لم تكن إشارة الرئيس الأميركي باراك أوباما في نيويورك
إلى أن نظام الأسد "يجب أن ينتهي"، والتأكيد أن على المجتمع الدولي التحرك
من أجل الحيلولة من دون أن يتحوّل التمرّد ضد الأسد إلى "دائرة من العنف الطائفي"،
خارجةً عن السياق العام للتطورات السورية وانعكاساتها على المنطقة الإقليمية المجاورة،
بل على العكس تماماً؛ إن هذا الإعلان بتوقيته ونتائجه يشير إلى عمق الأزمة التي وصلت
إليها الأطراف الفاعلة في سورية، ومنها تركيا التي طلبت من قادة "الجيش الحر"
مغادرة الأراضي التركية.
وفي تحليل للمعطيات التي تدفع أوباما والإدارة الأميركية
إلى مثل هذه المواقف، فتبدو أسبابها كما يلي:
1-
الدرس الهام الذي تعلّمه الأميركيون من خلال الاعتداء الذي حصل على سفاراتهم في العالم
الإسلامي، خصوصاً في دول "الربيع العربي" الذي هندسه الأميركيون بأنفسهم،
وقد فهم الأميركيون أن عقد الصفقات مع من يدّعي أو يرفع شعارات إسلامية ليصل إلى السلطة،
لن يمكّنهم من إزالة الكره ونظرة العداء التي سببتها سياساتها المستمرة في دعم
"إسرائيل"، وانتهاك حقوق الشعوب منذ تأسيس دولة "إسرائيل" ولغاية
اليوم، مروراً باحتلال العراق وما شابه من مفردات عنصرية تحت ستار ما سمي "الحرب
على الإرهاب".
إن هذا الدرس الدموي الذي أدى إلى مقتل السفير الأميركي
في ليبيا، هو ما جعل وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون تحض العالم على الوقوف
في وجه "المتطرفين"، بعدما كانت قد دعمت وموّلت هؤلاء "المتطرفين"
للقضاء على معمر القذافي في ليبيا، ولمحاولة إسقاط نظام الأسد في سورية.
ويمكن فهم الإشارات التي أعلنها الاتحاد الأوروبي بالدعوة
إلى وقف تسليح أو تشجيع تسليح ما تسمى "معارضة سورية"، أو على الأقل عدم
الانخراط في العملية، بأنها جزء من القلق المتنامي لدى هؤلاء من الحركات التكفيرية
التي تنتشر في صفوف المعارضة السورية.
2-
حاجة غربية وتركية وخليجية لتحفيز المقاتلين في سورية على الاستمرار في القتال، أو
على الأقل لإطالة عمر الأزمة إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، وللاستمرار في الضغط
من أجل الحصول على مكتسبات سياسية، من خلال العمل الميداني العسكري الذي يغذّونه ويمولونه.
وكانت التقارير المتتالية تشير إلى قتال ضارٍ بين المجموعات المسلحة مع بعضها البعض،
خصوصاً بين "الجهاديين" والسوريين، خصوصاً بعدما أعلن "الجهاديون"
أنهم في مواجهة مع "جيشيْن مرتديْن"، أي الجيش السوري و"الجيش السوري
الحر"، وأنهم "عندما ينتهون من أحدهما يبدأون مع الآخر"، كما تشير الوقائع
الميدانية إلى انسحاب ومغادرة بعض العناصر "الجهادية"، وأهمها الشيشانية،
متذرعين بعدم حمايتهم وتحشيد خطوطهم الخلفية من قبل "الجيش السوري الحر"،
ومتهمين المقاتلين السوريين بالتخاذل.
3-
اليأس الذي يسود المقاتلين المسلحين في الداخل، خصوصاً بعدما كبّدهم الجيش السوري خسائر
كبيرة في الأرواح، وفي ظل انعدام قيادة موحدة لهؤلاء، وفقدان الثقة بين بعضهم البعض،
وانتشار التكفيريين بين المجموعات المختلفة، يضاف إليه قلق السوريين المقاتلين من
"المجاهدين الأجانب"، الذين لا يعيرون وزناً لأي قيم أخلاقية ولا وطنية سورية،
ولا يهمهم نتائج فظاعاتهم على النسيج الاجتماعي السوري.
ولعل التعبير الأصدق عن اليأس المتحكم بهؤلاء، هو ما
أعلنه صراحة أحد القادة الميدانيين لـ"المجاهدين"، والذي يعتبر أنه
"من الواضح أن الجيش السوري سيربح المعركة، لكننا لا نخبر الثوار بحقيقة الأمر،
فلا نريد تدمير معنوياتهم".
4-
اقتناع يزداد يوماً بعد يوم لدى الغرب عموماً، وأميركا خصوصاً، عن استحالة إسقاط الأسد
بواسطة خيار التدخل العسكري الخارجي، وفشل الأوهام وقصور الأحلام التي سوّقها أردوغان
وبعض قادة المعارضة الخارجية، والتي أثبتت أنها لا تعلم الكثير عن المعطيات الداخلية
ونقاط قوة الأسد الداخلية والخارجية، وإلا لما راهنت على إسقاطه بسرعة بواسطة ثورة
شعبية من الداخل، وعلى انفراط عقد التحالف الداعم له دولياً وإقليمياً في مرحلة ثانية.
5-
خشية أميركية من انعكاسات الأزمة السورية على الحليف التركي؛ سياسياً واقتصادياً وأمنياً،
فقد دفعت تركيا أثماناً باهظة منذ إعلان أردوغان سياسته العدائية تجاه الحكومة السورية،
ودعم المنظمات السورية المسلحة، فمن ناحية أولى تراجعت مؤشرات نمو الاقتصاد التركي
بشكل متسارع، خصوصاً بعد إغلاق الحدود بين تركيا وسورية، وهبوط الصادرات التركية إلى
سورية، ومنها إلى المنطقة، بعدما كانت سورية البوابة التركية على الشرق، وتقلّص الفورة
السياحية خلال السنة المنصرمة، واستقبال عدد هائل من اللاجئين السوريين، بالإضافة إلى
الهجمات التي يشنّها حزب العمال الكردستاني، وانعدام الأمن والاستقرار في المناطق الحدودية
مع سورية؛ المعروفة بتنوعها الثقافي والديني والعرقي..
في المحصلة، يبدو مسار الأزمة السورية متجهاً ــ ولو
بصورة متباطئة لما بعد انتهاء الأميركيين من انتخاباتهم واستقرار الإدارة الجديدة ــ
نحو اقتناع القوى الفاعلة بضرورة إيجاد حل سلمي للقضية، وفشل الرهانات على الخيار العسكري،
لذا تشهد دمشق يوماً بعد يوم انعقاد مؤتمرات لمعارضة الداخل الرافضة للعسكرة والتدخل
الأجنبي، والتي ستكون في وقت لاحق الطرف المقبول للحوار مع السلطة، وهو ما سيجعل كثيراً
من المعارضين الذين برزوا في وقت سابق يُحالون إلى التقاعد مبكراً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق