كما في كل الأزمنة، يعتمد السياسيون اللبنانيون سياسة تقطيع الوقت بانتظار نتائج الحرب الإقليمية - الدولية الدائرة رحاها على الأراضي السورية، بينما يعيش المواطن اللبناني مأساة يومية على الطرقات، وفي المدارس والجامعات والمستشفيات، وقلقاً وشكوكاً حول غذائه وسقفه وبيته وأمنه الشامل..
مع الأسف، إن التغني اللبناني بالشطارة السابقة لم يعد ينفع، فبعد الادعاء بأننا البلد "الأكثر أمناً" منذ أيام "ناموا وشبابيكم مفتوحة"، مروراً ببطولات "جيمس بوند اللبناني" الوزير الياس المر، إلى وزير الداخلية الحالي، لا يشعر المواطن اللبناني بأنه يتمتع بأي قدر من معايير الأمن الفردي ولا الغذائي أو الاقتصادي، ولا حتى الاجتماعي.. فها هي الأبنية تسقط على رؤوس أصحابها، ولا نجد أن ما حصل دفع بالمعنيين إلى اعتماد سياسة وقائية تحدّ من الانفلات الخطير في معايير السلامة العامة وسلامة المباني، ولا يبدو أن هناك سياسة اقتصادية واضحة تهدف إلى تشجيع الصناعة والإنتاج، وتحفظ حقوق المواطن بضمان حد أدنى من فرص العمل، ولا حتى سياسة تربوية رشيدة تعمل على تحديد حاجات السوق من الاختصاصات لتوجيه الطلاب، ولا رقابة على المدارس التي تزيد الأقساط عشوائياً من دون حسيب ولا رقيب، في ظل ضعف المدرسة الرسمية، وعدم قدرتها على المنافسة.
أما الأمن الغذائي فحدّث ولا حرج، إذ تضج وسائل الإعلام منذ مدة ليست بقصيرة، بأخبار عن مخالفات جسيمة في المطاعم والسوبرماركت التي لا تحترم أدنى معايير سلامة الغذاء والصحة العامة.. لم تحرّك الدولة فيها ساكناً إلى أن تكشّفت فضائح اللحوم والأجبان الفاسدة في الآونة الأخيرة.
أما الأمن بمعناه التقليدي، فمن نافل القول إنه في ظل التحديات المستجدة على الساحة الدولية، لم يعد الأمن أمناً قومياً ينحصر داخل حدود الدولة فحسب، بل بات يتعداه إلى الأمن الإقليمي، الذي يعني أن التحديات الأمنية باتت تتجاوز حدود الدولة، وأنه ليس بإمكان أي دولة أن تقفل حدودها أو تقوم بضبطها بشكل كامل، ما يفرض عليها التنسيق والتعاون لمواجهة التحديات الأمنية المستجدة.
وفي هذا الإطار، نشير إلى الاستخفاف الذي تعاملت به الدولة اللبنانية مع موضوع القاعدة في لبنان، والهجوم الذي شنه المستقبل وحلفاؤه على وزير الدفاع عند تحذيره من دخول عناصر من تنظيم "قاعدة الجهاد" إلى لبنان، وتسللهم عبره إلى سورية للقيام بأعمال إرهابية، ثم التبرير الذي أطلقه وزير الداخلية في هذا الشأن بأن لبنان يشكّل "ممراً للقاعدة وليس مقراً"، حينها هاجم الحريريون الجيش اللبناني؛ في موقف استباقي لمنعه من ضبط الأمن بشكل كامل، وبهدف أن تغض الدولة اللبنانية النظر عن انتهاك سيادتها، وعن تحوّل لبنان إلى رئة يتنفس منها الإرهابيون في سورية، وإلى خزان يمدّ القاعدة في بلاد الشام بالمال والسلاح والرجال، خصوصاً في الجزء الشمالي الشرقي من الحدود مع سورية.
وها هي الأحداث الأخيرة تكشف أن القاعدة تسرّبت بالفعل إلى الجيش اللبناني، تريد تخريبه من الداخل، وتتهمه بالكفر؛ تماماً كما فعل بعض الشيوخ السلفيين علناً، وعلى وسائل الإعلام، من دون خوف أو وجل، ولعل تخاذل السياسيين اللبنانيين عن الدفاع عن الجيش اللبناني، واعتمادهم سياسة النأي بالنفس في موضوع أمني خطير كهذا، وتغليبهم المصالح الفئوية والمذهبية الضيقة على حساب أمن الوطن والمواطنين، قد هيأوا البيئة المؤاتية لعناصر القاعدة للتحرك بحُرية في الداخل، وزعزعة الاستقرار اللبناني قبل "المرور" لزعزعة الاستقرار السوري.
كما قد يكون التساهل مع عناصر فتح الإسلام سابقاً، سواء في المحاكمات أو في ما يتسرب من معلومات عن "وضع مميز أشبه بفندق خمس نجوم" يعيشونه داخل سجن رومية، أو في مجاهرة بعض السياسيين بالدفاع عنهم وتقديم الحماية السياسية لهم، قد أوجد مناخاً سياسياً عاماً تتلطى خلفه هذه الخلايا التكفيرية للعمل في بيئة مذهبية إلغائية لا تلائم تركيبة لبنان التعددية، ولا جوهر كيانه.
بلا شك، تلك الصورة الأمنية القاتمة التي تؤرق المواطن اللبناني، وتجعله قلقاً على أمنه ومستقبله ومستقبل أولاده، تترافق مع صورة سياسية أكثر قتامة، تقوم على الخلافات والانقسامات، في ظل محاولة تيار المستقبل وحلفائه التنصل من مسؤولية هدر 11 ملياراً من أموال المكلفين اللبنانيين، بالإضافة إلى محاولة جعل لبنان رأس حربة في مشروع غربي وهّابي يريد أن يقوّض الاستقرار في المنطقة، من خلال جعله "ممراً" أو "مقراً" للخلايا الإرهابية، لكن ألا يدرك هؤلاء - ومعهم الحكومة اللبنانية - أن لبنان ليس جزيرة معزولة، وأن التخريب وعدم الاستقرار في سورية سيرتدان على الداخل اللبناني؟ وهل من يثق بأن استخدام ورقة القاعدة في مؤامراته هو مضمون النتائج، وأنه لن يضربه في عقر داره؟ ألم تكن الولايات المتحدة الأميركية - وباعتراف هيلاري كلينتون نفسها - هي التي أنشأت القاعدة، وحرّضت على استقبال الجهاديين من أجل محاربة الشيوعية في أفغانستان، ثم ارتدّت عليها لتضربها في عقر دارها؟ الأجوبة معروفة، لا يعبأ السياسيون بمصير وأمن المواطنين، لأن الشعب لا يحاسب في الانتخابات ولا يثور، وقد نخرته سوسة الطائفية إلى أعمق الأعماق.
في الواقع، يحترف بعض السياسيين اللبنانيين المقامرة بمصير الوطن والشعب، لسبب جوهري بسيط يتمثل في مثل شعبي قاتل عنوانه "عفا الله عما مضى"، ومن اليوم فصاعداً، يجب أن يكون هناك تحوّل في الأمثال الشعبية لتتلائم مع تطلعات مسؤولي الأمة، فعبارة "ناموا وجيوبكم مفتوحة" تتلائم أكثر مع محاولات تمرير سرقة 11 مليار من جيوبنا، و"ناموا وعيونكم مفتوحة" قد تتلاءم أكثر مع القلق الدائم الذي يعيشه هذا المواطن التعيس.
- استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق