2012/03/14

الأمن في لبنان: ناموا.. وعيونكم مفتوحة

كما في كل الأزمنة، يعتمد السياسيون اللبنانيون سياسة تقطيع الوقت بانتظار نتائج الحرب الإقليمية - الدولية الدائرة رحاها على الأراضي السورية، بينما يعيش المواطن اللبناني مأساة يومية على الطرقات، وفي المدارس والجامعات والمستشفيات، وقلقاً وشكوكاً حول غذائه وسقفه وبيته وأمنه الشامل..
مع الأسف، إن التغني اللبناني بالشطارة السابقة لم يعد ينفع، فبعد الادعاء بأننا البلد "الأكثر أمناً" منذ أيام "ناموا وشبابيكم مفتوحة"، مروراً ببطولات "جيمس بوند اللبناني" الوزير الياس المر، إلى وزير الداخلية الحالي، لا يشعر المواطن اللبناني بأنه يتمتع بأي قدر من معايير الأمن الفردي ولا الغذائي أو الاقتصادي، ولا حتى الاجتماعي.. فها هي الأبنية تسقط على رؤوس أصحابها، ولا نجد أن ما حصل دفع بالمعنيين إلى اعتماد سياسة وقائية تحدّ من الانفلات الخطير في معايير السلامة العامة وسلامة المباني، ولا يبدو أن هناك سياسة اقتصادية واضحة تهدف إلى تشجيع الصناعة والإنتاج، وتحفظ حقوق المواطن بضمان حد أدنى من فرص العمل، ولا حتى سياسة تربوية رشيدة تعمل على تحديد حاجات السوق من الاختصاصات لتوجيه الطلاب، ولا رقابة على المدارس التي تزيد الأقساط عشوائياً من دون حسيب ولا رقيب، في ظل ضعف المدرسة الرسمية، وعدم قدرتها على المنافسة.
أما الأمن الغذائي فحدّث ولا حرج، إذ تضج وسائل الإعلام منذ مدة ليست بقصيرة، بأخبار عن مخالفات جسيمة في المطاعم والسوبرماركت التي لا تحترم أدنى معايير سلامة الغذاء والصحة العامة.. لم تحرّك الدولة فيها ساكناً إلى أن تكشّفت فضائح اللحوم والأجبان الفاسدة في الآونة الأخيرة.
أما الأمن بمعناه التقليدي، فمن نافل القول إنه في ظل التحديات المستجدة على الساحة الدولية، لم يعد الأمن أمناً قومياً ينحصر داخل حدود الدولة فحسب، بل بات يتعداه إلى الأمن الإقليمي، الذي يعني أن التحديات الأمنية باتت تتجاوز حدود الدولة، وأنه ليس بإمكان أي دولة أن تقفل حدودها أو تقوم بضبطها بشكل كامل، ما يفرض عليها التنسيق والتعاون لمواجهة التحديات الأمنية المستجدة.
وفي هذا الإطار، نشير إلى الاستخفاف الذي تعاملت به الدولة اللبنانية مع موضوع القاعدة في لبنان، والهجوم الذي شنه المستقبل وحلفاؤه على وزير الدفاع عند تحذيره من دخول عناصر من تنظيم "قاعدة الجهاد" إلى لبنان، وتسللهم عبره إلى سورية للقيام بأعمال إرهابية، ثم التبرير الذي أطلقه وزير الداخلية في هذا الشأن بأن لبنان يشكّل "ممراً للقاعدة وليس مقراً"، حينها هاجم الحريريون الجيش اللبناني؛ في موقف استباقي لمنعه من ضبط الأمن بشكل كامل، وبهدف أن تغض الدولة اللبنانية النظر عن انتهاك سيادتها، وعن تحوّل لبنان إلى رئة يتنفس منها الإرهابيون في سورية، وإلى خزان يمدّ القاعدة في بلاد الشام بالمال والسلاح والرجال، خصوصاً في الجزء الشمالي الشرقي من الحدود مع سورية.
وها هي الأحداث الأخيرة تكشف أن القاعدة تسرّبت بالفعل إلى الجيش اللبناني، تريد تخريبه من الداخل، وتتهمه بالكفر؛ تماماً كما فعل بعض الشيوخ السلفيين علناً، وعلى وسائل الإعلام، من دون خوف أو وجل، ولعل تخاذل السياسيين اللبنانيين عن الدفاع عن الجيش اللبناني، واعتمادهم سياسة النأي بالنفس في موضوع أمني خطير كهذا، وتغليبهم المصالح الفئوية والمذهبية الضيقة على حساب أمن الوطن والمواطنين، قد هيأوا البيئة المؤاتية لعناصر القاعدة للتحرك بحُرية في الداخل، وزعزعة الاستقرار اللبناني قبل "المرور" لزعزعة الاستقرار السوري.
كما قد يكون التساهل مع عناصر فتح الإسلام سابقاً، سواء في المحاكمات أو في ما يتسرب من معلومات عن "وضع مميز أشبه بفندق خمس نجوم" يعيشونه داخل سجن رومية، أو في مجاهرة بعض السياسيين بالدفاع عنهم وتقديم الحماية السياسية لهم، قد أوجد مناخاً سياسياً عاماً تتلطى خلفه هذه الخلايا التكفيرية للعمل في بيئة مذهبية إلغائية لا تلائم تركيبة لبنان التعددية، ولا جوهر كيانه.
بلا شك، تلك الصورة الأمنية القاتمة التي تؤرق المواطن اللبناني، وتجعله قلقاً على أمنه ومستقبله ومستقبل أولاده، تترافق مع صورة سياسية أكثر قتامة، تقوم على الخلافات والانقسامات، في ظل محاولة تيار المستقبل وحلفائه التنصل من مسؤولية هدر 11 ملياراً من أموال المكلفين اللبنانيين، بالإضافة إلى محاولة جعل لبنان رأس حربة في مشروع غربي وهّابي يريد أن يقوّض الاستقرار في المنطقة، من خلال جعله "ممراً" أو "مقراً" للخلايا الإرهابية، لكن ألا يدرك هؤلاء - ومعهم الحكومة اللبنانية - أن لبنان ليس جزيرة معزولة، وأن التخريب وعدم الاستقرار في سورية سيرتدان على الداخل اللبناني؟ وهل من يثق بأن استخدام ورقة القاعدة في مؤامراته هو مضمون النتائج، وأنه لن يضربه في عقر داره؟ ألم تكن الولايات المتحدة الأميركية - وباعتراف هيلاري كلينتون نفسها - هي التي أنشأت القاعدة، وحرّضت على استقبال الجهاديين من أجل محاربة الشيوعية في أفغانستان، ثم ارتدّت عليها لتضربها في عقر دارها؟ الأجوبة معروفة، لا يعبأ السياسيون بمصير وأمن المواطنين، لأن الشعب لا يحاسب في الانتخابات ولا يثور، وقد نخرته سوسة الطائفية إلى أعمق الأعماق.
في الواقع، يحترف بعض السياسيين اللبنانيين المقامرة بمصير الوطن والشعب، لسبب جوهري بسيط يتمثل في مثل شعبي قاتل عنوانه "عفا الله عما مضى"، ومن اليوم فصاعداً، يجب أن يكون هناك تحوّل في الأمثال الشعبية لتتلائم مع تطلعات مسؤولي الأمة، فعبارة "ناموا وجيوبكم مفتوحة" تتلائم أكثر مع محاولات تمرير سرقة 11 مليار من جيوبنا، و"ناموا وعيونكم مفتوحة" قد تتلاءم أكثر مع القلق الدائم الذي يعيشه هذا المواطن التعيس.

- استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية

2012/03/07

هل تتحول المقاومة إلى "مجموعة أشرار".. بختم دولي؟

كما كان متوقعاً، تتوجه المحكمة الدولية الخاصة بلبنان إلى توسيع الاتهامات بقضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وإضافة اتهام جديد وهو "تكوين جماعة إجرامية"، كما طلب الادعاء في طلبه تعديل القرار الاتهامي.
وبالطبع، نحن نقول متوقعاً لأننا كنا قد أشرنا إلى هذا الأمر سابقاً، عندما لفتنا النظر ونبهنا إلى خطورة ما قد تتجه إليه المحكمة في اتهامها لعناصر من حزب الله، وذلك باستنادها إلى مبدأ جديد للمسؤولية الجنائية في القانون الدولي استحدثته محكمة يوغسلافيا واعتمدته المحاكم الجنائية الدولية الأخرى فيما بعد، بعنوان "المشروع الجنائي المشترك"، والذي يحاكم المتهمين لمجرد انتمائهم إلى مجموعة لديها "هدف مشترك"، (انظر مقالنا: محكمة لبنان: أداة عقاب جماعي، الثبات 30 حزيران2011).
تاريخياً، لم يكن القضاء الجنائي الدولي ينحو لمحاكمة المتهمين بموجب هذا النوع من المسؤولية "الجماعية"، بل اعتمد مبدأ "المسؤولية الجنائية الفردية" بشكل واضح منذ محاكمات نورمبرغ، باعتبار أن الجرائم ترتكب من قبل "أشخاص طبيعيين، وليس من قبل كيانات مجردة"، وقد كانت محاكمة تاديتش في 15 تموز 1999، أمام المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا السابقة، السابقة الأولى التي فتحت المجال أمام تطبيق هذا المبدأ فيما بعد، بالرغم من أنه لا يوجد أي نصّ واضح في مواد نظام محكمة يوغسلافيا، يشير إلى إمكانية معاقبة الأشخاص المتورطين بموجب هذا النوع من المسؤولية، بينما يلحظ النظام الأساسي للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان هذه المسؤولية بشكل واضح وذلك في المادة (المادة الثالثة - البند الأول) والتي تتضمن عبارة صريحة حول "المجموعة ذات الهدف المشترك".
ونعيد التأكيد على خطورة هذا المبدأ، الذي اشتهر تطبيقه في محاكم يوغسلافيا ورواندا والمحاكم التي تلتها كسيراليون وكمبوديا وغيرها، خصوصاً بعدما وجد المدّعون العامون أنهم بسهولة يستطيعون اتهام "أي كان" وبدون دليل على المشاركة المباشرة في الجريمة، ونشير إلى أن النوع الموسّع منه وهو الأخطر على الاطلاق، هو نوع استنتاجي ويعني أن يقدم شخص للمحاكمة لمجرد انتمائه لمجموعة، فيحاكم عن جرائم غير مقصودة ولكنها متوقعة، كنتيجة "طبيعية ومنطقية" للهدف المشترك للمجموعة، حتى لو لم يكن الهدف جرمياً في الأساس، وهكذا، يتحمل الفرد مسؤولية جنائية إذا اتضح من ظروف القضية، أنه كان "طبيعياً" أن يحدث العمل الجرمي من قبل شخص أو أشخاص من المجموعة، وأن يكون المتهم قد قَبِل بإرادته أخذ هذه المخاطرة، ولم ينسحب من المجموعة.
من هنا نجد أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ومن خلال إدراج هذه التهمة الجديدة، ومحاولة تعريفها، ستتجه إلى توسيع مروحة الاتهامات إلى أن يصبح بإمكانها اتهام جميع من ينتمي إلى حزب الله، أو يدعمه أو يسانده بأي شكل من الأشكال، وتحميله مسؤولية جنائية بموجب مبدأ "الهدف المشترك"، ويكفي الاطلاع على السوابق التي خلقتها المحاكم الدولية الأخرى، لنعرف حجم التعسف الذي يمكن أن تمارسه المحكمة الخاصة بلبنان في هذا المجال، فعلى سبيل المثال، قام الادعاء في المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا في قضية كريستش Krstić، بتحميله مسؤولية جنائية بعدما وجد الدليل أن المتهم قد تشارك مع مرتكب الجريمة، في "الحالة الذهنية المطلوبة لهذه الجريمة"، وهو أمر غريب ولم يشهده سابقاً أي قضاء محلي أو دولي، أن اتُهم شخص لمجرد وجود "حالة ذهنية إجرامية" لديه.
وهكذا، وبتوسيع إطار الاتهام، نعتقد أن المحكمة الدولية الخاصة تهدف إلى الوصول إلى أبعد من السيد نصرالله وقادة حزب الله الآخرين، فلو أرادت اتهام هؤلاء فقط، لما كانت تحتاج لهذا التوسيع ولطلب التعريف، وإضافة اتهام "تكوين مجموعة إجرامية" إلى القرار الاتهامي، لأنها ببساطة تستطيع أن تحاكمهم بواسطة مبدأ "مسؤولية الرئيس عن مرؤوسيه"، والتي تتضمن مسؤولية الرئيس الجنائية - حتى لو لم يثبت إصداره الأوامر لارتكاب الجريمة - وذلك في حالات عدة أهمها:
- إن كان الرئيس يمارس سيطرة فعلية على واحد أو أكثر من الجناة.
- أن يكون الرئيس على علم بالجريمة بأن مرؤوسيه سيقومون / أو على وشك القيام بالجريمة.
- أن يكون لديه كل الظروف والأسباب ليعلم أنهم سيقومون بالجريمة.
- فشل الرئيس في منع مرؤوسيه من القيام بالجريمة.
علماً أن المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا السابقة قد وسعت هذه المسؤولية أيضاً، وذلك في قضية اوريتش، حيث اعتبرت أن الرئيس يمكن أن يكون مسؤولاً عن الجرائم التي يرتكبها أشخاص مجهولون، فأقرّت مسؤوليته مسؤولية جنائية بسبب فشل مرؤوسيه بمنع القتل والمعاملة القاسية التي ارتكبت من قبل "الزوار" الذين اقتحموا معسكرات الاعتقال.
إذاً، نستنتج من المسار الذي يعتمده الادعاء في المحكمة الخاصة بلبنان، أنها تحتاج إلى أبعد من اتهام جنائي بكثير؛ وأنها لا تريد أن توّسع المسؤولية إلى قادة حزب الله ومنهم السيد نصرالله فحسب، بل هي تريد أن تصل إلى توصيف المقاومة في لبنان بأنها "مجموعة أشرار"، فتحوّل كل من ينتمي لها، أو يدعمها مادياً أو معنوياً، أو حتى يتشارك معها في نفس "الحالة الذهنية"، أو يصوّت لها في الانتخابات.. إلى متهم بالانتماء إلى مجموعة شريرة عليه أن يخشى تعرضه لإمكانية مساءلة عن أي عمل يقوم به فرد من أفرادها، وبعد صدور وثيقة دولية بهذا الشأن، يمكن الطلب من جميع دول العالم أن تدرج هذه "المجموعة من الأشرار" على لائحة الإرهاب، ويحظّر سفر أو التعامل مع كل منتمٍ لها - بحسب المفهوم الأوسع للمنتمي - ويكون لـ"إسرائيل" شرعية في حربها وسعيها للقضاء على هذه المجموعة الشريرة وكل من ينتمي إليها، بموجب القانون الدولي.
ليلى نقولا الرحباني

استاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية