منذ نشأتها، لم تستطع الجامعة العربية أن تقدم شيئاً ملموساً للشعوب العربية يمكن لهم أن يشعروا معها بأن هناك قوة عبر وطنية جامعة تستطيع الحفاظ على حقوقهم أو الدفاع عنهم في قضايا جوهرية تمسّهم كما تفعل مؤسسات الاتحاد الأوروبي المختلفة، والتي كان بعضها قد أنشئ قبل تحول الاتحاد إلى كيان سياسي موحد.
تظهر الجامعة العربية اليوم بدعم وتوجيه من الولايات المتحدة الأميركية واجهة للضغوط الغربية على سورية، وهي، وإما بسبب قصر نظر موجهيها، او قصر نظر العرب أنفسهم، تحاول استيراد النماذج العربية السابقة كحل صالح للتطبيق، وكأن العلاقات الدولية وقضايا الثورات والحروب تتكرر بنفس السيناريو، أو كأن التاريخ يمكن أن يكرر نفسه، ويمكن أن يسير بحتمية تاريخية جامدة، وهكذا وفي استرجاع لأسلوب الجامعة في التعامل مع الأزمة في سورية، نجد أنها حاولت استنساخ نماذج عربية ثلاث:
- النموذج الليبي: وقد حاولت الجامعة أن تلعب مع دمشق نفس الخطة التي اعتمدتها مع ليبيا سابقاً، حيث طالبت بتدخل الناتو في ليبيا، متكئة على حصار محكم للقذافي داخلياً وخارجياً؛ إذ سرعان ما وجد القذافي نفسه في عزلة، فقواته العسكرية وسياسيوه ودبلوماسيوه سرعان ما أعلنوا انشقاقهم عنه وانضمامهم إلى ما سمي "الثورة"، وانهار الدعم الدولي والعمق الاستراتيجي الإقليمي بسرعة قياسية.. وهكذا انقضّت الجامعة العربية لتزيد عزلته، وتشرّع احتلال ليبيا من قبل قوات الأطلسي، ولكن ظروف القضية الليبية مختلفة كلياً عن ظروف النظام السوري الذي يستند إلى أوراق إقليمية هامة، وإلى دعم دولي ثابت أقفل باب مجلس الأمن أمام أي محاولة لإطاحته بالقوة، وبعدما بدأت تظهر للغرب عدم إمكانية المراهنة على تفسخ النظام من الداخل وشقّ الجيش السوري، كما أظهر الشعب السوري تماسكاً واضحاً ودعماً للنظام.
- النموذج العراقي: راهنت الجامعة ومن وراءها على عمل المراقبين والتقرير الذي سيصدر للاتكاء إليه للقيام بعمل ما ضد النظام السوري، في محاولة لتكرار تجربة العراق عام 2003، حينما أرسل مجلس الأمن الدولي مراقبي أسلحة الدمار الشامل إلى العراق، والذين لم يستطيعوا منع شنّ حرب على العراق واحتلاله تحت شعارات وذرائع مختلقة، لكن ما غاب عن الجامعة العربية، أن الظروف الدولية اليوم تختلف بشكل جذري عما كانت عليه الظروف الدولية في العام 2003، حين شنّ بوش حربه على "الإرهاب"، لا بل إن أوراق القوة التي تملكها سورية، تجعل من خيار "تحالف الراغبين" الذي طبقه الأميركيون في العراق، خياراً جنونياً اليوم، وهو ما أشار إليه السفير الروسي في لبنان في أحد اللقاءات مع مجموعة من المثقفين والصحفيين اللبنانيين، عندما قال: "إن هذه لعبة خطيرة جداً، فأهمية المنطقة الاستراتيجية وحجم التناقضات الموجود، يجعل إشعال النار فيها من خلال شن حرب على سورية، يؤدي إلى إشعال المنطقة كلها، بل ستمتد النار إلى خارج المنطقة أيضاً".
- السيناريو اليمني: وبالرغم من إدراك الجامعة العربية أن سورية سترفض بشكل قاطع ما أسمته الجامعة العربية "مخرجاً مشرفاً" للنظام السوري، إلا أنها قامت باستنساخ سيناريو حل شبيه بالسيناريو اليمني، في محاولة لإحراج النظام السوري والوصول إلى التدويل، وهو الذي بدا أن الجامعة تهدف إليه من الأساس.
لعل الجميع يعلم، وحتى الذين صاغوا ما أسمي بالمبادرة العربية لحل الأزمة السورية، أن الوضع في سورية، ووضع نظام بشار الأسد، مغاير كلياً للانقسام اليمني القبلي والعشائري، وحيث للسعودية والولايات المتحدة الأميركية النفوذ الأقوى في ذلك البلد، وهما لو أرادتا حسم الوضع وحقن دماء اليمنيين لاستطاعوا القيام بذلك منذ فترة طويلة.
بلا شك، أنهت الجامعة العربية الدور العربي المنشود مبكراً جداً، وذلك من خلال اعتماد سياسة "حرق المراحل"، وعدم ظهورها بمظهر "الأخ المحايد" الراغب فعلاً بحل الأزمة وحقن الدماء في سورية.
لكن، لم يكن يُنتظر من الجامعة أكثر من ذلك، وهي التي - منذ نشأتها- لم تستطع أن تقدم لفلسطين شيئاً ملموساً سوى مبادرة عربية وُلدت ميتة، وأتت لتقدم للعدو الإسرائيلي حوافز لسلام لا يريده أصلاً وغير مستعد للبحث فيه بجدية، مما أظهر الجامعة وكأنها خارج التاريخ أو، على الأقل كمن يبني قصوراً على الرمال التي سرعان ما تأتي واقعية الأحداث لتطيح بها قبل أن يجف حبر المبادرات على الورق، هي أيضاً الجامعة نفسها، التي عتمت على تقرير اللجنة الدولية التي كلفتها تقصي الحقائق في انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي الإنساني خلال عملية "الرصاص المصبوب" في غزة، ولم تسمح باستغلاله - ولو إعلامياً - ضد إسرائيل.
للأسف، يظهر اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن العرب ينطلقون مسرعين للخروج من التاريخ والجغرافيا الدولية، فها هي الثورات تنقلب على نفسها، وتقضي على الآمال بالديمقراطية والمواطنية وحقوق الإنسان، وها هي الدول التي خرجت موحدة من نير الاستعمار في بداية القرن العشرين فتعيش هاجس التقسيم، أما الأطر العربية الجماعية فتنحر نفسها بنفسها.. مصير مؤسف، لكنه نتيجة حتمية لمن ارتضوا أن يكونوا ملحقين بسياسات دولية تعتمد الحروب بالمناظير، والقتال بواسطة الغير، حبذا لو يدرك العرب أن لا أحد في الغرب يهمه حقن الدماء، بل هم يعتمدون استراتجية "إدارة الأزمات" فقط، والجميع مستعد للقتال حتى آخر سوري وعراقي وليبي ولبناني ويمني..
ليلى نقولا الرحباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق