2013/12/29

اغتيال شطح لتخريب التسوية القادمة؟

د. ليلى نقولا الرحباني

عاشت بيروت ومعها لبنان بأكلمه،  خطرًا  هائلاً ضجّ في سمائه على وقع رسالة دموية قاتلة تجلت في اغتيال وزير المالية السابق ومستشار الرئيس رفيق الحريري محمد شطح. وقد يكون الخطر الأمني الذي هدد لبنان، مستمرًا منذ تفجيرات الضاحية الارهابية ودخول ظاهرة الانتحاريين الى الساحة اللبنانية واستهداف السفارة الايرانية والجيش اللبناني، ولكن الخطر الاكبر والقلق الهائل، الذي شهدته الساحة اللبنانية لم يكن في الجريمة بحد ذاتها بل من التحريض المذهبي الذي ساقته قوى 14 آذار والتي حاولت المساهمة بشكل أو بآخر بتحقيق أهداف القتلة من التفجير.
لقد أفادت التحقيقات التي قام بها الجيش اللبناني أن السيارة المفخخة التي انفجرت كانت قد سرقت في وقت سابق من منطقة ساحل الشوف وأدخلت الى مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، وأشارت المصادر الى وجود موقوف حاليًا في سجن روميه المركزي في قضية سيارتين مسروقتين استخدمتا في أعمال ارهابية، ويدعى مرشد عبد الرحمن (سعودي الجنسية) ويتم إخضاعه للتحقيق حاليًا من قبل الأجهزة المعنية وقد اعترف أمام المحققين أن سارقي السيارة المفخخة موسى م. و"محمد السريع" أدخلاها فعلاً الى مخيم عين الحلوة وأنهما ينتميان الى "فتح الاسلام".
وهكذا، يكون التساؤل المشروع: لماذا اغتيال وزير المال السابق محمد شطح، وهو شخص معروف باتزانه بالرغم من وجوده بين مجموعة تتقن التوتير السياسي، وتدفع اليه؟ ولماذا تقوم جماعة فتح الاسلام باغتياله، وماذا الهدف الذي يبغيه من يحرك هذه المجموعات، علمًا أن فتح الاسلام لا يمكن أن تقوم بعملية اغتيال من هذا النوع إلا بأمر عمليات من جهة كبرى تمولها وتحرّكها؟
في الاجابة على هذه التساؤلات، لا يمكن لأي محلل ان يتبنى فرضية بدون الأخرى، والفرضيات قد تقول انها قد تكون رسالة ترهيب اقليمية الى تيار المستقبل، أو عملية تصفية حسابات بين أجنحة، أو أنها لتوفير مادة لترهيب خصومه على أبواب المحاكمات في المحكمة الدولية، او محاولة لتفجير الساحة اللبنانية بفتنة سنية شيعية، وقد تكون رسالة الى الأميركيين ذاتهم، بسبب قرب شطح من السياسة الاميركية، وهو معروف بأنه "محسوب على الأميركيين" في لبنان.
وبكل الاحوال، ومهما كان الهدف من الاغتيال، وقد يكون لأسباب أخرى غير معلومة، فإن اغتيال شطح الشخصية السنّية الأكاديمية المتزنة، تعني أن التسوية ما زالت بعيدة، وأن هناك بعض الأطراف الاقليمية يريدون إدخال لبنان في أتون حرب أهلية وتشنج مذهبي، وإنهم سيسعون بكل ما اوتوا من قدرة على توتير الاجواء في لبنان قبل الوصول الى تسوية مقبولة في المنطقة.
إن الحديث عن التسوية القادمة والتي قد تتبلور بإعلان تحالف دولي واقليمي عريض ضد الارهاب، يدفع بعض الخاسرين الى محاولة استباق تلك التسوية المرتقبة بتوتير الأوضاع في الساحات المترابطة أي سوريا ولبنان والعراق، واستعمال كل ما يمكن استعماله من أوراق وأدوات للدفع نحو التشنج والاقتتال.
 وهكذا، وفي زمن الدفع نحو التشنج:
- يتم اقصاء كل صوت معتدل، والتضحية بكل ما من شأنه أن يضعف الجبهة بمواقفه المعتدلة، وقد يكون ذلك بالاغتيال على أن تستثمر الدماء في تصعيد التوتر المذهبي، والاستفادة منها لتحقيق أهداف سياسية لم يكن من الممكن تحقيقها بدون ذلك الاغتيال.
- استثمار الدماء والدفع نحو التصعيد ومحاولة توجيه الاتهام للخصم السياسي لاحراجه ووضعه في موضع الدفاع عن النفس، ومحاولة الكسب في المجال السياسي وهذا ما يؤدي الى تأزيم الوضع، وزيادة الاحتقان السياسي والمذهبي، ويحقق ما يصبو اليه الخاسر من التسوية، بجعلها مستحيلة.

وبكل الأحوال، وبغض النظر عن توقيت التسوية المنتظر، بات على اللبنانيين الإدراك بأن التلّهي واللعب بمصير الوطن الذي يقومون به، لم يعد مقبولاً وبات يهدد الجميع بدون استثناء. علمًا أنه في علم السياسة، أمور يبدو أن اللبنانيين ما زالوا عاجزين عن فهمها أما لقصورهم الفكري أو لعدم نضوجهم السياسي، وهي:
إن التسوية حين تحصل، فهي لا تطيح بالمهزوم وحده فقط، الذي يدفع الثمن الأكبر بأن يجعله أسياده كبش محرقة فيبيعونه ويقبضون ثمنه، ولكنها تطيح أيضًا بـ "رأس الحربة" في هذا المحور أو ذاك، فحتى المحور الرابح، الداخل في تسوية مع الخصم أو العدو، ينظر الى رأس الحربة بأنها أدّت ظيفتها المطلوبة، وما يصحّ في وقت الحرب، لا يصحّ في وقت التسوية والتفاوض، فالحرب لها ناسها وأدواتها، وما بعد التسوية له ناسه وأدواته وهكذا سيتمّ حرق "المتطرفين" لصالح حلفاء أكثر اعتدالاً مقبولين في زمن الصلح المفترض.
فهل يدرك اللبنانيون من السياسيين والأمنيين هذه المعادلة، وما النفع الآتي لهم ولوطنهم بأن يكون رأس حربة في مشاريع الآخرين في المنطقة، التي تحاول حرق لبنان، وجعله ساحة للارهابيين الذين لا يوفرون منطقة ولا مذهبًا ولا دينًا؟.

2013/12/15

هل يعود الاتهام الى سوريا باغتيال الحريري؟

د. ليلى نقولا الرحباني
تعود المحكمة الدولية الخاصة بلبنان الى الواجهة في لبنان، وذلك عبر اعلان المحكمة عن موعد بدء محاكماتها في 16كانون الثاني، وعبر المقابلة الاعلامية للمحقق السويدي بو استروم، التي أعاد فيها الى الضوء قضية غياب اللواء وسام الحسن عن موكب الرئيس رفيق الحريري، التي كانت قد أثارتها أحد قنوات التلفزة الكندية في وقت سابق.
وبما أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وتحقيقاتها قد استعملت في أوقات سابقة، للقيام بما يشبه الانقلاب السياسي في لبنان، كما استعملت للضغط على النظام السوري من خلال توجيه الاتهام الاتهام له بقتل الحريري في تقارير لجنة التحقيق المستقلة بقيادة ديتليف ميليس، فإن تزامن بعض المؤشرات، تدفع الى الشكّ في أن يكون هناك إعادة اتهام للنظام السوري في القضية، وفي المؤشرات ما يلي:
أولاً: ورود تقارير صحفية عن ان أحد أبرز الأدلة لدى مكتب المدعي العام قد فقد أخيراً في إحدى مختبرات دولة أوروبية، وهي من الأدلة المرتبطة بهوية أحد المنفذين. وهذا إن دلّ على شيء، فهو يدلّ إما على رغبة من المحكمة في تغطية ضعف الادلة الاتهامية بالادعاء بفقدانها، أو أن يكون فعلاً قد فقد وهذا يدل على استهتار المحكمة بالادلة، وهذا يستدعي محاسبة المسؤولين فيها على تقصيرهم أو فسادهم.
ثانيًا: الإشارات التي أطلقها بو استروم، وإعادة التلميح الى مسؤولية النظام السوري مجددًا، بعد سقوط هذه الفرضية في بداية عام 2009، واطلاق سراح الضباط الأربعة، والتركيز على اتهام حزب الله كبديل عن النظام السوري.

ثالثًا: إعلان نافي بيلاي، مفوضة الأمم المتحدة العليا لحقوق الإنسان، للمرة الأولى أن هناك أدلة "تشير" إلى مسؤولية للرئيس السوري بشار الأسد في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا. وأضافت أن الأدلة تشير إلى مسؤولية أعلى مستويات الحكومة، بما يشمل رئيس الدولة.
وكانت بيلاي قد عمدت في وقت سابق الى الطلب من الأمم المتحدة بتحويل قضية سوريا الى المحكمة الجنائية الدولية، ولكن بما أن سوريا دولة غير طرف في اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية، وبما أنه يتعذر على مجلس الأمن الاتفاق على تحويل القضية الى المحكمة بسبب الفيتو الروسي، فإن توقيت تصريح بيلاي وتزامنه مع المؤشرات السابقة يطرح شكوكًا مشروعة في أن تكون المحكمة الجنائية الخاصة بلبنان هي الإطار الذي يتكّل عليه الغرب، لتحويل بشار الأسد وأركان حكمه الى المحاكمة والتخلص من النظام السوري،د بعدما تعذر التخلص منه بواسطة الميدان السوري.
فعليًا، إن استعمال المحاكم الدولية كأداة للتدخل الدولي كبديل عن تدخل عسكري فاعل ومكلف، ليس أمرًا جديدًا على صعيد تجارب المحاكم الدولية، فالاتحاد الاوروبي والغرب، كان استخدم محكمة يوغسلافيا - على سبيل المثال لا الحصر- في هذا المجال. قبل هجوم الناتو على كوسوفو عام 1999، لم تكن المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا تحظى بدعم الاوروبيين، ولم تأخذ حيزًا كبيرًا من اهتمام الدول الغربية أو الدعوة لتمويلها. ولكن فقط مع  التبدل في الجو السياسي، وإزاحة ميلوسوفيتش من الحكم ومحاكمته في لاهاي، بدأ الأوروبيون والأميركيون ينظرون إلى المحكمة كعامل مساعد لاستخدامه في محاولة القيام بتغيير سياسي لصالحهم في البلقان، وكصمام أمان لصربيا وكرواتيا للتخلص من القوميين المعروفين بقربهم من الروس، وإحلال الحكام الموالين للغرب مكان هؤلاء.  وكان الاتحاد الاوروبي قد استعمل مبدأ الشرطية في التعاون مع المحكمة للضغط على دول البلقان، وأعلن عن إمكانية قبول عضوية دول البلقان في الاتحاد الأوروبي في حال تخلوا عن "الروح القومية" والحكم السلطوي (الموالي للروس)، وحدد خريطة طريق مستقبلية لهذه الدول ومستلزمات وشروط لتطبيقها أملاً في الانضمام إلى الاتحاد الاوروبي يومًا ما.
إذًا، المحاكم الدولية هي آليات قضائية استخدمت في وقت سابق، لمحاولة فرض تغيير سياسي كبديل عن تدخل عسكري مكلف عسكريًا وماديًا، ومثير للرفض من قبل المجتمع الدولي والرأي العام العالمي، فهل يمكن أن تؤدي محكمة لبنان نفس المهمة، فتكون وسيلة لاتهام النظام السوري والتخلص منه، بعدما عجز أعداؤه عن اسقاطه بواسطة التدخل العسكري، وتعذر اسقاطه من قبل المعارضة في الداخل؟. قد يكون هذا الاحتمال وارد في ذهن الغربيين، ولكن حتى لو أدرك هؤلاء عدم قدرة المحكمة على إسقاطه، فقد يكون هدف هذه الحركة مجرد احراج النظام وحلفائه، لمنع بشار الأسد كـ"متهم" من إدارة المرحلة الانتقالية القادمة.
الأسابيع القادمة ستكشف النوايا بالتأكيد.

2013/12/12

المحاكم الجنائية الدولية : انجازات واخفاقات

يبحث هذا الكتاب البحثي والعلمي في موضوع المحاكم الجنائية ويدرس بالتفصيل تجاربها ومدى تأثيرها على السلام والاستقرار في المجتمعات التي تخدمها.
إن ما دفع الباحثة لدراسة المحاكم الدولية هو المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بالتحديد، ففي آذار من العام 2009، باشرت المحكمة أعمالها، وكان الانقسام على أشدّه بين اللبنانيين حول المحكمة، فمنهم من يراها أداة ستمنع الإفلات من العقاب، ويعتبر أن إطلاق الضباط الأربعة هو دليل على عدم تسييسها، بينما يرى الآخرون أنها أداة لتجهيل الفاعل من خلال مؤامرة دولية تريد أن تلصق التهمة بـ"حزب الله"، بعد أن اتهمت النظام السوري. ويكشف الكتاب نقلاً عن وثائق فرنسية تفضح أن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك حدد للمحكمة مهمتها الأساسية بـ"قتل النظام السوري" وأنه قال لوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس أن "بشار الأسد سيسقط كثمرة ناضجة، يكفي الانتظار فقط.. سيتحوّل ديتليف ميليس إلى تجسيد للعدالة والديمقراطية في المنطقة".
أمام هذا الواقع اللبناني المنقسم، كان لا بد من دراسة تستطيع أن تعطي الرأي العام اللبناني والعربي رأياً موضوعياً علمياً، حول عمل وآلية تلك المحاكم، فلا تؤدي التوجهات السياسية إلى السير في ركاب التصفيق أو التأييد الأعمى لهذا الرأي أو ذاك.
يختلف هذا الكتاب عن سواه من الكتب الأخرى حول المحاكم الدولية المتوافرة باللغة العربية، فمعظم ما تحتويه المكتبة العربية من كتب حول المحاكم الجنائية يتحدث عن نظام أساسي، وشرح الآليات القانونية المعتمدة بطريقة قانونية جافّة، لكن يأتي هذا الكتاب الفريد من نوعه ليدرس مدى تأثير المحاكم على المجتمع من ناحية بناء السلام فيه.
يبدأ الكتاب بسرد التطور التاريخي للمحاكم الجنائية الدولية الذي بدأت مسيرته الفعلية مع محاكم نورمبرغ التي كرّست مفهوم المسؤولية الجنائية الفردية كبديل عن مسؤولية الدولة حول الجرائم المرتكبة من قِبل العاملين باسمها، ولكن البحث قاد إلى الاطلاع على مفهوم جديد طوّرته المحاكم الجنائية التي أنشئت بعد التسعينات، وهو المشروع الجنائي المشترك الذي توسّع إلى درجة كبيرة حتى بات بالإمكان اتهام أي كان، بجرم لم يعلم به، ولم يشارك فيه، بل بمجرد انتمائه إلى مجموعة ما لديها هدف مشترك، وحتى لو لم يكن هذا الهدف جرمياً بالأساس، وهو ما أوردته محكمة لبنان في فقرتها الثالثة، والتي يُخشى أن يكون وصفة لاتهام السيد حسن نصرالله وجميع الأفراد المنتمين إلى "حزب الله" بالمشاركة في جريمة اغتيال رفيق الحريري.
ثم ينتقل الكتاب إلى دراسة النتائج التي حققتها جميع أصناف المحاكم الدولية في بناء السلام في المجتمعات، فيبدأ بالمحكمة الجنائية الدولية الدائمة، ثم ينتقل لنموذجي المحاكم الخاصة والمختلطة.
اللافت في الكتاب، الإحصاءات الميدانية التي يستند إليها، والتي تورد بالأرقام حقيقة ثقة الناس بالمحاكم، ومدى تأثير عملها على المصالحة، وشرعية المحاكم في نظر المجتمعات التي تتعامل معها.
وقد يكون الفصل الثالث هو من الفصول المميزة في الكتاب، الذي تكشف فيه الباحثة بالوثائق كيف تمّ استغلال هذه المحاكم من قبل الدول الكبرى، ومن قبل الأطراف الداخليين الذين استعملوا آلية المحاكمات الجنائية الدولية كأداة سياسية للقضاء على خصومهم المهزومين، وتستفيض في نشر وثائق وتقارير عن التسويات والصفقات التي قام بها المدّعون العامون في المحاكم، وكيف فبركوا شهود الزور، ومارسوا الترهيب والترغيب على الشهود، لإثبات التهم على الأشخاص الذين وردت أسماؤهم في القرار الاتهامي، وتقيم تصوراً لما ستكون عليه نتائج محكمة لبنان على صعيد تحقيق العدالة وبناء السلام في المجتمع اللبناني.
أما الفقرة الأخيرة في هذا الفصل، فتخصصها الكاتبة لشرح مستقبل محكمة لبنان والمحاكم الأخرى قياساً على التطورات الدولية الراهنة وتبدّل موازين القوى العالمية، خصوصاً الحرب الدائرة في سورية التي سينبثق على إثرها نظام دولي جديد، سيبدّل التحالفات ويغيّر في القواعد الدولية المعتمدة.
ومن جملة النتائج التي توصلت إليها الدراسة، أن المحاكم الدولية بمجملها بدت وكأنها أداة فوقية فرضها المجتمع الدولي على المجتمعات، وأنها أقرب إلى محاكم المنتصرين التي باتت تحتاج - فعلياً- إلى مَن يحاكمها، وإن أي مراهنة على دور إيجابي لهذه الآليات القضائية تفرض على المجتمع الدولي استخدام الكثير من الضوابط والآليات المرافقة وإلى الحيادية وعدم التحيّز والتسييس، ويجب أن تتوافر فيها كل سبل الإنصاف والشفافية ومعايير العدالة الحقيقية لكي يستجيب المجتمع إلى تحقيق العدالة الجنائية بطريقة إيجابية.
إنه كتاب قيّم وعلمي ومتقدم ويأتي تلبية لتطلعات الكثيرين من المثقفين ومن الذين لديهم شغف بمتابعة التطورات، وذلك لقراءة المستقبل الذي ينتظر المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بلبنان انطلاقًا من تجربة وسجل المحاكم الدولية التي سبقتها.

2013/12/08

أين نيلسون مانديلا العربي؟


د. ليلى نقولا الرحباني

في وقت يمرّ العالم العربي بتطورات متسارعة لا يدرك أحد ما ستتكشف عنه، وما سيكون مصيرها، وهل ستقود هذه التغيرات، دول المنطقة الى عالم أكثر انفتاحًا وديمقراطية، أم ستغرقه في جهل وتكفير ودماء لا تنضب، أما ستعبث باستقراره بشكل دموي قاتل كما يحصل في العراق؟
وفي خضمّ هذه التطورات، وفي جو من الحزن يلف العالم على انطفاء نور داعية سلام أفريقي، نيلسون مانديلا، تضجّ فكرة الاستفادة من تجربة جنوب افريقيا التصالحية، في رؤوسنا ونسأل: هل يمكن للعراق ومصر وسوريا على سبيل المثال، أن تستفيدا من تلك التجربة؟.
قام نيلسون مانديلا، عقب انهيار نظام الفصل العنصري فى جنوب أفريقيا- متأثرًا بتجارب أميركا اللاتينية التي سبقته، وخاصة التجربة التشيلية- بتعيين لجنة الحقيقة والمصالحة بموجب قانون تعزيز الوحدة والمصالحة الوطنية رقم 34 للعام 1995. وجاء تأسيسها طبقًا للقانون الذي عكس التوازن السياسي والعرقي الدقيق الذي كان قائمًا في مرحلة انتقال البلاد من حكم الأقلية البيضاء العنصري إلى حكم الأغلبية السوداء فى عام 1994.
وكانت "لجنة الحقيقة والمصالحة" الجنوب افريقية عبارة عن هيئة على شكل محكمة يتم دعوة الشهود الذين كانوا ضحايا لانتهاكات سافرة لحقوق الإنسان للادلاء بشهاداتهم أمامها. وقد أعطيت هذه اللجنة صلاحيات واسعة واستثنائية قياسًا إلى "لجان الحقيقة" التي تشكلت قبلها للنظر في انتهاكات حقوق الإنسان فى الدول الأخرى فكان من ضمن صلاحياتها منح عفو للمتهمين الذين يثبت عدم ارتكابهم جنايات وتحديد موعد منح الأهلية السياسية التي تتيح للمتهم مزاولة حقوقه السياسية، ومنح التعويضات للضحايا أو ورثتهم، كما اعتمدت تصوّر العفو المشروط أو الجزئي كسبيل لتحقيق العدالة بدلاً عن العدالة العقابية، فعوضًا عن تقديم المنتهكين لحقوق الإنسان إلى المحاكم اعتمدت اللجنة جلبهم للاعتراف بأخطائهم وطلب الصفح ممن ألحقوا بهم الأذى .
تلقت اللجنة حوالى سبعة آلاف طلباً للعفو، أغلبيتها من سجناء كانوا يعملون فى الأجهزة الأمنية والقمعية الحكومية وكانت لجنة أخرى من اللجان الفرعية التابعة للجنة الحقيقة والمصالحة - وهى لجنة العفو المستقلة ذاتياً، والتى ترأسها قاضٍ فى المحكمة العليا- مسؤولة عن النظر فى هذه الطلبات والبت فيها. وجرى البت فى العديد منها على أساس الأوراق المقدمة، من دون عقد جلسات، لكن في ألف حالة على الأقل، تمّ التوصل إلى قرارات حول الطلبات عقب عقد جلسات علنية أمام لجنة العفو.
حقق عمل اللجنة نجاحًا واسعًا لأنه أعاد اللحمة للشعب الجنوب أفريقي ويسّر له سبل التقدم مما جعل جنوب أفريقيا تتربع على العرش الاقتصادي والسياسي للقارة الافريقية، وذلك بعكس أول لجنة للحقيقة والمصالحة عرفها العالم والتى تأسست فى أوغندا عام 1974 على أيدي الرئيس الأوغندي الراحل عيدي أمين بايعاز وضغوط من مجموعات حقوق الإنسان ولكنها فشلت فى تحقيق أي من أهدافها لأن النظام الأوغندي رفض نشر نص التقرير الذى توصلت إليه اللجنة أو تنفيذ أي من توصياته. ومنذ ذلك التاريخ حذت بلدان عدة حذو أوغندا فى تكوين لجان للحقيقة والمصالحة كسبيل لتحقيق العدالة الانتقالية فى بلدان مزقتها الحروب والصراعات فكانت التجربة الأرجنتينية (1983-ـ1985)، وتجربة تشيلي (1990ـ 1991)، وغيرها إلى أن أصبحت واحدة من الأساليب المعروفة عالميًا كسبيل للتعامل مع خروقات سابقة لحقوق الإنسان. ورغم أن تجربتي الأرجنتين وشيلي فشلتا مثلما فشلت تجربة أوغندا ولنفس الأسباب تقريبًا، لكن النجاح الكبير الذى حققته لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا جعلها النموذج الذي يحتذى به فى العالم وتكررت بعدها فى أرجاء أخرى من العالم.
إذًا، ما الذي يمنع العراق على سبيل المثال من أن ينتهج نهجًا مماثلاً لجنوب افريقيا، وماذا لو فتحت حكومة العراق المجال واسعًا أمام المصالحة الوطنية بالدعوة الى التخلي عن السلاح ودعم الارهاب مقابل العفو؟ ألا يؤدي هذا الى عزل الارهابيين المنتشرين في الداخل، وتفكيك البيئة الحاضنة التي تدعمهم؟
"بغياب الحقيقة والاعتراف بها، تغدو المصالحة مستحيلة"، عبارة لطالما ترددت على ألسنة كثيرين من المفكرين، بالرغم من أن تعريف المصالحة يختلف عن تعريف كشف الحقيقة، فالمصالحة هي عمل براغماتي لتغيير السلوك والتصورات بين الأعداء السابقين، بينما كشف الحقيقة هو عمل يهدف إلى شيء آخر قد يكون المصالحة من ضمنه، ولعله يبدو من أحد أهم المقومات الرئيسية في عملية المصالحة.
لكن بلا شكّ، أن السير نحو المصالحة الحقيقية في دول العالم العربي التي تمرّ بفترات انتقال، يتطلب شجاعة استثنائية، ويتطلب الكثير من التعالي عن الجراح من أجل السير بالأوطان الى السلام والاستقرار، وقبل كل شيء يتطلب دعمًا - أو على الاقل - اقتناعًا من قبل دول الجوار أن المسار الجديد في المنطقة يتطلب تغييرًا في السياسات السابقة الداعمة للارهاب، فها هي الدول الاوروبية ترفع الصوت عاليًا معربة عن قلقها من عودة الارهابيين اليها، وروسيا بدأت بتدريب فرق خاصة لمحاربة هؤلاء، فهل يستغل العرب هذا التوجه الحقيقي نحو مكافحة ارلاهاب، فيجتثونه من فكرهم ومجتمعاتهم، أم يفوتون الفرصة تلو الأخرى ويغرقون في الجهل والدماء والتكفير؟... نريد بلا شكّ نيلسون مانديلا عربي.

2013/12/04

توقيع كتاب المحاكم الجنائية الدولية


الأصدقاء الأعزاء
يشرفني دعوتكم الى حفل توقيع كتابي، بعنوان "المحاكم الجنائية الدولية: انجازات واخفاقات"، في معرض الكتاب الدولي - بيال، وذلك يوم الخميس 12 كانون الأول 2013، بين الساعة 4- 6 مساء.....
د. ليلى نقولا الرحباني


من مقدمة الكتاب: 

لقد أرادت هذه الدراسة أن تكشف حقيقة تأثير المحاكم الدولية على بناء السلام في المجتمعات، لتعرف الى أي مدى يمكن لمحكمة لبنان أن تؤدي بالفعل - كما يتمّ الترويج لها- الى سلام دائم ومستدام في المجتمع اللبناني المنقسم على نفسه، والذي يعيش توازنًا هشًا منذ تأسيس دولة لبنان الكبير.
ولقياس مدى قدرة المحكمة على تحقيق العدالة أو السلام وقدرتها على الموازنة بينهما من خلال تحقيق أحدهما ولو على حساب الأخرى، كان لا بد من دراسة التجارب للاتعاظ منها، لذا قامت هذه الدراسة بدراسة تأثير المحاكم الجنائية الدولية بنماذجها المتعددة على السلام في المجتمعات التي ادّعت أنها تخدمها.

2013/11/21

الواقعة الكربلائية من منظور قانون الحرب

مداخلة قدمتها في ندوة بعنوان "كربلاء: رؤية مغايرة" بدعوة من مؤسسة الفكر الاسلامي المعاصر في 21 تشرين الثاني 2013

مقدمة
        لن أدخل في نقاش الواقعة الكربلائة من منظور ديني أو قيمي واخلاقي أو عاطفي، ولا من منظور المدرسة المثالية الأخلاقية والعاطفية، فأنا أنحاز بطبيعة الحال الى المظلوم صاحب الحق، وسأنتصر له في مقاربتي العلمية، ولن أستطيع أن أكون محايدة، فالحياد بين الحق والباطل لا يجوز، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
        لهذا، ولكي أناقش الواقعة التاريخية بمنظار آخر، ومن موقع المحايد، علي أن آخذ مسافة قيمية واخلاقية وعاطفية منها، وأناقشها بعقل الباحث في القانون الدولي، فأتخذ من المقاربة القانونية البحت مقياسًا لتقييم تلك الأحداث وما حصل خلالها.
أولاً: قراءة كربلاء بصورة مجرّدة
  سأبدأ برسم صورة لتلك الواقعة التاريخية، مجرّدة منزّهة عن الأفكار الدينية والاخلاقية، والارتباط الثيولوجي، وهي تبدو كما يلي:
        بعد حروب أهلية ضمن الصراع على السلطة بين المسلمين، توفي الحاكم معاوية مورثًا الحكم لأبنه يزيد، في مخالفة واضحة لأصول الحكم والقانون المتبع في الدولة ومن غير ان يكون مستوفياً الشروط التي تفرضها الشريعة للقبول بالإمام الحاكم، والدولة لم تكن ملكية لتكون قاعدة الحكم فيها توريثًا من أب لأبن، يضاف الى ذلك أن الصفات الشخصية والقيادية ليزيد، لا تجعله مؤهلاً لحكم البلاد. لكل هذه الأسباب وغيرها، كان من الصعب جدًا عليه أن يقنع المواطنين بشرعية حكمه ووراثته للسلطة، فلا شرعية دستورية لتلك الوراثة، ولا شرعية تقليدية دينية، لذا حاول أن يفرض حكمه بالقوة، من خلال التخلص من معارضيه، وفرض مبدأ صارمًا، يعدّ سابقة في تاريخ تلك الدولة،  وهو مبدأ: القبول بالبيعة أو الموت.
        وكان الحسين بن علي، من طليعة المعترضين على هذا التوريث، رافضًا القبول بالبيعة، وبما أنه من "أحفاد الرسول"، فقد كان له مكانة خاصة بين المسلمين، وكان يزيد يحتاج الى أن يكسب منه - بشكل خاص- اعترافًا بشرعيته، لكي يستطيع أن يحكم البلاد، بدون معارضة كبرى تقوّض له حكمه.
        كان يزيد، يدرك تمامًا مدى تأثير الحسين على الأمة، لذا حاول أن يأخذ منه الاعتراف بشرعية حكمه بأي طريقة، وبأي ثمن. وبما أن الحسين  قد تربى في كنف جدّه وورث عن أبيه وأمه العنفوان وعدم الرضوخ للتهديد وعدم التراجع عن المهمة، وقد تعلّم منهم مقاومة الظالم مهما كلّف ذلك من أثمان معنوية ومادية، قد تصل الى التضحية بالنفس ( وهنا افتح نافذة لأشير الى مقاومة فاطمة الزهراء التي امتدت خلال حياتها وبعد مماتها) كان من المستحيل عليه أن يقبل بالاستسلام أو الخضوع للابتزاز، أو القبول بتسوية مجحفة، أو الخضوع للترهيب.
        وهكذا، تطورت الأمور لتحصل الواقعة في كربلاء، فكيف يمكن لنا أن ننظر لها ونقيّمها من ناحية قانونية مجرّدة. علمًا أنه من المنطقي أن لا نحكم على تلك الواقعة بمنظار القانون الدولي الانساني الحالي، انطلاقًا من مبدأ عدم رجعية القوانين، لذلك سيكون الحكم والتقييم، انطلاقًا من القانون السائد في الدولة آنذاك، أي القانون الاسلامي، وبالأخص قواعد الحرب في الاسلام.
ثانيًا: في حق الحسين بالمقاومة ورفض البيعة
        لقد أكد الاسلام على حقّ المقاومة ليس كحق فحسب، بل كواجب أيضًا وذلك في نصوص عدّة، ومنها في الحديث النبوي الشريف: من رأى منكم منكراً فليقوّمه بيده، فان لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.
        يقول المفكرون إن خيار المقاومة يعكس انهيار ثقة المواطنين بالدولة، فاما أن تنشأ المقاومة لتقاعس السلطة عن أداء مهماتها في حفظ الارض والشعب من الاعتداءات الخارجية، فيقوم الشعب أو جزء منه بالدفاع عن الارض ومقاومة الاحتلال، او تنشأ لمقاومة استبداد السلطة وتعسفها فتطمح إلى بناء سلطة بديلة قادرة على تلبية مطالب المجتمع المتعلقة بالحرية الضامنة للكرامة والهوية.
        ومن البديهي القول ان المقاومة ليست اعتداء على الغير بل هي استعادة لحق مسلوب، وليست مجرد ممارسة للعنف، بل إنها فعل إنساني طبيعي للحفاظ على الوجود والعيش بكرامة وحرية. ولهذا تشمل المقاومة جميع جوانب الحياة المادية والمعنوية، فقد تكون عسكرية، ثقافية، سياسية، اقتصادية، تقنية وإعلامية كما تختلف أنماطها فتكون فردية أو جماعية، داخلية أوخارجية... لأنها دفاع عن الذات، عن الجماعة وعن الوطن .
       
        وبما أن البيعة ممارسة لإرادة حرّة وليست فرضًا وإملاء، نستطيع أن نقول أن ثورة الحسين وحركة مقاومته لم تكن خارجة عن القانون المعتمد والمعترف به في تلك الدولة، بل كانت تعتبر ثورة إصلاحية مشروعة من ضمن الأصول المعتمدة، والموصى بها من قبل جدّه.

ثالثًا: في مشروعية الحرب التي شنّها يزيد
        بداية، أريد أن أؤكد أن توصيف "حرب" لا ينطبق على ما حصل في كربلاء، فالحرب مواجهة تحصل بين طرفين يستخدمان فيها القوة العسكرية، وتفترض أن يكون جيش مقابل جيش أو قوة منظمة. انطلاقًا من هذا التعريف، لا يمكن الإدّعاء أن ما حصل في كربلاء كان حربًا، فالإمام الحسين لم يكن على رأس جيش بل كان الجمع مؤلفًا من 72  شخصًا مقابل جيش بكامل عتاده وعديده... لذا لا يمكن توصيفها أنها حرب، بل هي مجزرة فعلية.
        وحتى إن سلمّنا أنها حرب، فشن ّالحرب بموجب القانون الاسلامي السائد آنذاك، كان يفترض قواعد وشروط، فالاسلام لم يقرّ الحرب بوصفها سياسة وطنية أو وسيلة مفضلة لحسم النزاعات، بل لا تكون حرب إلا إن كانت هناك ضرورة ملّحة للجوء إاليها، أو إن فرضت فرضًا على المسلمين ولم يكن هناك من طريق لحل النزاع بوسيلة أخرى، ما يعني أن اللجوء الى القوة العسكرية، يجب أن يكون الخيار الأخير في حل النزاعات خاصة بين المسلمين أنفسهم.
وللحرب في الإسلام فلسفة يمكن إجمالها في النِّقاط التالية[1]:
أولاً: أما أن تكون حرب لإقرار الحق، ودَحْض الباطل.
ثانيًا: أو  لردِّ الاعتداء، لا لإبادة الأعداء.
ثالثًا: أو لنَشْر العقيدة الإسلامية وحمايتها، دونما إلزامٍ لأحدٍ بها.
رابعًا: أو لمَنْع الظلم والإفساد في الأرض.
خامسًا: أو حماية الدِّيانات الأخرى من أن تُمحى[2].
أيًا من هذه الشروط لم تكن متوافرة في حرب يزيد على الحسين وأصحابه، فيزيد كان هو مَن منتهك الحق، ولم تكن الحرب ضرورة ملّحة فالحسين لم يكن في حالة اعتداء عليه[3]، ولم يكنّ يزيد يحارب لمنع الظلم والإفساد في الأرض بل كان هو مصدرهما....
وحتى مبدأ الاستباق الذي يمكن أن يتمّ التذرع به للقول بالدفاع عن النفس ( أي أن الدولة تشنّ حربًا استباقية على خصم يتحضر لمقاتلتها) فلم يكن متوافرًا في الحالة هذه، لأنه يرتكز على وجود خطر حقيقي "جاهز وموجود، وهو ما لا تستطيع فرقة مؤلفة من 72 شخصًا تشكيله في معركة معروف سلفًا أنها ساقطة عسكريًا.
وهكذا، نجد أن العمل العسكري الذي قام به يزيد، كان عملاً عدوانيًا بامتياز، ولا يتصف بأي مشروعية قانونية، ولا يندرج ضمن الأصول والقوانين والأعراف المعتمدة في الدولة الاسلامية آنذاك، هو استعمال مفرط للقوة لم تفرضه الضرورة ولا قاعدة التناسب ولم يكن مبررًا في ظرفه ومكانه.

رابعًا: قانونية الأعمال العسكرية بموجب قواعد الحرب المعتمدة
عندما نتحدث عن قواعد الحرب، لا نتحدث بطبيعة الحال عن قانون النزاعات المسلحة الحديث، أو ما بات يطلق عليه اليوم القانون الدولي الإنساني، بل نقوم بتقييم الأعمال العكسرية في الواقعة الكربلائية من منطلق قانون وقواعد الحرب في الاسلام، والتي سبقت بكثير التطور الحديث في القانون الدولي الانساني الذي لم يبرز إلا في نهاية القرن التاسع عشر وتطور مع اتفاقيات جنيف وبروتوكلاتها خلال القرن العشرين.
تاريخيًا، ومنذ المعارك التي خاضها النبي محمد، وضع الإسلام واجبات شرعية على المقاتلين المسلمين ألا يتخطوها، وفرضت على العسكر المقاتل قواعد صارمة يجب أن يلتزموا بها قبل الحرب وخلالها وبعد انتهائها.
ولقد خالف يزيد وجيشه، قواعد وقوانين الحرب في الاسلام وأهمها ما يلي:

1- انتهاك صارخ لحق الإنسان في الحياة، الذي أقرّه الاسلام بشكل واضح، عندما نصّ القرآن الكريم في آية واضحة: }من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض كمن قتل الناس جميعًا{ (المائدة: 32).
وبما أن الحرب التي شنّها يزيد، لم تكن من أجل إصلاح أو  منع الفساد والمنكر، فيكون عمله العسكري خارقًا لهذا المبدأ الأساسي في القرآن، بصورة واضحة.

2- خرق فاضح لمبدأ التناسب الذي أتى به الاسلام، والذي يعني أن يكون الاعتداء بمثل نوع العدوان {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا انَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }.
بداية لم يكن هناك اعتداء من قبل الحسين، وثم لم يكن هناك أي تناسب بين الفريقين المتقاتلين، ولم تكن الافعال المرتكبة من قبل جنود يزيد متناسبة مع الأفعال التي قام به فريق الإمام الحسين. طلب الحسين ان تفتح الطريق أمامه ليكون فردًا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم و لكن أصرّ الخصم على القتال.

 3-  خرق لمبدأ التمييز بين المقاتلين والمدنيين
        كان للإسلام السبق في التمييز بين المقاتلين وغيرهم من المدنيين الذين لا يقاتلون. حيث يُروى عن النبي محمد أنه قال موصيًا زيدًا بن حارثة لما أرسله إلى مؤتة: "لا تقتلوا وليدًا ولا أمراة وكبيرًا ولا فانيًا ولا منعزلاً بصومعة".  وفي هذا الإطار، يكون الاستنتاج من مقارنة قوانين الشريعة الإسلامية وقوانين الفروسية الاوروبية في القرن الرابع عشر، أن قوانين الشريعة الإسلامية حمت المدنيين غير المشاركين في القتال كحق، بينما  شكّلت حمايتهم في قانون الفروسية التزامًا من جانب النبلاء أي إن الحماية أتت كهدية أو منحة من الأقوياء أو الرؤساء لمن هم أدنى درجة.
        لقد خالف عسكر يزيد هذا المبدأ الأساسي من قواعد الحرب في الاسلام، فلم يميّزوا بين المقاتلين والمدنيين، بل قاموا بقتل وإطلاق السهام بدون تمييز ما يجعلهم مجرمي حرب موصوفين.

4 - انتهاك لمبدأ عدم جواز قتل غير المشاركين في أعمال الحرب
        يُحكى أن النبي محمد رأى في إحدى الغزوات امرأة مقتولة فغضب كثيرًا، وقال: ما كانت هذه تقاتِل، لتقاتًل وتقتل. وأمر بأن ينطلق رسول من قبله الى خالد بن الوليد، ليقول له: إنَّ رسول الله يأمرك، ويقول: لاتقتلن ذريّة ولا عسيفاً.
        وهكذا، أقرّت قوانين الحرب في الاسلام أنه لا يجوز قتل غير المحاربين، إلا إذا اشتركوا في الحرب فعلاً برأي أو قول أو إمداد أو قتال أو تحريض. وهذا يتشابه مع قواعد قانون القانون الدولي الانساني الحالية، حول وجوب التمييز وحصانة غير المشاركين في الأعمال العدائية.
        من هنا، إن أعمال القتل التي قام بها جند يزيد، لمن لم يكونوا مشاركين في القتال، وقتل أولاد عائلة الحسين وأطفاله، يعدّ جريمة كبرى ومخالفة واضحة لقانون الحرب الاسلامي، ولها عقابها عند الله كما يقول الدين الاسلامي.



5-  مخالفة مبدأي لا تغدروا وارحموا
        لقد نهى النبي محمد عن الغدر واشترط على المقاتل المسلم أن يقاتل بشرف  وأن لا يقتنص عدوّه غدرًا وظلمًا وأن يرحم حين يستطيع. لم يمتثل المقاتلين التابعين ليزيد لهذه المبادئ، بل لقد تمّ غدر وقتل الذين ذهبوا للاستحصال على المياه للشرب للأطفال الرضّع، برميهم بالسهام. ولم يكن هناك رحمة بالأطفال ولا بالمرضى، بشكل لا يقبله قانون انساني أو ديني.

6- انتهاك لقاعدة واضحة جدًا: عدم التنكيل أو التمثيل بالجثث
        إن ما قام به جند يزيد بقطع رأس الحسين والتمثيل بجثته، أمر ترفضه كافة الشرائع السماوية والقانون والأعراف في أي دولة أو حضارة إنسانية.
        وفي الاسلام بالتحديد، نهى النبي محمد بشكل واضح وصارخ، عن التنكيل والتمثيل بالجثث، فالميت له حرمته، حتى لو كان كافرًا. ولقد قال النبي لاتباعه: إياكم والمثله ولو بالكلب العقور. وأمر بدفن قتلى الكفار في المعارك، ومنع ترك الجثث في الشوارع حتى لا تأكل منها الحيوانات.
لقد خرجت الأفعال التي قام بها جند يزيد عن كل معايير اخلاقية ودينية وقانونية، فالقواعد المتبعة آنذاك أكدّت على مبدأ عدم التمثيل بالجثث، وأمرت بأن يكون مصير الجثة أحد أمرين:
- أما دفنها لكي لا تبقى على وجه الأرض، كما فعل النبي مع قتلى قريش بعد معركة بدر.
-  أو تسليمها إلى العدو كما حصل في تسليم جثة نوفل بن عبد الله عقب معركة الخندق.

7- انتهاك صارخ لحرمة الأسرى
        وضع الإسلام منهاجًا في معاملة الأسرى جوهره التكريم والمحافظة على كرامة الأسير والمحافظة على حياته وذلك في آيات عدّة في القرآن الكريم. (البقرة:85، الأنفال: 67- 68، الأنفال 70-71، الخ...) وتتلخص مبادئ حرمة الأسير في الاسلام في: حسن المعاملة، عدم جواز قتله، الرفق بالأسير وإطعامه، وحتى وإن كان كافراً. ولو عجز الأسير عن المشي لا يجوز قتله، ولا يجوز تعذيب الأسير بالجوع والعطش وغيرهما من أنواع التعذيب. زد على ذلك، أن الشريعة الإسلامية كانت قد نهت عن وضع الأغلال في أيدي الأسرى، وأمرت بتركهم أحرارًا من دون تقييد أو تحديد لحركتهم.
فإذا كان الإسلام قد عامل الأسير - الرجل المقاتل- بهذه الطريقة الأخلاقية، فكيف بالنساء والإطفال الذين لم يشاركن بأعمال القتال؟.
        زد على ذلك، إن فعل السبي الذي حصل مع نساء عائلة الحسين- وهم أهل بيت النبي محمد- قد انتهك أولاً معايير السبي المعتمدة في الاسلام من ناحية أولى، ثم إن الاهانات وأعمال التعذيب والاذلال التي تعرضن لها، قد انتهكت كل المعايير القانونية التي وضعها الاسلام، بالاضافة الى انتهاكه لكل المعايير الاخلاقية والإنسانية من ناحية ثانية.

خاتمة
        لا شكّ أن ما حصل في كربلاء من قتل متعمد، وحرمان تعسفي للحياة، ومنع الأطفال والمدنيين من الوصول الى مياه الشرب، وتمثيل وتنكيل بالجثث، يمكن اعتباره جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية مكتملة الأركان، بالاضافة الى الانتهاكات الجسيمة لقواعد وقانون الحرب في الاسلام. وقد حصل افلات من العقاب وعدم محاسبة المرتكبين في حينه.
        وبما أن التجارب دلّت أن المنتصر هو من يسنّ القانون، ويقيم المحاكم للمهزومين ويكتب التاريخ... فإن بقاء الثورة الحسينية لغاية الآن، وعدم قدرة يزيد ومن بعده على تزوير الحقائق، وكتابة تاريخ مشوّه حول الثورة الكربلائية، يعني أن ثورة الحسين قد انتصرت، وإن الظلم لم يستطع أن ينتصر على نور الحق المنبثق منها.
       
        لكن، وبالرغم من قسوة المأساة وفجاعتها، من المؤسف أن تبقى رسالة الحسين وقيم عاشوراء أسيرة داخل جدران الحسينيات، بدل أن تخرج منها وتفرد جناحيها لتنطلق الى رحاب الانسانية الأوسع، وتجعل من هذا الظلم التاريخي عجلة تدفع الاسلام الى نهضة تنويرية؛ تخرج الأحقاد من التاريخ فتفجّر قيمًا انسانية تدعو الى رفض الظلم والطغيان وتدعو الى الوقوف مع الحق مهما كان الثمن.
وهنا يتبادر الى الذهن تساؤلان مشروعان:
- متى يستطيع الفقهاء المسلمون، من شيعة وسنّة، إخراج الواقعة الكربلائية من المقاربة العاطفية الغرائزية الى المدى الإنساني الأرحب؟
- متى يخرج يزيد من حياة وفكر المسلمين، ليتأتى لهم بعدها القدرة على تأطير الواقعة الكربلائية في مشاكل الناس الحديثة، والاستفادة من الآثار الفكرية لثورة الحسين وقيم استشهاده؟
        أما آن الأوان لمصالحة تاريخية تقوم على الاعتراف بالظلم الذي حصل والاعتذار والمسامحة، فالحقد لا يورث الا الحقد، والمسامحة والغفران لا تعني النسيان، بل ببساطة إنها تعني وضع الحقد جانبًا للاستفادة من التاريخ وعبره، في بناء الحاضر ورسم طريق المستقبل.


1- أحمد حمدي أحمد، قيم الحرب في الإسلام، دراسة مقارنة مع القانون الدولي الإنساني، أطروحة دكتوراه، قسم الفلسفة الإسلاميَّة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، 2012.
[2]  إن هذه  النقطة بالذات، ليست محل توافق بين الفقهاء المسلمين، ولم تذكر إلا في المصدر السابق ذكره.
[3]  وخاصة أن الإمام الحسين اتبع المبادئ التي اعتمدها والده الإمام علي في الحروب، ومنها عدم البدء بالقتال، وذلك من أجل تلافي سفك الدماء وإعطاء الفرصة للخصم للتراجع عن موقفه بشنّ الحرب. 

المشهد الدموي في لبنان.. أهداف وسيناريوهات

د. ليلى نقولا الرحباني
الثبات
وهكذا، انتقلت المواجهة المفتوحة في المنطقة إلى مشهد أكثر رعباً في لبنان؛ انتحاريون لأول مرة يحصدون الدمار والدماء في بيروت، في مشهد يعيد التذكير بالمآسي السورية والعراقية الممتدة منذ دخول الأميركيين إلى المنطقة باحتلال العراق، والتي لا تفرق بين مدني وعسكري، وتحصد المدنيين والأبرياء كل يوم.

بغض النظر عن إعلان "تنظيم القاعدة" مسؤوليته عن التفجيرين، عبر تصريح إلكتروني موقّع باسم "الشيخ" سراج الدين زريقات، إلا أن التصريح لا يؤكد بالضرورة مسؤولية "القاعدة" عن التفجيريْن، ولا ينفيه أيضاً، كما أن تنفيذ "القاعدة" للعملية الانتحارية لا يؤكد  حقيقة "الجهة" التي تقف وراء تنفيذ هذا الهجوم الإرهابي.

وفي دراسة مَن المستفيد، ولماذا حصل التفجير الإرهابي في بيروت، وإلى ماذا كانت ترمي هذه الرسائل الدموية، يمكن رصد السيناريوهات الآتية:

الأول: أن تكون "إسرائيل" وراء العملية كما اتهم الإيرانيون بطريقة مسرعة ومتسرعة نوعاً ما. لا شيء ينفي قيام "الإسرائيليين" بعمليات اغتيال، وإرسال رسائل عبر الساحة اللبنانية، خصوصاً بعدما بالغ "الإسرائيليون" في الصراخ تنبيهاً من خطر قيام الأميركيين بتسوية مع إيران، يعتبر "الإسرائيليون" أنها ستكون خطأ كبيراً وسيدفع ثمنه الغرب و"الإسرائيليون"، وأن إيران ستحصد المليارات، وستخدع العالم وستصنّع القنبلة.. من هنا، لا يمكن نفي فرضية قيام "إسرائيل" بمحاولة عرقلة قطار التسوية الذي يسير بسرعة قصوى في جنيف، لكن الأسلوب المعتمَد في إيصال الرسالة من خلال تفجير انتحاري، ليس أسلوباً "إسرائيلياً" تقليدياً، فهي تعتمد في عمليات الاغتيال التي تقوم بها، أساليب أحدث وأكثر تقنية وتكنولوجية، علماً أن "الإسرائيليين" يدركون تماماً أن اغتيال السفير الإيراني في بيروت لن يؤثّر على مفاوضات النووي الإيراني في جنيف، باعتباره ليس عاملاً مؤثراً فيها.

الثاني: أن يكون من صُنع بندر بن سلطان، كما سرت الاتهامات في بيروت على لسان أكثر من محلل وكاتب ومواطن عادي، وقد يكون الأمير السعودي ومخابراته بريئة من هذا العمل الإرهابي، لكن عوامل عدّة تغذّي هذا الاتهام:

أ- أن "الشيخ" زريقات الذي أعلن في تغريدة على "تويتر" تبنّي التنظيم الإرهابي للتفجيريْن، والذي يُعتبر من الوجوه الأساسية في "كتائب عبد الله عزام"، كان موقوفاً لدى مخابرات الجيش العام الماضي بتهمة القيام بأعمال إرهابية، ثم أُخلي سبيله بعد ساعات نتيجة تدخلات سياسية - دينية (مذهبية) على مستوى عالٍ، يرتبط أصحابها بالمملكة العربية السعودية.

ب- اعتراف بندر بن سلطان بسيطرته على المجموعات الإرهابية في معرض تهديده للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حينما رفض الأخير عرضاً بالتخلي عن الرئيس السوري مقابل إغراءات مالية وصفقات أسلحة كبيرة.

ج- أسلوب التفجير عبر انتحاريين يقدّم أحدهما للآخر، هو أسلوب اعتُمد بشكل كبير في القتال ضد الجيش السوري من قبَل الفصائل المموَّلة من قبل الدول الخليجية، حيث كان الانتحاري الأول يفجّر نفسه في حاجز الجيش السوري، ليقوم بعدها الثاني بالدخول وتفجير نفسه موقعاً الكثير من الضحايا.

د- يعتقد البعض أن الرسالة التي تلقّتها السفارة الإيرانية هي رسالة جنون يأس أخرى تضاف إلى الرسائل الدموية التي بدأ الخليجيون بإرسالها، بعدما تأكّد أن الأميركيين غير مستعدين للدخول عسكرياً في الحرب الدائرة في سورية، وأنهم بصدد الذهاب إلى "جنيف-2" لتتويج تسوية مع الروس، يبدو أن الخاسر الأكبر فيها ستكون السعودية وحلفاؤها، تضاف إلى خسارتها الكبرى بالاتفاق النووي الإيراني مع الغرب، الذي سيجعل إيران دولة إقليمية كبرى يُعترف لها بدورها الإقليمي الذي سينافسهم على الساحة الخليجية والشرق أوسطية.

السيناريو الثالث: ألا يكون هذا ولا ذاك، وأن طابوراً خامساً استغلّ التشنج في المنطقة والعلاقات المتوترة بين إيران وبعض دول الخليج، والتي غذّتها الحرب السورية، وانسحبت على اللبنانيين وكشفت الأمن في لبنان، فأراد تصفية حساباته مع الإيرانيين على الساحة اللبنانية، مستغلاً هشاشة الأمن فيه.

في المحصلة، لا يمكن لأحد استباق التحقيق، كما أن اتهام أي جهة أو نفي سيناريو معيّن يبدو مبكراً الآن، ولكن إلى أن يتم الكشف عن الحقيقة، لا بد من ملاحظتيْن أساسيتيْن:

- الأولى: أن مسار التسوية في المنطقة قد انطلق، والعمليات الإرهابية هنا وهناك لن توقفه، والجميع سيستفيد من السلام المتحقق إن عرفوا كيف تدار اللعبة، وأن السياسة ليست لعبة "صفرية"، بل يمكن تحقيق الربح النسبي للجميع، حينما يكون من المستحيل تحقيق الربح المطلق لأحدهم.

- الثانية: أن الطرف السعودي واللبناني المرتبط به بات عليه مسؤولية كبرى تجاه نفسه واللبنانيين، بالقيام بما ينفي عنه تهمة قتل الأبرياء من اللبنانيين في الضاحية الجنوبية والجناح. من هنا، بات ضرورة ملّحة كشف الغطاء السياسي عن كل الإرهابيين، سواء الموجودين في سجن رومية، أو المتنقلين بين عين الحلوة وعرسال وطرابلس وعكار، وبغير هذا سيبقى المجال متاحاً للاتهامات الجاهزة، ولمزيد من صبّ الزيت على النار المذهبية المشتعلة في المنطقة، والتي ستأكل الأخضر واليابس.