمنه واستقراره أثماناً تفوق ما يدفعه الآخرون من الطوائف الأخرى، أو في المناطق الأخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق