بالرغم من قيام حلف شمال الأطلسي
بمناورات في الاردن تحت عنوان "الاسد المتأهب" بمشاركة العديد من الدول
العربية، واعتبار البعض أن الأمر تهديد مباشر لسوريا، إلا أن المعطيات الميدانية
والدولية الواقعية تشير الى عدم امكانية أي تدخلٍ عسكري لحلف الناتو في سوريا، وقد
انعكس هذا الأمر بوضوح في نتائج قمة شيكاغو التي أنهت أعمالها مطلع الاسبوع الحالي
والتي أظهرت واقعية الحلف في الموازنة بين طموحاته وقدراته، وفي اعلانه تقديم موعد
انسحاب قواته من افغانستان.
بلا شك،لم يكن مفاجئًا اعلان حلف
شمال الاطلسي في قمته المنعقدة في شيكاغو عن تقديم موعد انهاء العمليات القتالية
في افغانستان، وسحب القوات في منتصف العام القادم بدل نهاية العام 2014 كما كان
مقررًا سابقًا، فالمطّلع على أوضاع دول الاطلسي المشاركة في الناتو وعلى المشاكل
التي عانى منها الحلف في السنوات الأخيرة يدرك أن هذا القرار الاستراتيجي الهام
يأتي متناسبًا مع محدودية قدراته وتقليض موازنته.
يعاني حلف شمالي الاطلسي منذ مدة
من مشاكل اقتصادية ولوجستية وقيادية، فمنذ انتهاء الحرب الباردة وسقوط مبدأ الردع
المتبادل مع الاتحاد السوفياتي، عمدت الدول الاوروبية الى تقليص مساهماتها في
موازنة الحلف، في مقابل تحوّل وجهة عمل الحلف من الحفاظ على التوازن في اوروبا،
الى القيام بعمليات تدخلية عسكرية خارج مناطق نفوذه. وهكذا، كان للتقليص المتزايد
للمساهمات الذي أتى نتيجة للأزمة التي تعانيها الاقتصاديات الاوروبية، بالاضافة
الى زيادة المهام والتدخلات العسكرية في الخارج أن اصبح الحلف في حالة حرجة، عكسها
وزير الدفاع الاميركي الاسبق روبرت غيتس، حين أعلن ان مستقبل الحلف سيكون كئيبًا وقاتمًا
ان استمر على هذا المنوال، وطالب الحلفاء بتحمل مسؤولياتهم تجاه الحلف خاصة بعدما
باتت حصة مساهمات الولايات المتحدة الاميركية تبلغ 75 بالمئة من موازنة الحلف.
وهكذا، وكما أعلن في شيكاغو، ستنسحب
القوات المقاتلة من الأراضي الافغانية ولكن سيبقي الاميركيون بعض القوات "
للمساعدة والتدريب" للعام 2024. ولكن واتعاظًا من التجربة العراقية السابقة،
لن تقبل قوات حلف شمال الاطلسي والولايات المتحدة بالتحديد، أن يظهر انسحابها من
افغانستان وكأنه هزيمة لها. لذلك، وبسبب عدم الثقة بين باكستان والاطلسيين- خاصة
بعد العملية النوعية على أراضيها والتي أدت الى مقتل بن لادن، وبعد قتل جنود
باكستانيين- فإن الحلف يحتاج الى التعاون مع ايران لتسهيل انسحابه من افغانستان
والعمل على انجاح استراتيجية الخروج المقررة، ما يجعله مستعدًا لتقديم تنازلات
هامة في مجال الملف النووي الايراني، ستظهر نتائجها في قمة بغداد.
إذًا، إن قراءة النتائج التي خرجت
بها قمة حلف شمالي الاطلسي، تظهر نتائج عدة أهمها:
أولاً: ضعف الحلف المتزايد أدى
الى مزيد من الخطاب الواقعي بعدما تبين أن الطموحات الدولية تصطدم بقدراته
المحدودة. وهذه الواقعية ستنعكس بشكل اساسي في الملف النووي الايراني، وفي منطقة
الشرق الأوسط التي ستشهد في السنوات
القادمة تبدلاً في موازين القوى، ما سيعيد خلط الأوراق الاقليمية بشكل كبير .
لا شك أن قمة بغداد ستعكس – على
ما يبدو – حاجة الغرب الى ايران في الملف الافغاني، والتي سبقتها بوادر الانفتاح
الذي أبداه الاميركيون على تقبل فكرة "ايران نووية"، والتفهم الذي أظهره
الرئيس الأميركي باراك اوباما في الرسالة التي ارسلها الى مرشد الثورة الايرانية
علي خامنئي، والتي تبدي انفتاحًا واستعدادًا لقبول حق ايران في التخصيب لأغراض
سلمية، واستعدادًا لتخفيف تدريجي للعقوبات المفروضة على ايران.
وهكذا، ستدخل ايران الى النادي
النووي، مستفيدة من موقعها الجيوستراتيجي الذي يسمح لها بتكبيد الحلف تكاليف باهظة
في مناطق عدة منها العراق وافغانستان، ومرتكزة الى قوة عسكرية وصاروخية وتكنولوجية
هامة، وقدرة على الصمود الاقتصادي لفترة طويلة من الزمن جعلت العقوبات الدولية
المفروضة غير ذي قيمة، ومن الاعلان الذي اعلنته من ان علماء منظمة الطاقة الذرية الايرانية
حمّلوا مفاعل الابحاث في طهران وقودًا نوويًا ايراني الصنع لذا لن تحتاج الى تشبيع
اليورانيوم في الخارج، وانه بات لديها ما يكفيها لتشغيل مفاعلاتها النووية لمدة ست
سنوات قادمة.
ثانيًا: استمرار الحلف بتأمين
الاستقرار في البلقان، والمحافظة على السلام والأمن في اوروبا، وتوجه للتعاون مع
روسيا بالرغم من ارث كبير من عدم الثقة والاختلافات الثقافية بينهما، وبالرغم من قلق
الدول الاوروبية الصغيرة والدول الاسكندنافية من التعامل الروسي
"الفوقي" معها، إلا أن التعاون يبدو بالنسبة للحلف "شر لا بد
منه".
ثالثًا: بسبب ازدياد التحديات
العالمية وضعف القدرات الشخصية،يبرز اتجاه لدى الحلف لاعطاء تركيا بعض الدور،
وتطوير انواع من الشراكة الاستراتيجية مع دول
في مناطق متعددة خارج اطاره الجغرافي، منها الامارات المتحدة والاردن، استراليا
ونيوزيلندا، كوريا الجنوبية واليابان وغيرها.
رابعًا: رغبة أكيدة لدى الولايات
المتحدة بالابقاء على الحلف، فللحلف مهمة استراتيجية أكبر من الأمن، تتجلى في
اعطاء الشرعية للتدخلات الأميركية في العالم، خارج اطار الشرعية الدولية وحين
يتعذر استصدار تفويض من مجلس الأمن.
في المحصلة، تبدو قمة بغداد اليوم
وقبلها قمة شيكاغو مفصلية بالنسبة للشرق
الاوسط والتطورات في سوريا بالتحديد، وما قيل سابقًا عن امكانية تدخل اطلسي او
سواه لاسقاط الاسد، ستتحول رويدًا رويدًا الى معركة ضد الارهاب، والى خشية غربية
من انفلات الوضع في سوريا، أن يؤدي الى عدم استقرار المنطقة، وبالتالي قد تعود
اللازمة التي كان يرددها الغرب قبل عام 2004 "سوريا عنصر استقرار في
المنطقة"، وبالنتيجة، يكون السوريون قد دفعوا بدمائهم فواتير معارك اقليمية
وعالمية على ارضهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق