لم تكد الحرب العالمية
تبدأ في سورية، وما أن اشتعلت النيران في الجسم السوري، حتى توالت التصريحات اللبنانية
والدولية التي تدعو إلى تحييد لبنان عن الصراع الدائر في سورية، باعتبار أن التوازن
الدقيق والهشّ في الداخل اللبناني معرّض بشكل دائم للاهتزاز، ما يؤدي إلى خطورة انفجاره
في أية لحظة.
وبالفعل، كانت هناك
خشية لبنانية مشروعة، تجلّت في سياسة أُسميت "النأي بالنفس"، لم يعارضها
عاقل في البداية، باعتبار أنها قد تكون نوعاً من تحييد لبنان عن الصراع الدائر في المنطقة،
لكن السياسة تلك تحولت إلى قناع يخفي وراءه عمليات سياسية وإعلامية وميدانية، تواكب
الحرب الذي يشنها الغرب ودول الخليج وتركيا على النظام السوري لإسقاطه، فتحت ستار شعار
النأي بالنفس، ومن دون حس بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية، يحاول بعض اللبنانيين ربط
الساحتين اللبنانية والسورية بعضهما ببعض، وكأن ترابط الجغرافيا والتاريخ والديمغرافيا
بين البلدين غير كافٍ لهزّ استقرار لبنان باهتزاز الاستقرار السوري، لتُضاف إليه خطط
مبرمجة لإشعال الساحة اللبنانية خدمة لأهداف محددة في سورية، وذلك كما يلي:
- من الناحية الميدانية:
أ- تعيش الساحة اللبنانية
على إيقاع التطورات الدائرة في سورية، فحين يحتاج المحور الغربي وأتباعه إلى التعمية
عن الخسائر التي يتكبدها ميدانياً في سورية، يقوم بإشعال نار تثير دخاناً في لبنان،
وتحيّد الأنظار عما يحصل في الدولة المجاورة، وهكذا كان إشعال النار في طرابلس، كلما
لاحت بوادر هزيمة للمسلحين في المناطق السورية، وذلك لإعطاء فرصة للغرب إعلامياً وعسكرياً
وسياسياً لتأمين غطاء لتلك الخسارة الميدانية، وإمكانية إعادة التحشيد.
ب- استغلال حادثة
خطف للقيام بخطف مضاد وتوتير مذهبي، بقصد إشعال النار في النسيج اللبناني بإثارة فتنة
سنية - شيعية، ويمكن إدراك الهدف الحقيقي لهذه الأعمال من خلال مانشيت بعض الصحف العربية
التي عنونت "شيعة يخطفون سوريين"، أو قتال سُنّي علوي في طرابلس، وكأن الأحداث
عبارة عن اقتتال طائفي مذهبي لا علاقة للسياسة وللأحداث الدائرة في سورية به، وكان
البارز مسارعة الخليجيين إلى دعوة رعاياهم لمغادرة لبنان، بالرغم من تأكيد الجميع على
احترامهم وتقديرهم، لكن الدعوة تلك أشارت إلى أن هناك نيات مبيتة يضمرها الخليجيون
للساحة اللبنانية، قد يكون منها إشعال نار الفتنة المذهبية.
ج- إضعاف الجيش اللبناني
وإظهاره أنه جيش فئوي، وذلك من أجل تكبيل يده ومنعه من القيام بمهامه، وبالتالي إما
أن يكون شاهد زور على ما يحصل من عمليات تهريب أعتدة وسلاح ورجال من لبنان إلى سورية،
أو إخراجه من تلك المناطق لتكون مستباحة للمسلحين والإرهابيين.
-
من الناحية السياسية:
أ- مسارعة بعض القوى
اللبنانية، المدعية النأي بنفسها، إلى استغلال حادثة توقيف الوزير الأسبق ميشال سماحة،
لإعلان عدائها الواضح للنظام السوري، ومن هؤلاء من الرؤساء مَن حاول تقليد السياسة
الأردوغانية تجاه سورية، متلبساً عنجهية أردوغان وغروره، ومتخيلاً نفسه زعيماً مشرقياً
كبيراً لا تدور دورة السياسة الشرق الأوسطية من دون إذنه، أو بإشارة منه.
ب- استمرار ميقاتي
بمحاولة استرضاء المملكة العربية السعودية، التي تعامله بسياسة "خذ وطالب"،
والتي تجعله يقدم التنازل إثر التنازل، منها على سبيل المثال لا الحصر، إحراج الأمن
والقضاء اللبنانييْن بإخراج الإرهابي شادي المولوي من السجن، ومعاملته كبطل قومي، وعرقلة
المشاريع الحياتية الضرورية للمواطن.
ج- تعامل المؤسسات
الرسمية المختلفة بشكل يدعم المسلحين السوريين على الأراضي اللبنانية، ويؤكد شرعيتهم،
فمن السماح لهم بالتسلح الظاهر، إلى تأمين الطبابة والاستشفاء لهم، وغيرها.. حتى المواقف
الدبلوماسية التي كانت تُتخذ من باب النأي النفس، تم التخلي عنها مؤخراً، ولم يعد من
النأي بالنفس سوى عدم تلبية وزير الخارجية والمغتربين لمطالبات بعض الفئات بطرد السفير
السوري من لبنان.
أما من الناحية الإعلامية،
فحدّث ولا حرح، فممارسات بعض الإعلام فيها ما يندى له جبين كل مواطن شريف، فبعضه كاد
يتسبب بفتنة مذهبية، وبعضه يبدو غير مكترث لمعاناة وأوجاع اللبنانيين، ومعظمه فاقد
للمهنية والأخلاقية الوطنية.
في كل الأحوال، وإن
كان البعض لم يتعظ من تجارب الماضي بتحويل لبنان إلى ساحة تنفيس للصراعات الدائرة في
المنطقة، وإن كان البعض الآخر يعتقد أن بإمكانه الاستمرار بأن يكون أداة لشنّ حرب من
لبنان على النظام السوري لاجتثاثه، وإن التفوه بالعبارات النابية، ومنها المستمد من
كتاب "كليلة ودمنة"، كالتي كانت تشهدها ساحات 14 شباط، ستجعل النظام السوري
ينهار.. إن كان كل هؤلاء والخليجيون الذين يدعمونهم، لا يدركون أن النار التي يحاولون
إشعالها قد تمتد لتحرقهم قبل أن تحرق النسيج اللبناني والسوري، فلعل الاطلاع إلى ما
يحصل في تركيا اليوم، والقلق الذي يعيشه الأتراك خوفاً من تمدد النار التي أشعلوها
في سورية، يعطي مثالاً وعبرة، ويدق النفير عالياً، علّ من هم في الحكم الآن يتعظون.
لقد أجمعت التحليلات
الاستراتيجية سابقاً، على أن الخوف مشروع من امتداد اللهيب السوري إلى لبنان والعراق،
باعتبار أن الساحات الثلاث مترابطة عضوياً وديمغرافياً وطائفياً وسياسياً، لكن ما لم
يحسب حسابه أحد، أن تمتد النار إلى الهشيم التركي، ولعله لم يخطر ببال الأتراك أن تمتد
النار إلى عقر دارهم، فهل يكون ربيع للأكراد بديل عن "الربيع العربي"؟ وهل
يتحسّب الخليجيون لما قد تجرّه الحرب العالمية على سورية، وما يحاولون إضرامه في لبنان
من نار وقود نفطهم وقابلية اشتعالها كقابلية اشتعال صحرائهم الجافة، التي لو ابتدأت
فقد تولع في هشيم ساحاتهم أشياء لم يحلموا يوماً بأنها قابلة للاشتعال؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق