د. ليلى نقولا الرحباني
الثبات الخميس 6 حزيران 2013
في مشهد مثير ولافت، يشاهد العالم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يذوق السم نفسه الذي كان قد ساهم في إذاقته لعدد من القادة العرب، علماً أن الموقف الأكثر سخرية، هو التصريحات الصادرة عن أردوغان باتهام الشباب المنتفض في بلاده بأنهم مجموعة من المتطرفين، وأن بلاده تتعرض لمؤامرة خارجية، وهي المواقف نفسها التي كان مبارك وبن علي والقذافي والرئيس السوري بشار الأسد قد أعلنوها حين كان أردوغان "يُأستذ" عليهم، ويدعوهم إلى الإصغاء إلى مطالب شعبهم والتنحي.
وبغض النظر عن التصريحات الأردوغانية، التي تستعير مفردات المؤامرة والتخوين والتهديد، فإن ما فجّر الاحتجاجات في اسطنبول بالتأكيد ليس صنيع مؤامرة خارجية، بالرغم من أن العديد من الدول الإقليمية والدولية لها مصلحة في تحجيم أردوغان، نذكر منها أهمها:
- بالنسبة إلى الدول العربية: تعاني سورية والعراق بشدّة من التدخل التركي في شؤونهما، والذي أجّج الصراع المذهبي في البلدين، لذا لن يألوَا جهداً للرد بالمثل، أما السعودية فمستاءة جداً من المحاولة التركية - القطرية لإزاحة النفوذ السعودي التاريخي في المنطقة العربية واستبداله بنفوذ "إخواني"، بات يهدد الأنظمة الخليجية في عقر دارها.
- تريد إيران لتركيا أن تغرق في مشاكلها الداخلية، لتخفيف الضغط على حليفتها سورية، ولتعطيل قدرة الأطلسي على تهديدها من خلال القواعد العسكرية المنتشرة في أنحاء تركيا، والتي تشكّل سيفاً مسلطاً على إيران في ملف برنامجها النووي.
- الحلف الأطلسي والأميركيون يريدون أن يعيدوا أردوغان إلى حجمه الطبيعي، بعدما توهّم أنه سلطان عثماني يحكم بلاداً عربية شاسعة؛ يوكّل عليها ولاة يأتمرون بأمره وينشدون طاعته، ويستطيع بالتالي أن يعرقل حلولاً يريدها الأميركيون للأزمة السورية، ويفرض شروطه على حلفائه الذين اكتشفوا أكثر من مرة أنه يحاول جرّهم إلى سياسات تدخلية في سورية لا يريدونها ولا تناسب مصالحهم القومية.
لكن بالرغم من كل ذلك، فالاحتجاجات التي تعمّ تركيا لها أسبابها الداخلية، التي تجعل الاستياء من السياسات الأردوغانية تعمّ مختلف شرائح المجتمع التركي، ومعظم أحزابه السياسية، منها العلمانية والإسلامية وغيرها، ومنها:
- الديكتاتورية التي يمارسها "حزب العدالة والتنمية"، وعدم قدرة المعارضة التركية على لجم الاندفاعة الأردوغانية نحو التطرف والتسلط، وهو ما دفع الشباب الثائر إلى الساحة بسرعة، ومن دون انتظار دعوات حزبية معارضة من هنا وهناك.. بالإضافة إلى اتهامات واسعة بالفساد، طالت أعضاء الحزب الحاكم، ومنها تقارير تفيد بأن رئيس بلدية اسطنبول وصهر أردوغان ضالعان في المشروع المنوي إقامته في "تكسيم"، والذي فجّر الاحتجاجات.
- استياء شعبي عارم من السياسة الخارجية، خصوصاً الدعم العلني للمجموعات المسلحة السورية، في ظل تقارير تتحدث عن تسيّب أمني لافت على الحدود التركية - السورية، وإيواء تركيا لأكثر المقاتلين تطرّفاً وإجراماً من "القاعدة"، بالإضافة إلى محاولة التعتيم الحكومي عن ضلوع "جبهة النصرة" في تفجيرات الريحانية. وقد تجاهل أروغان استطلاعات الرأي الداخلية التي أفادت أن 71% من الأتراك يعارضون سياسته في سورية، ومن هؤلاء 32% ينتمون إلى "حزب العدالة والتنمية".
- جنوح أردوغان، كما مرسي وحزبه في مصر، إلى محاولة تغيير بنيوية سريعة مستعجلة للهيكلية الاجتماعية والثقافية للمجتمع التركي، وهي أمور تحتاج إلى عقود لتنفيذها، وقد يكون الاقتناع الأردوغاني بعدم القدرة على دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وعدم رغبتها بذلك بعدما باتت أوروبا غارقة في ديون وتقشّف و"إسلاموفوبيا" رهيبة، فكان اتجاهه لمحاولة فرض نفسه زعيماً على العالم الاسلامي - كما أعلنه مشعل يوماً - هو ما جعله يسارع ومن دون تبصّر إلى محاولة تغيير خصوصية المجتمع الثقافية، وتجاهُل التحذيرات من خطر السياسات التي تغذّي الانقسامات العرقية والإثنية والطائفية في المجتمع التركي.
- قيام أردوغان، كما فعل الحكام العرب قبله، بخطب ودّ الولايات المتحدة الأميركية، وتنفيذ سياساتها في المنطقة، مقابل غضّ النظر عن تقييد الحريات وترهيب الصحافيين، والقيام بحملة تطهير واسعة في الجيش، واعتقال الضباط، وتحجيم دور الجيش التركي، بعدما كان المحرّك الأساس للسياسة التركية على مدى عقود.
- تراجع الاقتصاد التركي الذي كان قد سجّل نسب نموٍّ كبيرة في السنوات السابقة، حيث سجّل في العام 2011 نمواً بنسبة 8.8%، لكن هذه النسبة انخفضت بشكل حاد عام 2012، لتبلغ 2.2% فقط، ما أثّرعلى الفئات الفقيرة والمتوسطة، وعلى الشباب الجامعي بشكل كبير.
وهكذا تجد احتجاجات تركيا، ذات الأسباب الداخلية، مصفقـّين لها في شتى أنحاء العالم، وتبدو الإدارة الأميركية غير مستعدّة للتدخل لحماية حليفها، بل تجد ضالتها في ما يحصل، فإن استطاع أردوغان الصمود، فسيخرج من المعركة ضعيفاً يحتاج إلى رضاها لكسب حصته من المعارك التي خاضها باسمها، وإن لم يستطع الخروج، تتقاسم دول أخرى حصة تركيا في التركيبة الشرق أوسطية الجديدة، وفي الحالتين يدخل المحور "الإخواني" الذي تتزعمه تركيا، والمتشكّل على أنقاض الديكتاتوريات العربية، في عجز يجعله يقدم التنازل تلو التنازل لمصلحة "إسرائيل" وأمنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق