ترافقت الزيارة التاريخية للبطريرك الماروني بشارة الراعي إلى سورية مع إعلان البابا بنديكتوس السادس عشر استقالته من منصبه بسبب التقدم في العمر، كما أُعلن عن ذلك رسمياً.
لا شكّ أن استقالة البابا المفاجئة تطرح العديد من علامات الاستفهام، فهل للدوائر الغربية دور في استقالته، وهي التي قد تكون امتعضت من وقوف البابا إلى جانب مسيحيي المشرق، ودعوته المسيحيين إلى التجذر في أرضهم وعدم مغادرتها، وعدم القبول بما يُخطط لهم من مخططات اقتلاع وتهجير؟ وهل تكون هذه السياسة هي أحد الأسباب التي أدّت إلى التآمر عليه، وإحراجه بالفضائح الجنسية التي اتُّهم بها بعض الأساقفة، ثم بتسريب وثائقه الخاصة عبر كبير خدمه، في أشهر فضيحة عُرفت باسم "فاتيليكس"؟
وهل تآمر عليه الغربيون والصهيونية العالمية بسبب مقاومته السياسات الداعية إلى تهجير المسيحيين المشرقيين من أرضهم، وإلى تفتيت دولهم وإغراقها بالدماء والدمار والتكفير والقتل؟ وهل ساهمت دعوة البابا إلى وقف واردات الأسلحة إلى سورية ووصفها بالخطيئة الكبرى، ومعارضته السياسات التي ينتهجها الأوروبيون والأميركيون في منطقة الشرق الأوسط، وفي سورية بالتحديد، بدفعه دفعاً إلى الاستقالة مبكراً؟
من هنا، من حق مسيحيي المشرق أن يقلقوا، لكن من المعيب التهجّم على الزيارة الرعوية للبطريرك الراعي إلى سورية، والتي يكون جوهرها ما يلي:
أولاً: لم يخرج الراعي في تلك الزيارة عن جوهر ومضمون الإرشاد الرسولي الذي دعا المسيحيين إلى التجذر بأرضهم والتفاعل مع محيطهم، بل إن الزيارة برمزيتها تعطي إشارات واضحة إلى المسيحيين السوريين للتشبث بأرضهم، وعدم الهجرة كما فعل قبلهم مسيحيو العراق وفلسطين، وهي إشارة واضحة إلى تكاتف الكنائس المشرقية بأكملها جنباً إلى جنب في مواجهة الخطر الوجودي الذي يتهدد مصير مسيحيي المشرق، ومن ورائهم الشرق بأكمله بمسيحييه ومسلميه.
ثانياً: قد يكون البطريرك الراعي الأكثر تمثيلاً للسياسة الفاتيكانية للبابا المستقيل، والتي أدركت جلياً أن على البابا ومن ورائه بطاركة الشرق أن يقوموا بكل ما من شأنه أن يثبّت المسيحيين في المشرق ويمنع تهجيرهم، لذلك كانت سياسة الراعي المعلَنة باسم "شراكة ومحبة"، ومن هنا أيضًا أتت زيارته لسورية في هذه الظروف، ودعوته للحوار، وإدانته للعنف تتويجاً للمواقف التي أعلنها البابا بنديكتوس السادس عشر بدعوته أطراف النزاع في سورية إلى إلقاء السلاح وإلى حوار بنّاء في أقرب وقت ممكن يهدف إلى إنهاء نزاع لن يخلف وراءه سوى الكثير من الدمار، ومعارضاً أي تدخل عسكري في سورية على غرار ما شهده العراق أو ليبيا أو ساحل العاج.
ثالثاً: كان من المهم بمكان لمسيحيي سورية أن يشعروا بأنهم محتضَنون من قبل كنائسهم، وأنهم ليسوا جزءاً من جالية غير معترَف بوجودها، ولعل زيارة الراعي في هذا الإطار أتت لتعوّض الفرصة التاريخية لزيارة الرعية السورية وإخراجها من شعور التهميش والإقصاء تحت عباءة البابا السابق يوحنا بولس الثاني الذي زار سورية عام 2001، والتي فوتّها البطريرك صفير.
في الخلاصة، إن كل ما يُرجم به الراعي وما يُحمّل من أوزار وصلت إلى حد تحميله مسؤولية أعمال القتل والإرهاب المرتكب بحق المسيحيين السوريين، لا يعدو كونه كلاماً فارغاً، فالقرى المسيحية تعاني من التهجير وأعمال القتل والتكفير منذ سنتين، وأي ادعاء بأن هذا حصل نتيجة الزيارة مردود على أصحابه المعروفين بتاريخهم الطويل في قتل المسيحيين وتهجيرهم، واستعمالهم وقوداً في سياسات التقسيم والعزل والتعامل مع الخارج، ولا شكّ أن بعض هؤلاء يتصرف تماماً كالطفل العاقّ الذي يشتم أهله، لأنهم يعطونه دواء مُرّاً يحتاج إليه بشدة لشفائه من مرض خبيث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق