مناقشة
كتاب "الثوارت العربية بين المطامح والمطامع" للدكتور نديم المنصوري
ليلى
نقولا الرحباني
مركز
دلتا- 3 أيلول 2012
بداية، أوجّه شكري للدكتور نديم منصوري ومركز دلتا لدعوتي لنقاش
هذا الكتاب الشيّق، وهو كتاب حديث يعالج مسألة راهنة جدًا لم تنتهِ فصولها بعد،
وهذا أمر يُظهر شجاعة واضحة، فقلما نجد باحثًا يصدر كتابًا حول قضية متفاعلة لم
تظهر تباشير نهاياتها بعد. وهو، في هذا الاطار، أجاد شرح الآليات المستخدمة في
الثورات العربية، وتفاصيل يومياتها وخفاياها التي قد تكون خافية على المتابع
العادي، ومنها توثيق الخرائط المعدّة لتقسيم المنطقة، والتي ما انفكّ الحديث عنها
يطفو على السطح بين فترة واخرى، وإن كان تغييبها يبدو مقصودًا للتعمية عن مخططات شبيهة
بمخططات سايكس بيكو الشهيرة.
إذًا، يتصف الباحث بالشجاعة، وهو أمر نشهد له به، ومن الواضح
أنه يتسم بالشفافية والوضوح المترافقة مع الشجاعة والمندرجة ضمن إطارها. فنلاحظ أن
الباحث اعتمد شفافية، قلّ أن استعملها الباحثون بشكل عام، فمنذ السطور الاولى
لمدخل الكتاب يُدخلنا الكاتب الى عمق أفكاره، وينبئنا بما يجب ان نتوقعه من
الكتاب، ومن مسيرة القراءة فيه، فيتهم الولايات المتحدة بمحاولة السيطرة على أسواق
جديدة، وتدمير البنى الاقتصادية فيها لتحويلها مجرد أسواق تستورد منتجاتها وعاجزة
عن تصنيع احتياجاتها. ويشير الى ان الاحتلال والحرب والثورات مؤخرًا كانت ضرورة
استراتيجية للولايات المتحدة الأميركية للسيطرة على المواد الأولية المتوافرة في
بلدان الشرق الاوسط، وخصوصًا النفط والغاز والمياه، وهي ضرورة اقتصادية تؤمّن لها
فرصة تجاوز أزمة الانكماش الاقتصادي.
وهنا يتدرج الباحث ليصل الى اتهام أخطر، فهو يتهم الولايات
المتحدة الأميركية مباشرة وبدون تلميح او مواربة بتدمير البنى الاقتصادية والثروة
البشرية من علماء ومفكرين، وبتصعيد الصراعات الطائفية والدينية والعرقية، وبتغيير
أنظمة ودعم الاصوليات لجعل المجتمعات العربية، مجتمعات بدائية ومفككة ومنقسمة
طائفيًا ليسهل السيطرة عليها، والأهم هو يؤكد ان الولايات المتحدة هي وراء كل ما
يحصل في المنطقة العربية، من ثورات وتبدلات تخدم المصالح الأميركية.
إذًا، شجاعة الباحث تجلت في كونه لم يتأثر بكل هذا الترهيب
الفكري الممارس في بلداننا العربية، والذي يندرج ضمن إطار التشهير بتبني
"نظرية المؤامرة"، وهو شبيه بالترهيب الفكري الذي مارسته الصهيونية العالمية
على الاوروبيين بشكل خاص والغربيين بشكل عام، حيث كان كل من يكشف أو يتحدث عن
المخططات الصهيونية يتهم بمعاداة السامية.
أما الملاحظة الثانية، فتختص بالفتنة السنّية الشيعية، حيث كان
من الطبيعي ان يشير الباحث الى موضوع اثارة الفتنة السنية الشيعية، ونحن نعيش في
خضمها، ولم تعد مجرد مخططات او "فزاعة" يتم التخويف منها أو بها.
ولكن، لفتني أن الباحث اختصر هذا الموضوع الأساسي والمهم جدًا،
ولم يعطه حقه من الشرح بالرغم من أنه قد يكون الأهم في أساليب الصراع اليوم، واستغرب
كيف لم يفرد له المساحة الكافية التي تضيء على جوانبه كافة، وكيفية استخدامه وحتى
لم يشر الى دور اسرائيل فيه.
وهنا، ألفت نظره الى الوثائق الخاصة بمؤتمر هرتسيليا التاسع
2009، على سبيل المثال لا الحصر، وحيث قارب الاسرائيليون في ذلك المؤتمر بشكل واسع
موضوع الصراع السنّي الشيعي. فتحدثت أحد الاوراق الرئيسية عن "تصدير الثورة
الايرانية وتوظيف المنظمات الوكيلة"، وبث الاسرائيليون سمومهم العنصرية
لاقلاق السنّة من الشيعة بابراز أن ايران تحاول التغلغل في البلدان السنيّة، وأنها تحرص على تسويق مفاهيمهما الشيعية وسط
الحركات السنية من خلال تقديم رؤى أممية شاملة، وتأكيدها دعم الشعوب المستضعفة،
لتحويل الثورة الخمينية الى نموذج أكثر جاذبية.
وفي محاولة لتضخيم الخطر الشيعي، يتحدث الباحث الاسرائيلي عما
أسماه "التشيع الناعم" مشيرًا الى تبشير جذاب ولاعنيف بالعقيدة الشيعية
وسط العالم السنّي، من خلال الابواب الخلفية والمقاربات غير المباشرة. أما استعمال
هذه الاساليب الناعمة فهي شبيهة بالحرب الناعمة الاميركية، التي أشار اليها
الدكتور منصوري في كتابه من ضمن الاستعمار الالكتروني، بالرغم من أني شخصيًا اعتقد
ان الحرب الناعمة هي أكثر من استخدام الكتروني بل هي كل ما يمكن أن يفعله
الاميركيون لاكتساب العقول والقلوب.
وهذا التشيع الناعم تدفع
اليه - بحسب الكاتب الاسرائيلي- الحاجة
الى التغلب على حالات الغضب والنفور التي تتولد نتيجة لمحاولة فرض التشيّع من جهة،
ولما ينظر اليه انه سياسة تدميرية تمارسها ايران. وهو يحدث عن طريق التسلل الى
مجتمع ما من خلال وسائل الاعلام والمنظمات الأهلية، كذلك عن طريق توجيه صنّاع
القرار وقادة الرأي العام نحو الفكرة الشيعية.
وكان لافتًا السؤال الذي طرحه الباحث الاسرائيلي ضمن بحثه حول
السيناريوهات المستقبلية، وفيه:
هل يمكن القول ان حركة حماس
اختارت او ستختار التخلي عن محور "السعودية - مصر الاردن" لصالح محور
"ايران - سوريا- حزب الله" على نحوٍ واضح وحاسم؟
وأجاب ردًا على هذا التساؤل:
"من غير المنطقي ان
تعمد حماس - عاجلاً أو آجلاً- الى قطع علاقاتها مع محور الدول العربية الأكثر
اعتدالاً. ويصف الباحث سياسات حماس بانها انتهازية، وتهدف الى إقامة العلاقات
الجيدة مع أية جهة يمكن أن تساعدها سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا. وهكذا إن الأيدي
التي تقدم المال تروم الى السيطرة على سياسات الذين يأخذونه وهذا يزيد في وضوح
أسباب المنافسة بين ايران والمملكة العربية السعودية ضمن هذه القرينة، حيث يعتبر
كل من هذين البلدين ممولاً رئيسيًا لحماس". - انتهى الاقتباس.
وهنا، نسجل للباحث الاسرائيلي، صحة توقعاته المستقبلية، فقد
أظهرت الثورات العربية، ان حماس ابتعدت عن المحور الثاني لصالح المحور الأول،
فغادرت مكاتبها دمشق التي حضنتها لفترة طويلة من الزمن، وانتقلت الى الدوحة،
وأعلنت حماس على لسان أكثر من قيادي فيها، تراجع علاقتها مع إيران بسبب ما يحصل في
سوريا، مشددين على انحياز حماس للشعب السوري ضد نظامه الديكتاتوري.
بالاضافة الى غياب قيادة حماس السياسية في قطاع غزة عن احتفالات يوم القدس العالمي
الذي يقام سنويًا في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، فيما حرصت على الحضور والمشاركة
فيه بكثافة طوال السنوات الماضية.
أما الموضوع الأخير، الذي أود لفت النظر اليه وهو موضوع الشرق
الأوسط الجديد الذي أستفاض الكتاب بشرحه، وشرح مبادئه وتطور المصطلح في جزء هام ووافي
من الكتاب، ( من ص 42- 64).
إن الحديث عن شرق أوسط جديد
كما تريده السياسة الأميركية في المنطقة، وكما شرحه الدكتور منصوري في الكتاب، أي
شرق أوسط مقسم الى دويلات طائفية متناحرة تنعم فيه اسرائيل بتفوق اقتصادي
وتكنولوجي وعسكري، يبدو من المبكر التأكيد بأنه بات حقيقة وواقعًا، أو أنه سقط بلا
رجعة، طالما لم تُحسم المعركة العالمية الدائرة في سوريا اليوم.
في الواقع، كل ما حولنا والتطورات تنبئ أن شكل الحروب قد تغير ونحن
نقف اليوم أمام شرق أوسط مختلف يعيش فترة من عدم اليقين، وتغييرات وظروف لم يشهدها
العالم العربي من قبل. لا شك، أن مَن يحسم المعركة في سوريا لصالحه اليوم يقرر
مستقبل المنطقة بشكل عام لعقود قادمة، ونورد في هذا المجال سيناريوهات ثلاث:
السيناريو الاول- نجاح المحور الغربي بالقيادة الأميركية
في إسقاط سوريا، سوف يدفع الى تغيير وجه المنطقة بشكل أساسي وجوهري، وقد يؤدي الى
تقسيمها وتطبيق حلم الشرق الأوسط الجديد أو الأوسع، بتشكّل البرزخ الاستراتجي الممتد
من تركيا إلى شمال إفريقيا عبر شبه الجزيرة العربية و"إسرائيل"، الأمر الذي
سيعوّض كلياً على أميركا خسارتها حروبها، ويثبّت يدها على الطاقة والممرات المائية.
هذا السيناريو قد يؤدي الى
استعادة الولايات المتحدة الأميركية لنفوذها وسيطرتها على العالم، بعد أن تكون قد
لقّنت كل معارض لسياساتها درسًا لن ينساه، ومنهم روسيا التي قد تشهد انفجارًا في
جمهوريات الجنوب في القوقاز، وتعزيز الاصولية الاسلامية فيها. أما الصين، فستكون
أمام استراتيجيات حرب مستقبلية شبيهة باستراتيجيات الحرب الباردة، حيث تقوم
الولايات المتحدة الأميركية بمحاولة احتوائها عالميًا، وفي داخل اقليمها، بالاضافة
الى سباق تسلح حقيقي وجدّي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
ولكننا نتصور أن هذا
السيناريو بات صعب التحقق، وهو سيناريو غير واقعي.
السيناريو الثاني- هزيمة المحور الغربي في سوريا، ما يؤدي
إلى إقامة منطقة مشرقية متجانسة متكاملة في خياراتها الاستراتيجية، تمتد من إيران إلى
لبنان، عبر سوريا والعراق، قادرة على الاستفادة من تحالفات استراتيجية وتفاهمات أساسية
مع كل من الصين وروسيا والهند، بما يؤدي إلى القضاء على النفوذ الغربي في المنطقة.
إن هذا السيناريو سيقضي
كليًا على أحلام الشرق الأوسط الجديد، وعلى مخططات تقسيم المنطقة وتكون فيه
اسرائيل دولة ضعيفة غير آمنة، تعيش قلقًا وجوديًا يمهّد لزوالها، وبالتالي إقامة
شرق أوسط لإهله، يحكمه أهله بأنفسهم، ويتحكمون في ثرواته ونفطه ويقيمون الحكم
المنبثق من الإرادات الشعبية الحقيقية.
وكما السيناريو الأول، نجد
أن هذا السيناريو صعب التحقق، أقلّه في المدى المنظور، إذ أن الولايات المتحدة ما
زالت تملك الكثير من أوراق القوة الاقليمية والدولية والتحالفات الجديدة التي صاغتها في المنطقة بعد الثورات العربية، ما
يجعل هذا السيناريو بعيد الاحتمال.
السيناريو الثالث وهو الأقرب الى التحقق: ستاتيكو في
سوريا واستمرار العمليات الارهابية، وصعوبة الحسم العسكري النظامي، يمتد الى ما
بعد انتهاء الانتخابات الأميركية، واستقرار الرئيس الجديد. يحكم هذا الستاتيكو عدم
قدرة الغرب على التدخل العسكري في سوريا، إذ يعاني حلف الناتو من عجز هائل في
موازنته في ظل أزمة اقتصادية خانقة تعيشها أميركا واوروبا تكاد تفجّر الاتحاد
الاوروبي من الداخل، بينما تعيش أميركا وهنًا نسبيًا على الصعيد العالمي، مقابل
صعود قوى دولية واقليمية أخرى تحاول ان تسدّ الفراغ الاستراتيجي الذي خلّفه تراجع
نفوذ القوى الكبرى في المنطقة، بعد الانسحاب الأميركي من العراق وتوجّه الناتو
للانسحاب من افغانستان.
في ظل هذا الستاتيكو، يبقى
الشرق الأوسط رهينة سباق النفوذ العالمي، وسباق الاجندات العالمية التي يحاول كل
طرف أن ينفّذها بما كل ما يملك من وسائل وأدوات سياسية واقتصادية وعسكرية واعلامية
وغيرها. وبلا شك، يستمر ارتفاع أسهم الاصوليات الدينية من كل الاتجاهات، فالتطرف
سيجرّ تطرفًا مقابلاً، ما قد يهدد وجود الأقليات في الشرق، وبالتالي يبقى سيف
تقسيم المنطقة مسلطًا الى أن يتم الحسم في سوريا.
في النهاية، لا بد لي من أن أنوّه بسلاسة اسلوب الدكتور منصوري،
وسهولة لغته البحثية ما يجعل كتابه بمتناول جميع القرّاء من المتخصصين وغير المتخصصين،
وهذا ما يسهّل نشر المعرفة والوعي في مجتمعاتنا. كما انوّه باعتماده على كمّ كبير
من المراجع وإنه أحسن الانتقاء ولكنه كان اعطى للكتاب وزنًا وقيمة مضافة لو اعتمد اسلوب
التحليل والاستناج الى جانب ما اعتمده من تجميع وتصنيف وتبويب، إذ يسجل الكتاب
نقصًا في التحليل وطغيان تجميع المراجع والمصادر على ما عداه.