انطلاقاً من الحقيقة القائلة بأن مصير المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ومستقبلها يرتبطان كما ارتبط إنشاؤها بالنظام العالمي المرافق، والظروف السياسية التي تواكبها على الصعيد العالمي، وإن مصير لبنان وسورية مترابطان بشكل وثيق، فإن مصير الحرب الكونية الدائرة في سورية ستؤدي إلى تبدّل مصير المحكمة، وذلك ضمن السيناريوهات الآتية:
1- السيناريو الأول: قدرة الغرب على استعادة زمام المبادرة بإسقاط سورية، وهو خيار بات أقرب إلى المستحيل.
ففيما لو قدر للغرب النجاح في خطته في سورية، كانت النتيجة الأولية لهذا النجاح توجيه ضربة بالغة الشدة إلى منظومة المقاومة، التي يعتقد الغرب بأن مجرد السيطرة على سورية، سيجعلها تتفكك، ويتحول من تبقى منها جزراً غير متصلة، يسهل خنق الواحدة منها تلو الأخرى، ما يمكّن أميركا من ربط المنطقة التابعة لها ببعضها البعض، فيتشكل البرزخ الاستراتجي الممتد من تركيا إلى شمال إفريقيا عبر شبه الجزيرة العربية و"إسرائيل"، الأمر الذي سيعوّض كلياً على أميركا خسارتها حروبها، ويثبّت يدها على الطاقة والممرات المائية، ويجهض أي خطر على الغرب قد يشكّله الطموح المتصاعد لكل من الصين وروسيا .
وفيما لو قُيّض لهذا السيناريو الغربي أن يتحقق، فإن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أو "محكمة المنتصرين" كما سيكون توصيفها، كانت ستحظى بأهمية كبرى في المستقبل المقبل، وكانت ستستخدم لتصفية الحساب مع المقاومة، ومع النظام السوري برموزه كافة، وكانت ستتحول، كما المحاكم الدولية الأخرى، إلى أداة لتصفية الخصوم السياسيين، وللضغط السياسي والاقتصادي على الحكومة اللبنانية، لتسليم كل من تتهمه المحكمة من قادة المقاومة أو سواهم، وهو ما حصل في يوغسلافيا، حيث استعمل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية المحكمة الدولية لفرض شبه وصاية على دول يوغسلافيا السابقة، وتحويل كثير من "الأبطال القوميين" في بلادهم إلى متهمين لدى المحكمة، ومطلوبين إلى العدالة بتهم جرائم الحرب والتطهير العرقي.
لكن ما ظهر لغاية الآن من تطورات في الحرب الدائرة في سورية، يثبت بما يقرب إلى اليقين فشل التصورات الغربية السابقة، فبامتلاك سورية مقومات القوة المتعددة، استطاعت إفشال الخطط الغربية تلك، لذا من المؤكد أن هذا السيناريو لن يتحقق، وأن المحكمة الخاصة بلبنان لن تحظى بهذا الدور المستقبلي المحوري.
2- السيناريو الثاني: خسارة الغرب خسارة دراماتيكية في المنطقة، وهو سيناريو غير واقعي أيضاً.
إن نجاح سورية والمعسكر الذي يحتضنها في توجيه ضربة قاصمة للغرب، سيؤدي إلى إقامة منطقة مشرقية متجانسة متكاملة في خياراتها الاستراتيجية، تمتد من إيران إلى لبنان، عبر سورية والعراق، قادرة على الاستفادة من تحالفات استراتيجية وتفاهمات أساسية مع كل من الصين وروسيا والهند، بما يؤدي إلى القضاء على النفوذ الغربي في المنطقة.
إن تحقّق هذا السيناريو، فسيؤدي إلى خسارة المحكمة وظيفتها الدولية، فيتم إقفال ملف المحكمة بشكل نهائي، إما بالامتناع عن التمديد لها في المستقبل، أو يُطلب منها من قبل مجلس الأمن إنهاء ملفاتها، وتحويل الباقي إلى القضاء المحلي، كما حصل في يوغسلافيا التي تحولت إلى عبء مالي مكلف استنفد جميع الأرباح الممكن تحقيقها منه، فقام مجلس الأمن بالطلب منها إنهاء الملفات التي بين يديها، وإرسال الباقي إلى القضاء المحلي الذي أنشئت فيه غرف استثنائية لهذا الغرض. وبحسب هذا السيناريو، ينسى اللبنانيون والعالم المحكمة الخاصة بلبنان، وتتحول أداة من التاريخ.
لكن هذا السيناريو، وكما السيناريو الأول، يبدو غير واقعي وغير ممكن، فللولايات المتحدة الكثير من الأوراق الاستراتيجية الهامة، والحلفاء التقليديين والجدد، ومصادر القوة المتعددة التي تجعل من المستحيل الوصول إلى سيناريو طردها من الشرق الأوسط أو القضاء على نفوذها فيه.
انطلاقاً من هنا، فإن معركة النفوذ في الشرق الأوسط هي معركة وجودية حقيقية للولايات المتحدة، ولا إمكانية للخسارة في ظل موازين القوى الحالية، ما يعني بقاء المحكمة في المدى المنظور والمتوسط على الاقل.
3- السيناريو الثالث: عالم متعدد تحكمه تحالفات كتل استراتيجية وهو الأكثر واقعية.
برأيي، لن تهزم أميركا هزيمة نكراء تؤدي إلى طردها من الشرق الأوسط، لكن في المقابل لن تستطيع أميركا أن تعيد الزمن إلى الوراء، وإعادة الإمبراطورية إلى سابق عهدها، والفشل يظهر من البوابة السورية بالتحديد.
إننا نرى أن النظام العالمي يتجه إلى مزيد من تعددية مراكز النفوذ، سيؤدي إلى نشوء قوى استراتيجية منفصلة تلتقي وتختلف أهدافها بحسب مصالحها، فلا أحلاف دائمة ولا عداوات دائمة، بل يكون التفاهم والاختلاف بدراسة المصلحة في كل قضية على حدة.
في هذا السيناريو الواقعي، سيتم الإبقاء على المحكمة، والحفاظ عليها كأداة من أدوات القوة التي سيستخدمها المعسكر الغربي في حربه مع المعكسر الشرقي، فتبقى كما هي الآن، أداة في الصراع القائم، وسيفاً مسلطاً على رقاب المقاومين، فترتفع أسهمها عند كل استحقاق يحتاج فيه الطرف الغربي إلى حشر الطرف الآخر وتهديده، ويخف وهجها عند فترات الستاتيكو المتقطعة.
لكن، ومن باب الواقعية أيضاً، ومن دراستنا لتاريخ المحاكم الدولية منذ نورمبرغ لغاية الآن، من المفيد التذكير بأن المحاكم التي أقيمت كات جميعها محاكم المنتصر، لم تؤدِّ أي محكمة الدور المنوط بها، إلا باقترانها بأدوات ضغط سياسية استخدمها المنتصرون لسحق خصومهم المهزومين، وبما أن هزيمة المعسكر المقاوم لم تتم سابقاً، ولم يقدر الغرب تحقيقها في سورية أيضاً، فإن مصير المحكمة الخاصة بلبنان سيبقى مجرد أداة سياسية بغطاء قضائي، ولن تتحول إلى العمل القضائي الفعلي الذي يحقق مآرب سياسية.
استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق