انتهت الزيارة التاريخية لقداسة البابا، منهية هدنة قسرية فُرضت على أطراف النزاع السياسي اللبناني، ومسجّلة حضوراً رسمياً وشعبياً، وصورة زاهية لم يعكرها بالنسبة إلى المواطنين إلا ظهور الدولة اللبنانية واستمرارها بعدم احترام حقوق الإنسان، بعدم إصدار بيانات دورية من قوى الأمن الداخلي بتوقيت قطع الطرقات للأيام الثلاثة المتتالية، واستناد المواطنين إلى بيان وحيد صدر قبل الزيارة، حدد فقط تاريخ قطع الطرقات ليومي الجمعة والسبت قبل الظهر خلال زيارة القصر الجمهوري.
وبعيداً عن معادلة الأمن والحرية وحقوق الإنسان، لا شكّ أن زيارة البابا إلى لبنان، والمواقف التي أطلقها والسينودس الذي وقّعه، سيكون لها تأثير في مسار رسم الأحداث والمواقف السياسية في المنطقة، إن تعامل معها الجمهور المسيحي كما يجب، وإن بنى عليها للمستقبل. ولعل قراءة ما بين سطور البابا تجعلنا ندرج الملاحظات التالية:
أولاً: إقرار من البابا الحالي، كما البابا السابق، بمحورية دور لبنان ومسيحييه في المنطقة، فالإطلالة على الشرق المتفجر من لبنان يعني أن البابا والكنيسة الكاثوليكية تعتبران لبنان المتعدد والمتنوع دينياً وثقافياً حجر زاوية في السياسة الفاتيكانية تجاه الشرق الأوسط، وقضايا العالم العربي، وعلى ما يبدو كان هناك تفويض مباشر من البابا إلى بكركي للقيام بهذه المهمة، ما يعني أن البابا قد فوّت على المصطادين بالماء العكر بينه وبين بكركي فرصة هامة، وأبلغ إلى مَن يهمه الأمر أن ما يقوم به الراعي وما يقوله هو سياسة فاتيكانية، وإن السير بخيار معاداته يعني معاداة الحبر الأعظم.
ثانياً: إشارات واضحة من البابا بأنه يمكن للعالم العربي - الذي يشهد تحولات دراماتيكية وصعود قوى التطرف والأصولية، التي ترفض الآخر وتنكر وجوده - أن يعتمد النموذج اللبناني في الحكم، وإن الصيغة التعددية اللبنانية للحكم يمكن لها أن تكون مثالاً يحتذى، مع مراعاة الخصوصية العددية والثقافية والديموغرافية لكل بلد من البلدان.
ثالثاً: كان التحذير الذي أطلقه البابا، والدعوة إلى عدم توريد السلاح إلى سورية، إشارة واضحة وجدية بأنه يعتبر أن التصرف الذي يقوم به الغرب وبعض العرب والأتراك بتوريد السلاح والإرهاب إلى سورية هو أمر مرفوض، وأن الديمقراطية التي تؤمن بالتعددية وخيار السلام وبناء سورية الجديدة لا يمكن أن يقوم في ظل انتشار السلاح وتقويض الاستقرار وتهديد المواطنين الآمنين، وانتشار البؤر الإرهابية الممولة من الخارج.
رابعاً: دعوة البابا إلى المسيحيين المشرقيين بعدم الخوف والتجذر بأرضهم، وعدم الهجرة والسعي للمحافظة على قيم العيش المشترك، والانفتاح مع إخوانهم ومواطنيهم المسلمين، وفي هذه الدعوة نجد مستويات عدة:
أ- الإقرار بأن الغرب وسياساته الشرق الأوسطية يسعون لتهجير المسيحيين من المشرق، وعليه فإن البابا يدعو المسيحيين إلى عدم السير بخيارات تؤدي إلى تهجيرهم وعدم السماح للخطط الغربية بالنجاح.
ب- يؤكد البابا في هذه السياسة وهذه الدعوة ما كان قد قاله العماد عون ودعا المسيحيين إليه، خصوصاً خلال زيارته إلى سورية والصلاة على ضريح مار مارون، كما يؤكد صوابية الخيار الذي اختاره التيار الوطني الحر بالانفتاح على الشرق، والتأكيد على مخاطر السياسة التي ينتهجها الغرب والحروب التي تغذيها الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، وها قد بدأت نتائجها السيئة تطالهم، كما حصل مؤخراً في دول "الربيع العربي".
ج- دعوة الكنائس المشرقية إلى الالتفات إلى أوضاع رعاياها، وعدم الاكتفاء بالوعظات والكلام، وما يوحي بأنه عيش في أبراج عاجية، بينما الرعية تئن من القلق والجوع والفقر والعوز، وفي هذا المجال إن تثبيت المسيحيين في الشرق يتطلب من الكنائس إعادة النظر في سياساتها الاجتماعية، خصوصاً فيما يختص بالنطاق التعليمي والاستشفائي والتي تسيطر الكنائس والرهبانيات على جزء كبير منه في لبنان والمشرق.
لذا، على المؤسسات الكنسية تقديم التسهيلات اللازمة التي تسمح للمواطن المسيحي أن يعلّم أبناءه في المدارس والجامعات، وأن يحصل على الطبابة والاستشفاء بأسعار ممكنة، كما القيام بالمشاريع التي تسمح للشباب بالحصول على مسكن لائق للعيش وعدم الهجرة إلى الخارج.
د- تحميل المسؤولية للمجتمع المدني ومنظماته للسعي إلى إنشاء منظمات غير حكومية، تؤمّن نوعاً من المساندة والتضاعد بين المسيحيين وبينهم وبين المسلمين، لتثبيت المسيحيين في أرضهم، والسعي إلى إعطائهم دوراً فاعلاً في مجتمعاتهم، وإبعادهم عن الإقصاء والتهميش.
ه- حثّ الدولة اللبنانية إلى اعتماد خيارات تسهم في إبقاء لبنان مصدراً للتنوع ومنارة للتعددية في الشرق، وذلك من خلال الحفاظ على التوازن في النظام اللبناني، وقد يكون من خلال إقامة عقد اجتماعي جديد كان البطريرك الراعي قد دعا إليه خلال زيارته إلى الشوف.
ز- الطلب من المسلمين الحفاظ على التنوع وعلى هذه الثروة الحقيقية بالتعايش والانفتاح والحفاظ على الأخوة مع المسيحيين، ونبذ التطرف والأصولية والتكفير، فهذه الحركات لن تؤدي فقط إلى تهجير المسيحيين، بل إلى إيذاء المسلمين العقلاء على حد سواء.
في المحصلة، كانت لزيارة البابا أهداف ومضامين ورسائل متعددة، يؤمل أن يتم البناء عليها والسير بها من قبل الفرقاء المعنيين بها أولاً، وهم المسيحيون بفرعيهم الكنسي والعلماني، وهي فرصة تاريخية لمقاومة ما يُحضّر للمنطقة من مخططات تقسيمية وتهجير قسري للمسيحيين، إن عرف المسيحيون استغلالها كان لهم الخلاص، وإن لم يعرفوا فسيكون أمامهم الكثير من الدماء والدموع، وقد يقدمون ذبائح على مذبح المصالح الغربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق