من ضمن التطور في علم السياسة الحديث، يقوم اللبنانيون بابتداع استراتيجية جديدة عنوانها "النأي بالنفس" في مواضيع "سيادية" أساسية، وهي استراتيجية نخشى أن الجامعات لم تكن تلحظها في تدريس طلاب العلوم السياسية للسياسيات المتبعة من الدول في تقرير مصير بلدانهم، بما تقتضيه متطلبات السيادة، والتي تتضمن إطارين اثنين: داخلي وخارجي.في إطار السيادة الداخلي، تعني السيادة أن لا قوة فوق سلطة الحكومة الفاعلة التي تقرر شؤونها بنفسها وبكل استقلالية وبدون ضغط، من جهات داخلية أو خارجية، ينتهك سيادتها ويفقدها استقلاليتها التامة في إدارة شؤونها الداخلية، أما في الجانب الخارجي فيعني الاستقلال عن كل رقابة ومنع أي تدخل خارجي من أية دولة أخرى أو منظمة دولية، واحتكار تقرير شؤونها في علاقاتها الخارجية بنفسها.
ويبدو أن هذه استراتيجية النأي بالنفس الفذّة، التي ابتدعتها الحكومة اللبنانية، بدأت تتطور لتتضمن تكتيكات وسياسات تندرج في إطارها، ويبرز منها اليوم تطبيق خطة "أخذ العلم"، فقد قرر المسؤولون الاكتفاء بـ"أخذ العلم"، بعزم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون على التمديد لعمل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان والقضاة الملحقين بها مدة سنوات ثلاث، وذلك رداً على الكتاب الذي كان قد أرسله إلى السلطات اللبنانية طالباً "إبداء ملاحظاتها" في هذا الشأن.
وهكذا تمّ تمديد العمل بالاتفاقية التي أنشأت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، بدون إبداء ملاحظات، ولو شكلية، على عملها وأدائها، وبدون حتى مجرد "لفت نظر" الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن، إلى أن المحكمة تلك لا تطبق "أعلى معايير العدالة الجنائية الدولية" كما تدّعي، ولو فعل المسؤولون ذلك، لحفظوا ماء وجههم على الأقل، في موضوع محكمة فريدة من نوعها، بدأ التسييس والتعسف في عملها منذ اللحظة الأولى ومنذ حمايتها شهود الزور، واعتقال ضباط أربعة ظلماً، وغيرها من الانتهاكات التي مارستها والتي لا يسعها آلاف الصفحات.
واللافت في موضوع التمديد للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، أنها تأخذ منحى مختلفاً عن الاتجاه الذي يسود المحاكم الجنائية الدولية في العالم اليوم، والذي ينحو إلى مزيد من أعطاء السلطات المحلية الصلاحية في النظر في المحاكمات خاصة إذا كان القضاء الوطني قادراً على القيام بتلك المحاكمات وراغباً بالقيام بدوره في هذا الإطار.
إن المطلع على تجارب المحاكم الجنائية الدولية، يعلم أن المجتمع الدولي وبعد التجارب والمشكلات التي رافقت عمل المحاكم الدولية الخاصة والمختلطة، بدأ ينحو لاعتماد آليات جديدة، تتجلى في العودة إلى العدالة الجنائية المحلية، من خلال تأسيس محاكم داخلية خاصة لمحاكمة جرائم الحرب، وهي مؤسسات قضائية محلية تطبق القانون المحلي، بينما تستعين بقضاة دوليين للمساعدة، على أن يتم تحويل الجرائم إليها من المحاكم الدولية الخاصة التي أنشأها مجلس الأمن، وهذه الآليات هي آخر ما توصل إليه تطور العدالة الدولية في الوقت الراهن، لأنها على ما يبدو هي الأقدر على حل مشكلة الشرعية الداخلية التي عانت منها المحاكم الدولية، بالإضافة إلى تخفيف الكلفة الاقتصادية والحد من الاستخدام السياسي الدولي للمحاكم الدولية.
وفي هذا الإطار، نذكر على سبيل المثال، المحكمة المختلطة التي أنشأت في البوسنة والهرسك في آذار من العام 2005، وهي غرف استثنائية ضمن المحاكم المحلية تتألف من قضاة دوليين ومحليين للتحقيق ومقاضاة الأشخاص الذين يشتبه بتورطهم في انتهاكات القانون الدولي الإنساني خلال حرب 1992-1995، وكان الهدف من تلك الغرف الاستثنائية إعطاء السلطات القضائية الوطنية القدرة على إجراء محاكمات جرائم الحرب ضمن استراتيجية مصممة من قبل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة لإغلاق كافة القضايا المرتبطة بها بناء على طلب مجلس الأمن الدولي، علماً أن ما بدأ على شكل محاكم "مختلطة"، وبالرغم من المخاوف التي سادت في بادئ الأمر، من عدم شفافيتها وعدم عدالتها تبين أنها كانت نزيهة وأكثر شفافية وعدالة ومهنية واحترمت معايير العدالة الدولية أكثر بكثير مما فعلت المحاكم الدولية، ما أدى إلى تحوّلها إلى محاكم محلية مئة في المئة.
إذاً، في الوقت الذي تتجه في الدول التي عانت من إرث من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، إلى استعادة سيادتها القضائية من المحاكم الدولية، وذلك بعد أن تعافى قضاؤها وبات قادراً لوجستياً وبشرياً على الاضطلاع بمهمته الأساسية، في هذا الوقت بالذات، وفي موقف "تمييعي" كان متوقعاً، يأخذ لبنان علماً بالاستمرار في انتهاك سيادته والحط من كرامة وقدرة قضائه، من خلال التمديد لمحكمة أنشئت – كما تمّ الزعم – لأن القضاء اللبناني "عاجز" عن القيام بمحاكمة من خطط ونفّذ جريمة 14 شباط الإرهابية.
وبغض النظر عن التمديد الذي حصل للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان اليوم، وسواء مُدد لها أم لم يمدد، لا يبدو أن المحكمة تلك قادرة على القيام بمهمتها الأساسية المفترض أن تقوم بها، وهي كشف الحقيقة وإحقاق العدالة في جريمة 14 شباط، أولاً لأن التمديد بهذا الشكل وتمويلها وكأنها مؤسسة منكوبة لا يعني ضمناً الاعتراف بشرعيتها لبنانياً، وثانياً، لأن التعسف أفقدها صدقيتها منذ اللحظات الأولى، فالمجتمع الدولي سيتخلى عن دعمها عاجلاً أم آجلاً، حالما تفقد وظيفتها كأداة ضغط وابتزاز سياسية.
*أستاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق