عكس مؤتمر حزب العدالة
والتنمية التركي، وما قيل في دلالاته وإشاراته، الحال الذي وصلت إليها تركيا بقيادة
أردوغان، خصوصاً بعد النتائج التي بدأت تظهر للحراك في الدول العربية، وأهمها سورية.
وبغض النظر عن الإشارات
الداخلية للخطاب، والتي حاول فيها أردوغان أن يرهن مستقبل الأجيال التركية لعقود طويلة
مقبلة، وهي تعني الشعب التركي بشكل خاص، يمكن أن
نلفت إلى بعض الإشارات
السياسية الهامة للمؤتمر، وفي هذه الإشارات ما يلي:
1- إشارات تركية واضحة بالتوجه نحو الشرق
بدلاً من الغرب، والابتعاد عن الحلم التركي بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فالخطاب
الأردوغاني خلا من أي إشارات إلى الموضوع، كما خلا الحضور من أي مسؤول أوروبي، وقد
يكون ذلك لسببين: أولهما اقتناع تركي بأن صعود اليمين المتطرف في كل أنحاء أوروبا،
والسياسات الأوروبية المستجدة النابعة من "إسلاموفوبيا" قاتلة، يجعل من المستحيل
- أقلّه في المدى المنظور - قبول انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، مقابل عدم حماسة
تركية للانضمام إلى اتحاد أوروبي غارق في الكثير من المشاكل الاقتصادية والمالية، والمهدد
بالغرق والتفكك.
هذه المستجدات والتطورات
على الساحة الدولية منذ عام 2008 ولغاية اليوم، جعلت أردوغان يحلم بالسيطرة على الشرق
واستعادة مجد الإمبراطورية "العثمانية"، بدلاً من التوجه إلى الغرب، وكان
هذا قد برز في مجالات عدة منها:
- التحقير الذي أبرزه أردوغان لجزء من
الحضارة الأوروبية في خطابه في القاهرة، حين اعتبر أن السلطان العثماني محمد الفاتح،
الذي فتح القسطنطينية، أنهى "حضارة سوداء".
- التخلي التركي عن السياسات السابقة
بالانفتاح على الأقليات واحترام حقوقهم، والتي كان الاتحاد الأوروبي قد فرضها كمدخل
لقبول الانضمام، فظهر الأمر على حقيقته في المجازر التي قام بها في وقت سابق، والإعلان
في المؤتمر الأخير عن تفرّغه لمحاربة الأكراد، والقضاء على أي مطالبة لهم بحقوق مشروعة،
من خلال الحديث عن موقعة "ملاذكرد" في العام 1071، حين قضى السلاجقة والسلطان
ألب أرسلان، الذي تمثل به أردوغان، على الدويلات الكردية التي كانت قائمة في شمال كردستان،
قبل أن ينتقل إلى محاربة الروم.
وقد انعكس هذا الطموح الأردوغاني
المستجد باستعادة مجد الإمبراطورية ، وهذه الرغبة بتزعّم العالم الإسلامي في خطاب خالد
مشعل؛ في مشهد يذكّر بالمثل الشعبي القائل "خذوا أسرارهم من صغارهم"، حيث
بايع مشعل التركي "زعيماً على العالم الإسلامي"، في انحياز واضح للفلسطيني
إلى جانب التركي في صراع طاحن يدور في المنطقة، وحيث لا مصلحة للفلسطينيين ولا للمقاومة
الفلسطينية في الانحياز إلى طرف لديه اتفاقيات سياسية وعسكرية واقتصادية مع "إسرائيل"،
وعضو في حلف شمال الأطلسي.
2- انحسار المزايدات التركية في القضية
الفلسطينية، فلم يشر أردوغان في خطابه إلى الاحتلال "الإسرائيلي"، ولا إلى
المستوطنات، ولا إلى تهويد القدس، ولا إلى حصار غزة، فخلال خطابه في القاهرة اعتبر
أردوغان أن "بكاء طفل فلسطيني في غزة يوجع قلب أم في أنقرة"، وعلى الرغم
من أن بكاء الأطفال الفلسطينيين لم يتوقف، لم يقم لا هو ولا خالد مشعل بالطلب من الرئيس
المصري فك الحصار عن غزة، علماً أن الأصوات ضد سياسات مصر ما بعد الثورة بدأت تتزايد
في غزة، إلى الحد الذي جعل موسى أبو مرزوق؛ نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، يتحدث
بصراحة أكثر من مرة عن أن إغلاق الأنفاق في عهد الرئيس محمد مرسي أكثر من عهد الرئيس
المخلوع حسني مبارك.
3- العداء الواضح لسورية، التي قطعت على
أردوغان أحلامه التوسعية، ورغبته بتكرار تجربة الإمبراطورية "العثمانية"،
علماً أن هذا الكره والعداء يزداد يوماً بعد يوم، خصوصاً بعدما عجز أردوغان عن إسقاط
النظام السوري، على الرغم من كل الدعم والتحشيد للمقاتلين الذي قام به، كما فشل في
دفع حلف شمال الأطلسي إلى التدخل عسكرياً في سورية، وأخيراً فشل الأتراك في جميع معاركهم
الميدانية، ابتداء بجسر الشغور، وانتهاء بمعركة حلب، التي تحولت إلى معركة مفتوحة ومعلنة
بين سورية وتركيا، ولعل إعلان المسلحين أن المعركة في حلب هي معركة حياة أو موت، يؤكد
أن حلب باتت "أم المعارك"، فالفائز في تلك المعركة سيحسم الأمر لصالحه في
سورية لعقود مقبلة، فإما يستعيد السوريون سيادتهم على أرضهم، ويوجهون ضربة قاصمة للأتراك
ومن ورائهم للمشروع الغربي في المنطقة، وإما تُفتح للتركي بوابة حكم الشرق، بتعيين
"والٍ" على حلب، وبعدها تحقيق حلم الإمبراطورية التي يمتد نفوذها على مناطق
شاسعة في العالم العربي، مستفيدة من تبعية "الإسلاميين الجدد" للوالي العثماني،
وتحقيق المشروع الغربي من خلال تعيين حراس جدد للمصالح الغربية في المنطقة.
وكما أردوغان، كذلك مشعل
وغيرهم على امتداد العالم العربي، نجد أن سياسة الجحود تبدو سياسة متجذرة لـ"الإسلاميين
الجدد"، فكما استفاد أردوغان من البوابة السورية ليطل على الشرق من بابه العريض،
كذلك مشعل الذي غرف من الصحن السوري لمدة طويلة، والذي تحملت سورية الكثير من الضغوط
لدعم حماس والقضية الفلسطينية، وقد يضاف إلى تلك السياسة الشاملة عوامل شخصية لدى مشعل،
بعدما تمّ الإعلان أن لا عودة له لقيادة حركة حماس، فأراد أن يسجّل نقاطاً إما لإحراج
من بعده في القيادة ورهن خياراتهم لما أعلنه من مواقف، أو لتسجيل مواقف نارية يذكرها
التاريح لهذا "المجاهد" في سبيل القضية الفلسطينية، فيذكر له التاريخ مثلاً
أن طريق القدس الذي كان يمر سابقاً في جونيه يوماً، بات - على عهده - يمر في دمشق وحلب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق