2012/12/07

مجلس الأمن: توسع في الصلاحيات

أقام المركز الاستشاري للدراسات  مؤتمرًا بعنوان: "شرعية التصدي لقرارات مجلس الأمن الدولي: صلاحية الدول وولاية القضاء، في بيروت- 7 كانون الأول 2012.
وكانت الجلسة الأولى برئاسة وزير العمل الدكتور سليم جريصاتي، مخصصة لمناقشة الورقة الرئيسية "مجلس الأمن الدولي: التجاوزات وإمكانية التصدي". وقدمت ليلى نقولا الرحباني، المداخلة التالية كتعقيب على الورقة:
مقدمة 
في الواقع، قامت الورقة الرئيسية التي نحن بصدد مناقشتها، بعرض الاشكاليات المطروحة فيما يختص بصلاحيات مجلس الأمن وإمكانية وشرعية التصدي لقراراته، بطريقة وافية وشاملة من خلال عرض جميع وجهات النظر المطروحة حول الموضوع قانونيًا ودوليًا، فتباينت مع بعضها وتوافقت مع بعضها الآخر، وفي كثير من الأحيان لم تُشِر الى رأي واضح وجازم للباحث في أي من وجهات النظر يؤيد، وكأنه أراد من الورقة أن تطرح الاشكاليات وتترك الحرية للباحثين والمناقشين ليدلي كل بدلوه بدون التأثير عليهم أو توجيههم الى خيار قد يُفهم منه أن المؤتمر يريد الإنحياز اليه.
وهكذا تكمن أهمية الورقة في شموليتها، وإحاطتها بجميع المواضيع وهي كثيرة وواسعة ومتشعبة،  بحيث من الصعب الإحاطة بها في ورقة واحدة.
ولمناقشة الأفكار الواردة، سأرّكز مداخلتي في عناوين ثلاث لمعالجتها:
- في العنوان الأول: طرحت الورقة إشكالية صلاحية مجلس الأمن في التشريع وتركت الباب مفتوحًا فيها للنقاش، ولإبداء الآراء، وأنا سأبدي رأيي في هذا الإطار.
- في العنوان الثاني، هو توسيع مجلس الأمن لمفهوم تهديد السلم والأمن الدوليين، التي ناقشتها الورقة بطريقة نظرية سريعة لم تؤدِ الى لفت النظر الى خطورة ما تمّ القيام به في هذا المجال في الناحية العملية وتجارب مجلس الأمن التدخلية.
- أما العنوان الثالث،  وهو حول التساؤلات المشروعة التي طُرحت حول التدخل بناءً لاعتبارات إنسانية وهي تعود الى حقبة التسعينات من القرن العشرين حين تعسّف مجلس الأمن في توسيع إطار تدخلاته بذرائع إنسانية. تبدو تلك التساؤلات بحاجة الى إعادة نظر، إذ أنها لم تعد جائزة قانونيًا بعدما تمّ قوننة هذا الأمر، في القمة العالمية عام 2005 في الأمم المتحدة.
العنوان الاول: صلاحية مجلس الأمن في التشريع
        قام مجلس الأمن الدولي في القرارين 1373، و1540 بأعمال التشريع، أي أنه أصدر قرارات عامة تطبّق ليس على حالات محددة فحسب، بل تطبّق على جميع الدول، وخارج نطاق زماني ومكاني محدد.
يدافع البعض عن هذه الصلاحية التي انتزع فيها مجلس صلاحيات تشريعية لا يقرّها له ميثاق الامم المتحدة، انطلاقًا من معايير براغماتية مرتبطة بالتطورات العالمية التي تفرض توسيع صلاحياته الضمنية أو الاستنسابية ما يساهم في تعزيز قدرته على الردّ على التحديات المستجدة خاصة في مجال الإرهاب بفعالية وسرعة، وينكر البعض الآخر عليه هذه الصلاحية.
بداية، وقبل البدء بتحديد مدى صلاحية المجلس بهذا الأمر، ينبغي لنا أن نعرّف ماذا يعني أن المجلس قام بأعمال التشريع:
 لكي نصنّف عمل بأنه من أعمال القانون (عمل تشريعي)، عليه أن يندرج ضمن الأطر التالية:
1- أن يطبّق على كل الأشخاص أو الكيانات بالتساوي، ففي حال مجابهة نفس الظروف، يجب تطبيق نفس القواعد.
2- أن يكون عامًا، أي أن لا يشرّع فقط لحالات خاصة ومحددة.
3- يجب أن يكون معلومًا من قبل هؤلاء الذين يطبق عليهم.
4- يجب أن يكون ثابتًا، وله استمرارية.
        ومن هذا التعريف، يمكن القول أنه في موضوع الإرهاب الدولي، بالفعل قام المجلس بهذا الأمر. فهل يحق له ذلك بموجب الصلاحيات المعطاة له بموجب الميثاق؟
أولاً-  بالمبدأ، الأمم المتحدة لا تحتوي على جهاز تشريعي، وكل معيار في القانون الدولي عليه أن يحظى برضى الدول الملزمة فيه، ولا تكون دولة ملزمة بقاعدة في القانون الدولي ما لم يكن لديها على الأقل الفرصة للتأثير على تطور هذا المفهوم أو القاعدة القانونية تلك.
        من هذا المنطلق، وبالرغم من أن معظم ما جاء في القرار 1373، كان قد أدرِج في قرارات سابقة، وفي المعاهدة الدولية لمكافحة تمويل الارهاب، لكن بتبني هذا القرار، واقراره بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، لم يكن لدى الدول الخيار في أن تقبل أو ترفض بإرادتها الحرّة ما فُرِض عليها من ضرورة تعديل قوانينها الداخلية لتتلاءم مع هذا القرار.
        علمًا، أن مجلس الأمن وضع قواعد للتطبيق عالميًا وبشكل مستقبلي، وتصرف كمشرّع دولي، بدون أن يعمد كمشرّع الى تعريف تلك الجريمة المعاقب عليها أي الارهاب، ولم يحدد ما هي الأعمال بالضبط التي يمكن أن توصف بأنها عمل من أعمال الارهاب.
ثانيًا- الأكيد أن مجلس الأمن ملزم بقواعد الميثاق، وبالقانون الدولي العام، والقواعد الآمرة في القانون الدولي. وليس هناك صلاحيات تشريعية لمجلس الأمن، والميثاق لا يعطي المجلس هذه الصلاحية لا صراحة ولا ضمنيًا. وحتى عندما يكون لقرارت المجلس قوة الزامية، فهذه تكون بصفته قوة لتنفيذ للقانون وليس كمشرّع، فالمجلس لا يستطيع أن يخلق تشريعات عامة للتطبيق بل هو "ينظر ويلاحظ ويقرر..." في حالات خاصة، محدودة في الزمان والمكان.
        وبما أن المجلس هو جهاز من أجهزة منظّمة دولية أقيمت بواسطة معاهدة تشكّل إطاراً دستورياً لها، وبما أن ميثاق الأمم المتحدة هو المرجع لتحديد صلاحيات مجلس الامن التي فوّضته الدول من خلاله بتلك الصلاحيات، فالأكيد، أنه لا يمكن أن تكون قدرات وصلاحيات مجلس الأمن غير محدودة، بل عليه أن يتصرف وفقًا لمبادئ وأهداف الميثاق ونيّة واضعيه.
ولتحديد، مدى صلاحية مجلس الأمن كجهاز من أجهزة الأمم المتحدة في التشريع قانونيًا ، يمكن العودة الى المادتين 31 و32 من اتفاقيات فيينا لعام 1969 حول قانون المعاهدات.
        تنص المادة 31 من تلك الاتفاقية، على أنه يجب تفسير أي إتفاقية، بحسن نيّة، وبأن يُنظر الى الاتفاقية ككل متكامل، وأن تُقرأ بشكل شامل. وتؤكد أنه عند الحاجة الى تفسير عبارة أو مادة واردة في الاتفاقية، يجب أن يُنظر الى الأهداف والغرض من الاتفاقية المتضمنة فيها، وليس كمفردة أو مادة منعزلة[1].
        وإن بقي الغموض في تفسير الاتفاقية بعد الاستناد الى المادة 31،  يمكن الاستناد الى المادة 32 والتي تدعو الى استعمال وسائل تكميلية للتفسير[2] وتلك تتضمن : العودة الى الأعمال التحضيرية، والظروف التي أحاطت توقيع المعاهدة وابرامها.
        وبالعودة الى ميثاق الأمم المتحدة، وبتطبيق هذا الأمر على العنوان المبحوث، يمكن القول أن مجلس الأمن لا يملك الصلاحية التشريعية، إذ لا ينص الميثاق على هذه الصلاحية، ولا يبدو أن نية واضعي الميثاق والظروف المرافقة قد هدفت الى إعطاء هذه الصلاحية لمجلس الأمن.
وعليه، إن مجلس الأمن الذي يشكّل هيئة سياسية وقراراته يجب ان تكون من نفس الطبيعة، أي أنها تعكس وجهة نظر سياسية وليس قضائية أو قانونية.

العنوان الثاني: توسيع مفهوم "تهديد السلم والأمن"
        الأصل في صلاحيات المجلس هو تطبيق الميثاق لحفظ الامن والسلام الدوليين، ويكون له أيضًا بشكل ضمني تفسير قواعد وأحكام الميثاق وطرح بعض القواعد التي لا يتضمنها الميثاق في مجال الامن والسلام بشكل يشبه عمل المحاكم في الاجتهاد، ويعتبر البعض هذا النوع من الممارسة بمثابة الصلاحية التشريعية الاحتياطية للمجلس. إنطلاقًا من هذه الصلاحية، توسّع مجلس الأمن بعد الحرب الباردة في الصلاحية المعطاة له في المادة 39 من ميثاق الأمم المتحدة، فتوسّع في تفسير مفهوم "تهديد السلم والأمن الدوليين". وكان الميثاق قد أدرج هذا التعبير بدون تعريف دقيق له، ما جعل مجلس الأمن يسمح لنفسه بتفسيره بطريقة واسعة جدًا بدون معايير محددة لما يمكن أن يندرج في نطاقه.
        إن الغموض وعدم تعريف المفهوم في الميثاق، والصلاحيات المعطاة لمجلس الأمن في إطار "الملاحظة" و"تقرير" وقوع عدوان أو تهديد السلم والأمن، جعلت تجارب مجلس الأمن لما بعد التسعينات، توسّع هذا المفهوم، بحيث بات يشمل انتهاكات حقوق الانسان، والديمقراطية والارهاب وغيرها.
         تدرّج مجلس الأمن في توسيع المفهوم، هو باختصار كما يلي:
أولاً- اعتبار انتهاكات حقوق الإنسان كتهديد للسلام
        أ-  في قضية العراق في القرار 688\ 1991، وفي المناقشات حول ذلك القرار، اعتبرت الدول أن التهديد يجب أن يكون عابرًا للحدود لكي يُعتبر تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، وركّزت على تدفق اللاجئين الى الدول المجاورة باعتباره مصدرًا لذلك التهديد.
ب- الصومال: أصدر مجلس الأمن العديد من القرارات الدولية حول الوضع الإنساني في الصومال[3]، الى أن صدر القرار 733\ 1992 ووسّع مفهوم "تهديد السلم" باعتباره أن الحالة الإنسانية وأعداد القتلى تعتبر تهديدًا للسلم والأمن الدوليين وليس أعداد اللاجئين المتدفقين كمسبب للتهديد كما في الحالة العراقية.
ج- أما القرار 794 (الصومال أيضًا)، فكان القرار الاول من نوعه في مجلس الأمن، الذي يفرض تدخلاً عسكريًا متخطيًا سيادة الدول لأسباب إنسانية، فقد أقرّ استخدام القوة العسكرية بموجب الفصل السابع  لتأمين ايصال المساعدات الإنسانية.
لكن تجدر الإشارة هنا، الى أن المجلس استطاع اصدار هذا القرار في ظل غياب حكومة سيّدة.

ثانيًا- عدم تحقيق العدالة الجنائية استمرار لتهديد السلام

        يبدو هذا الأمر في تأسيس المحاكم الجنائية الدولية الخاصة: يوغسلافيا ورواندا. في هذا الإطار، اعتبر مجلس الأمن إن عدم تحقيق العدالة وتقديم المتهمين الى المحاكمة يشكّل استمرارًا لتهديد السلم الدولي، أي أنه تبنى وجهة النظر القائلة: بأن العدالة الجنائية ستحفظ السلام وتؤدي اليه.
من الطبيعي أن يعرّف مجلس الأمن أعمال الإبادة والتطهير العرقي كتهديد للسلم والأمن الدوليين، ولكن هنا اختلفت آليات مجلس الأمن في تقرير الوسيلة التي يمكن من خلالها استعادة السلام والمحافظة عليه، فاعتمد آلية تدخلية قضائية كبديل عن التدخل العسكري المكلف لايقاف تلك الأعمال والانتهاكات. عرّف المجلس السلام، ونظر اليه كمفهوم ايجابي واسع وليس كما كان يُنظر اليه تقليديًا - بالمنظار السلبي- أي مجرد غياب العنف. ومع تأسيس المحاكم الدولية الخاصة، بدأ مجلس الأمن من خلال تجاربه يعتبر ان السلام كمفهوم "يفترض" المصالحة الوطنية، وتقديم المتهمين للعدالة[4].
وهكذا، ظهرت ولأول مرة تبريرات سياسية لتأسيس المحاكم فاعتبرها المجلس ضرورية لإيقاف هذا التهديد، وأضاف الى مهام تحقيق العدالة الجنائية، مهام أخرى قد لا تكون من مهام المحاكم بالأصل، وهي تحقيق المصالحة الوطنية، وحفظ الأمن والسلام.
ثالثًا- الاطاحة بالرئيس المنتخب ديمقراطيًا تهديد للسلم
وذلك في هايتي، حيث لأول مرة في تاريخ مجلس الأمن، يعتبر المجلس أن الإطاحة برئيس منتخب ديمقراطيًا هي تهديد للسلم، وذلك بالتدرج في القرارت التالية:
القرار 841\ 1993 اعتبر ان تدفق اللاجئين والتهجير والاطاحة بالرئيس المنتخب ديمقراطيًا هو تهديد للسلم.
القرار 917\ 1994 لم يشر مجلس الأمن الى اللاجئين، بل الى أن فشل السلطات العسكرية في القيام بواجباتها بموجب الاتفاق الذي تمّ توقيعه، وفشلها في تطبيق قرارات مجلس الأمن يعتبر تهديدًا للسلم والأمن في المنطقة.
رابعًا- عدم الالتزام بالقرارات الدولية هو تهديد للسلم
وذلك كما في القرارات المتعلقة بحالات:
-  السودان ( القرار 1054 \ 1996- عدم الالتزام بالقرار 1044).
-  ليبيا ( 748\ 1992- عدم الالتزام بالقرار 731).
 - افغانستان (1267 \ 1998 - عدم الالتزام بالقرار 1214).
وتجدر الملاحظة، أنه حتى في قضايا الإرهاب الدولي، وقبل أن يقوم مجلس الأمن باصدار القرارين 1373 و 1540، كان في قضية لوكربي قد اعتبر أن عدم تسليم المتهمين من قبل السلطات الليبية، وبالتالي عدم الالتزام بقراراته ذات الصلة، يعدّ تهديدًا للسلم والأمن الدوليين. في تلك القضية، لم تكن أعمال الارهاب بحد ذاتها تهديد للسلم والأمن الدوليين، بل تجلّى ذلك التهديد في عدم التزام الحكومة الليبية بمحاربة الارهاب، وعدم التزامها بقرارات مجلس الأمن المستندة الى معاهدة مونتريال، التي تنصّ على أن كل دولة لديها مشتبه بهم بالارهاب، عليها محاكمتهم أو تسليمهم.
وهنا، يمكن القول أن مجلس الأمن توسّع الى حد بعيد في توسيع مفهوم "تهديد السلم والأمن" بحيث يمكن معها اعتبار أنه قد يضم أي عمل من أعمال الدول وحتى السيادية منها.
العنوان الثالث: التدخل بناء لاعتبارات انسانية
        في الواقع، قام مجلس الأمن خاصة خلال العقد الأخير من القرن العشرين بتدخلات في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، بناءً لاعتبارات انسانية. وإن كان هذا الأمر في التسعينات يشكّل صدمة من الناحية الحقوقية كما تنقل الورقة الرئيسية عن الباحث سوريل، لكنه لم يعد كذلك بعد مؤتمر القمة العالمية عام 2005، وبالتالي، إن التساؤلات حول قانونية هذا الأمر، وحول ماهية التهديدات الانسانية التي تسمح بالعمل، لم تعد مشروعة من  ناحية مدى انطباقها مع القانون الدولي الحالي.
أما السبب فيعود لما يلي:
        خلال مؤتمر القمة العالمية 2005 تبنت دول العالم مبدأ " المسؤولية عن حماية المدنيين" فاقرّت مبدأ "المسؤولية في حماية الشعوب في جرائم دولية أربع هي: الإبادة، جرائم الحرب، التطهير العرقي، والجرائم ضد الإنسانية".  وهذا المبدأ يتمثّل في وجود مسؤولية دولية جماعية عن الحماية يمارسها مجلس الأمن – بموجب الفصل السابع-  بأن يأذن بالتدخل العسكري كـ "ملاذ أخير"، عند حدوث إبادة جماعية أو عمليات قتل أخرى واسعة النطاق، أو حدوث تطهير عرقي أو انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي، إذا ثبت أن الحكومات ذات السيادة عاجزة عن منعها أو غير راغبة في منعها.
        وتضمّن التقرير موافقة القادة المجتمعين على إقرار مسؤولية الامم المتحدة في حماية المجتمعات من خلال العمل الجماعي لمجلس الامن، لكن الموقعين استدركوا فقالوا ان "تفويض استخدام القوة من قبل مجلس الامن كرد على الابادات والتطهير العرقي، يجب ان تُدرس كل حالة على حدى.[5] case – by- case
وقد أقرّت الدول المشاركة في القمة بالإجماع، هذا الاعلان الذي صدر في تقرير "نتائج مؤتمر القمة العالمي 2005" ووقع القادة المجتمعون تعهدًا بخصوص مبدأ "المسؤولية في الحماية" أدرج في بنود ثلاثة:
-       البند 138 الذي تضمن عبارة "إننا نقبل المسؤولية وسوف نتصرف على أساسها"،
-       البند 139 الذي تضمن تعهدًا من قبل المجتمع الدولي عبر الأمم المتحدة بـ "المسؤولية"  في استخدام جميع الوسائل الممكنة من دبلوماسية وإنسانية...لحماية الشعوب من الجرائم الأربع المتفق عليها.
-       والبند 140 الذي تضمن دعم جهود إقرار اتفاقية مكافحة الإبادة.
وبعدها، بدأ المفهوم والمصطلح يدرج في صلب قرارات مجلس الأمن، فصدر لأول مرة في القرار رقم 1674\2006 الذي أعلن - بشكل واضح – تأكيده على "أحكام الفقرتين138 و139 من الوثيقة الختامية لمؤتمر القمة العالمي لعام 2005 بشأن المسؤولية عن حماية السكان من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية"[6].
ثم كرّت السبحة فتوالى إقرار مبدأ "المسؤولية في الحماية"  في العديد من قرارات مجلس الأمن[7] حول دارفور وبورما وغيرها... وفي شباط 2011، تبنى المجلس القرار رقم 1970، بتحويل القضية في ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية، بسبب – بحسب ما أُعلن- فشل نظام القذافي في "حماية مواطنيه"[8]، وكان هذا القرار أول سابقة دولية يحوّل فيها مجلس الأمن قضية إلى المحكمة الجنائية الدولية - بشكل واضح- لمنع الارتكابات والانتهاكات تماشيًا مع مفهوم "المسؤولية".[9] ثم أعقبه مجلس الأمن بقرار يحمل الرقم 1973[10] والذي فوّض تدخلاً عسكريًا في ليبيا تحت عنوان "المسؤولية عن حماية المدنيين"[11].
من كل ما تقدم، يمكن القول أن الأمم المتحدة وبإجماع الدول الأعضاء عادت فقوننت ما كان مجلس الأمن قد قام به في إطار تدخلاته "الانسانية" المختلفة، ردًا على انتهاكات حقوق الإنسان، أي أنها استطاعت أن تُدخل - نوعًا ما- ضوابط وحدود قانونية للممارسة في هذا الإطار.


[1] انظر: الفصل الثالث من الاتفاقية: تفسير المعاهدات
المادة 31: القاعدة العامة في التفسير
1- تفسر المعاهدة بحسن نية ووفقاً للمعنى الذي يعطى لألفاظها ضمن السياق الخاص بموضوعها والغرض منها.
2- بالإضافة إلى نص المعاهدة، بما في ذلك الديباجة والملاحق، يشتمل سياق المعاهدة من أجل التفسير على ما يلي:
(أ) أي اتفاق يتعلق بالمعاهدة ويكون قد تم بين الأطراف جميعاً بمناسبة عقدها؛
(ب) أي وثيقة صدرت عن طرف أو أكثر، بمناسبة المعاهدة، وقبلتها الأطراف الأخرى كوثيقة لها صلة بالمعاهدة.
3- يؤخذ في الاعتبار، إلى جانب سياق المعاهدة، ما يلي:
(أ) أي اتفاق لاحق بين الأطراف بشأن تفسير المعاهدة أو سريان نصوصها؛
(ب) أي تعامل لاحق في مجال تطبيق المعاهدة يتضمن اتفاق الأطراف على تفسيرها؛
(ج) أي قاعدة ملائمة من قواعد القانون الدولي قابلة للتطبيق على العلاقات بين الأطراف.
4- يعطى معنى خاص للفظ معين إذا ثبت أن نية الأطراف قد اتجهت إلى ذلك.
[2]  المادة 32: الوسائل التكميلية في التفسير
يمكن اللجوء إلى وسائـل تكميلية في التفسير، بما في ذلك الأعمال التحضيرية للمعاهدة وملابسات عقدها، وذلك لتأكيد المعنى الناتج عن تطبيق المادة 31 أو لتحديد معنى النص حين يكون من شأن التفسير وفقاً لتلك المادة:
(أ) أن يترك المعنى غامضاً أو غير واضح؛ أو
(ب) أن يؤدي إلى نتيجة غير منطقية أو غير مقبولة.
[3]  أصدر مجلس الأمن 17 قرارًا حول القضية الصومالية خلال الفترة الممتدة بين كانون الثاني 1992 وتشرين الثاني 1994.
[4]  وفي تعليله للقرار 918 استند مجلس الأمن الى المادة 39 التي تقول أن على المجلس أن يستعيد ويحفظ السلم والأمن الدوليين، لذا من خلال هذه الآلية يريد المجلس ليس فقط تأمين الأمن والسلم بل والمحافظة عليهما.
[5]  على أن يتوصل المجلس إلى رؤية مشتركة بشأن طريقة تقدير خطورة التهديد، ومشروعية الهدف المتوخى من العمل العسكري المقترح، وإمكانية النجاح بشكل معقول في وقف التهديد باللجوء إلى وسائل أخرى غير استعمال القوة، وتناسب الخيار العسكري مع التهديد المطروح، ووجود حظوظ معقولة للنجاح". انظر:
A/RES/60/1, 24 October 2005, 60/1.  2005 World Summit Outcome, pp. 1- 30. www.un.org.

[6] S/RES/1674 (2006) – part 4
أنظر:  نص القرار1674 الذي اتخذه مجلس الامن في جلسته5430 المنعقدة في 28 نيسان 2006، والمتعلق بشأن حماية المدنيين في الصراعات المسلحة. الفقرة الرابعة.
[7] أنظر على سبيل المثال لا الحصر:  نصوص القرارات:1706، 1714،1769، وخاصة القرار 1755 الذي أعاد التأكيد على مبدأ المسؤولية.
[8]  أنظر نص القرار رقم  1970 الصادر في 26 شباط 2011.
[9]  كان القرار 1593 الصادر في 31 آذار 2005، قد أحال قضية دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، لكنه لم يشر إلى مبدأ "المسؤولية عن الحماية" صراحة، لكنه أشار فقط إلى "انتهاك القانون الدولي الإنساني". أنظر نص قرار مجلس الأمن رقم 1593، على الموقع الرسمي للأمم المتحدة.
[10]  أنظر نص القرار على الرابط التالي:
[11] وذلك بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973 هو قرار أصدرته الأمم المتحدة بتاريخ يوم الخميس 17 آذار 2011 كجزء من رد الفعل الدولي على ثورة 17 شباط في ليبيا، والتي طالبت برحيل القذافي. الأمر الذي جعله يعلن الحرب عليها، وقد فرض القرار عقوبات عدة على حكومة القذافي الليبية تتضمن حظر الطيران فوق ليبيا وتنظيم هجمات مُسلحة ضد قوات القذافي الجوية لمنعها من التحليق في الأجواء الليبية وإعاقة حركتها.
وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر قرارًا سابقًا بشأن ليبيا، رقم 1970 وقد اتخذه مجلس الأمن بالإجماع فرض  بموجبه عقوبات دولية على نظام معمر القذافي وفوض المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في الجرائم التي اقترفتها قوات القذافي ضد المدنيين الليبين. لكن القرار لم يخول أي دولة بالدفاع عن المدنيين الليبين أو اللجوء للقوة لحمايتهم.
ووجه قرار مجلس الأمن رقم 1973 ببعض الشكوك والمَخاوف من أطراف مختلفة بشأن الأهداف الخفية من ورائه، ولذا فقد تكررت تصريحات البيت الأبيض ووزير الخارجية البريطاني ويليام هيغ عدة مرات بأن الهجمات التي يُنظمها القرار لن تهدف إلى احتلال ليبيا أو استعمارها، وإنما ستكتفي بحماية المدنيين وصد قوات القذافي، بينما لن يَتدخل المجتمع الدولي في قضية تغيير النظام الحاكم أو خلع معمر القذافي من الحُكم... لكن بالرغم من كل تلك التصريحات، قام الناتو باحتلال ليبيا، وتمّ خلع القذافي وقتله بطريقة وحشية ومهينة من قبل معتقليه من الثوار، في ظل صمت دولي مطبق.

2012/12/05

مناقشة كتاب البطريرك كيريل الأول




أقام المركز الثقافي الروسي بالتعاون مع مركزية مسيحيي المشرق بندوة حول كتاب بطريرك روسيا، كيريل الاول، وعنوانه: حرية الانسان ومسؤوليته : التناغم بين حقوق الانسان وكرامته" وذلك في المركز الثقافي الروسي- فردان في 5 كانون الأول  2012.  وقد ناقش الكتاب كل من المونسنيور كميل مبارك، والدكتورة ليلى نقولا الرحباني.
وهذا نص المداخلة التي القتها الدكتورة ليلى نقولا الرحباني:
تكمن أهمية هذا الكتاب في صراحته ووضوحه، إذ لم يلبس البطريرك كيريل قفّازات خلال عرض أفكاره، ولم يحاول أن يلبس لباسًا غير روسيًا ليلاقي الآخر في منتصف الطريق، بل أعلن بكل صراحة عن نفسه وثقافته وروسيته، بدون أن يرفض فكرة أن روسيا يمكن لها أن تتقبل فكرة العالم المتعدد الأقطاب، الذي يحتضن بانسجام، أشكالاً ونماذج حضارية مختلفة.
       لا شكّ أننا قد نتفق مع البطريرك كيريل في بعض الأفكار والتصورات، وقد نختلف معه في الكثير منها أيضًا، ولكن لا يمكننا أن ننظر الى الكتاب الا من زاوية ظروفه الثقافية والتاريخية وخصوصيته الروسية. تلك الروسيا الخارجة من إرث طويل من الالحاد، ومن تاريخ طويل من الصراع الثقافي والحضاري مع الغرب، انعكست بصورة جليّة في جنبات هذا الكتاب وفي الأفكار التي جسّدها البطريرك في دفاعه عن كنيسته، التي تعرضت لكثير من الضغوط خلال فترة الحكم الشيوعي، وتتجلى في تصميمه الأكيد على استعادة ما فات، أو ما قد تعرّض للتسيب من خلال إعادة الرعية الى حضن الكنيسة بشتى الوسائل.
برأيي، لا يمكن قراءة الكتاب إلا من خلال الادراك بأنه موجّه الى خاصيته الروسية أكثر مما هو موجه للأمم، أو لمجتمعاتنا العربية.
تعيش المجتمعات العربية حرمانًا هائلاً في احترام معايير حقوق الانسان، ولا ينقصها من يدعوها الى التشكيك بها، كما إن الغرب يعيش حذرًا من المفاهيم الروسية، تشابه المحاذير التي يطرحها البطريرك من المفاهيم الغربية، فإرث من عدم الثقة بين الاثنين لا يمكن أن يمحوه عقدان من الليبرالية والبريسترويكا. وعليه، يكون كتاب البطريرك تعبيرًا صريحًا عما يخالج المجتمع الروسي من شكوك، ودعوة قد تكون صارمة نوعًا ما، تريد أن تدفعه دفعًا الى حظيرته الكنسية من جديد والتي لا يبدو أنه ابتعد عنها كثيرًا بالرغم من عقود عجاف عاشها ايمانيًا وروحيًا وكنسيًا.
       قد نختلف مع البطريرك كيريل في تصوراته، خاصة فيما يتعلق بحقوق الانسان، وكرامته التي نعتبرها نحن كرامة كيانية مرتبطة بوجود الانسان ككل وقيمته المستمدة من ذاته وليس من خاصيات أخرى أو معايير ثقافية أو حضارية أو دينية أو جنسية وغيرها.
       كما قد يكون لنا نظرة مختلفة حول علاقة المجتمع بالكنيسة ومفاهيم حقوق الإنسان والحرية وغيرها. وقد يكون لنا نحن العلمانيين، الكثير من التحفظات على ما طرحه من أفكار ومبادئ، ولكن ما لا يمكن أن ننكره هو أن البطريرك بما يمثله، يمكن أن يعطي للآخر صورة واضحة عن "مَن نحن" وبماذا نؤمن لكي يستطيع الآخر أن يحدد مدى قربه أو بعده عن هذا الأفكار، ويعطيه صورة حقيقية عما يمكن أن يرسمه من نقاط مشتركة كمنطلق للبحث في المشتركات، على أمل أن يكون هناك حوار جدي يتم الانطلاق فيه الى بحث الاختلافات في تصوراتنا.
       بكل الأحوال، نقدّر للبطريرك كيريل صراحته، فهو في كتابه عبّر بوضوح عن خصوصية مجتمعه وثقافته، وعن أفكار صاغتها تجربة بطريركية خاصة وروسية عامّة، تجربة موسوم بعضها بالشكّ فيما يأتيه من الآخر، وبعضها من إرث من القهر والشمولية، وبعضها من تجربة حديثة مع الليبرالية طبعها الفساد والابتعاد عن القيم الأخلاقية. لكننا نشهد له إنه لم يحاول أن يغلق الابواب مع ذلك "الآخر" بل اعتبر أنه يمكن له إيجاد نقاط مشتركة مع الآخرين، واعتبر أنه يمكن لروسيا أن تقدم مثالاً عن الوحدة في التنوع، وأن تقدم نموذجًا للنظام العالمي الجديد، الذي لا يستند الى وحدة عديمة الشخصية في إطار معايير مفروضة بالقوة، ما يؤدي الى كارثة حضارية حتمًا، بل يكون الواحد الجامع في جوهره هو التمسك بالقيم الأخلاقة السرمدية.

2012/11/29

"ربيع الإخوان" في خطر

نُشر في الثبات 29 تشرين الثاني 2012
حسناً فعل “الإخوان” في مصر بأن ألغوا التظاهرة التي كانت مقررة يوم الثلاثاء الماضي، رداً على تظاهرة المعارضين ضد قرارات الرئيس المصري  محمد مرسي الأخيرة، فالانقسام الذي تشهده الساحة المصرية ينذر بشرّ مستطير، قد لا تسلم منه مصر كلها، فيما لو التحمت المظاهرتان وسالت الدماء في الشارع.
من خلال “إعلانه الدستوري” يكون الرئيس محمد مرسي قد قام بخطأ استراتيجي كبير، سيعود بالخسارة الكبيرة عليه، وعلى الجماعات التي يمثلها، ليس في مصر فحسب، بل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ككل، ويمكن إدراج عوامل سوء التقدير المؤدي إلى الخطأ في ما يلي:
-   يعلم الرئيس مرسي أن المصريين يعيشون إحباطاً لا مثيل له، فهم يعتبرون أنهم خرجوا إلى ثورة، ووجدوها تُسرق أمام أعينهم، وهكذا يكون قد أخطأ في المراهنة على قدرة تحمّل المصريين، وعلى إمكانية “بلع” إعلانه الدستوري، بعدما استطاع سابقاً أن يمرر إحكام السيطرة على السلطة التشريعية والتنفيذية والإعلام والعسكر، من دون اعتراضات تُذكر.
-    لم يتحسّب مرسي للعوامل الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المتردية في مصر بشكل لم يسبق له مثيل، فالشعب المصري الذي تئنّ غالبيته من الجوع، كان قد وضع آمالاً وتوقعات بتحسّن الأحوال بعد استتاب الحكم الجديد، فإذا بالبطالة ترتفع نسبتها، ولا سياحة تنشّط الاقتصاد، ومظاهر التشدد والانقسامات السياسية تؤدي إلى هروب رؤوس الأموال، وهبوط البورصة.
-   أراد الرئيس مرسي أن يستغل الانتصار الذي تحقق في غزة، فقام مسرعاً بمحاولة إعلان سيطرته على القضاء المصري، قبل أن يجف حبر الهدنة الموقعة بين المقاومة الفلسطينية و”إسرائيل”، متوهماً أنه يستطيع استثمار ما تصور أنه فائض قوة إقليمي ودولي تحصّل لديه، حين أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما إعجابه ببراغماتيته، وامتدحه أفيغدور ليبرمان وشيمون بيريز على أنه رجل دولة، ولم ينتبه مرسي إلى أن مديحاً من المتطرف الصهيوني ليبرمان ورئيسه بيريز، يعني أن عليه أن يقلق، فإما أنه قام بعمل مضرّ بأمته، أو أنهم يريدون تشويه سمعته في أنحاء العالم العربي.
-   اللافت للنظر أن الرئيس المصري كان قد اتخذ قراراته السلطوية دائماً بعد مقابلة المسؤولين الأميركيين، بما يشير إلى أنه قد استحصل على ضوء أخضر منهم، فقد أقال المشير طنطاوي والفريق عنان بعد أن قابل وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، وألغى الإعلان الدستوري المكمل، الذي قلّص فيه العسكر صلاحيات الرئيس، بعد مقابلة ويليام بيرنز؛ نائب وزيرة الخارجية الأميركية، وقام بإعلانه الدستوري الأخير بعد مقابلة هيلاري كلينتون مجدداً.
وبهذا الإطار، يبدو أن مرسي لم يتعظ من تجربة صدام حسين، الذي لطالما تمتّع بدعم أميركي غير مسبوق خلال حربه التي دامت ثماني سنوات مع إيران، وفي النهاية، قامت السفيرة الأميركية آبريل غلاسبي بتشجيعه على الدخول إلى الكويت، من خلال التلميح بأن هناك ضوءاً أخضر أميركياً بذلك، سرعان ما تبيّن أنه فخ دفع ثمنه كل من الكويت والعراق وصدام حسين نفسه.
ولعل فائض القوة المتحصل الذي استشعره مرسي، من إرهاق الشعب والضوء الأخضر الأميركي، ونشوة انتصار إعلامي على “إسرائيل”، جعله يقدم على تلك المغامرة، التي قد تكون إحدى نتائجها أمرين:
- أن تدفع حدة الانقسام السياسي والاحتقان الطائفي وانتشار السلاح، مصر إلى حرب أهلية لن تكون قصيرة الأجل، بسبب تداخل العوامل الإقليمية والدولية والمذهبية والدينية.. وحرب كهذه، إن اندلعت، لن تنتهي إلا بتقسيم مصر، الذي سيشكّل بدوره نوعاً من الدومينو يؤدي إلى تقسيم معظم دول شمال أفريقيا.
- خسارة حلم المشروع “الإخواني” الأممي الذي ظهر بعد الثورات العربية، إن فشل حكم “الإخوان” في مصر، أو حتى تعثّره، وظهوره كديكتاتورية دينية سيكون له تداعيات تشبه تداعيات مقتل السفير الأميركي في ليبيا، حيث سيعيد الأميركيون تقييم سياساتهم في المنطقة، ويعيدون النظر في الدعم الذي يقدمونه لهم، ما يؤدي إلى ترجيح كفة الحل السياسي مع النظام في سورية، وعودة تركيا إلى حجمها الطبيعي، وعودة حماس إلى حضن إيران، ومزيد من الضغوط على الحكم الجديد في تونس وغيرها..
انطلاقاً من كل ذلك، وانسجاماً مع سياساتهم البراغماتية، لا يبدو أن هناك حلاً أمام الرئيس مرسي وجماعة “الإخوان” إلا إعادة النظر في السياسة التي ينتهجونها، والقبول بمبدأ التعددية في مصر، والتوقف عن التعويل على الدعم الخارجي، وذلك لأن استمرارهم في محاولة الاستئثار قد يؤدي إلى أحد الأمرين السابقيْن أو كليهما معاً.

2012/11/21

عن أي استقلال تتكلمون؟

لمناسبة عيد الاستقلال اللبناني، تحاول الدولة اللبنانية من خلال الاستعراض العسكري ومنح يوم عطلة سنوي، أن تُكسب هذه المناسبة أجواءً احتفالية، لا يبدو أن أحداً من اللبنانيين يشعر بها، أو يصدّق تحقّقها، باعتبار أن معايير استقلال دولتهم ما انفكت تتناقص يوماً بعد يوم.
بُعيد انسحاب الجيش السوري من لبنان، عاش بعض اللبنانيين أملاً بتحقيق استقلال وسيادة تُنهي عهد الوصاية، وتُخرج الدولة من عجزها، وتدخلها إلى مصاف الدولة المستقلة السيدة التي تملك حرية قرارها وتمسك بجميع مفاصل إدارة الحكم، وتحقق ما يطمح إليه اللبنانيون من سيادة واستقلال، لكن الاستئثار بالحكم الذي حصل، والأزمات التي عاشها اللبنانيون، أجهضوا أي أمل بالتفاؤل أو بصيص نور يمكن أن يلوح في الأفق البعيد.
مبدأياً، ترتبط السيادة بمفهوم استقلال وحرية الإرادة، لذلك يعد الاستقلال السياسي شرطاً لازماً لتمكين الدولة من ممارسة مظاهر سيادتها على الصعيديْن الداخلي والخارجي، فتكون ممارسة السيادة في جانبين؛ داخلياً، ويعني امتلاك الدولة سلطة شرعية مطلقة على جميع الأفراد والمجموعات التي يتعين عليها إطاعة السلطة السيدة داخل إقليمها، وخارجياً، أي الاستقلال عن كل رقابة وتدخل من أية دولة أخرى أو منظمة دولية. بعبارة أخرى، يُفترض في السلطة السياسية التي تجسد إرادة الدولة وتمارس مظاهر السيادة باسمها أن تكون مستقلة وموحّدة، وفي وضع يمكّنها من فرض إرادتها وسيطرتها في الداخل وهيبتها واحترامها في الخارج، وأن تكون قادرة على التعامل بنديّة وتكافؤ مع الدول الأخرى.
فأين الدولة اللبنانية من هذه المعايير؟
- من الناحية الأمنية: يعيش اللبنانيون تناقصاً يومياً في شعورهم بالأمان والاستقرار، وتتناقص هيبة الدولة وقدرتها على ممارسة سلطاتها وسيادتها على القرارات الأمنية في البلاد. فها هو الشيخ أحمد الأسير يعلن نيّته وعزمه على إنشاء ميليشيا مسلحة لاستباحة أمن صيدا واستقرارها، ولتهديد السلم الأهلي من خلال دفع البلد إلى فتنة سنية - شيعية قد لا تسلم منها المنطقة العربية بأكملها في حال اندلاعها. أما عناصر "الجيش السوري الحر" وبعض المجموعات الإرهابية الأخرى، فتستبيح الشمال وجزءاً من البقاع اللبناني. وفي مشهد شبيه بسبعينات القرن الماضي، من خلال السيطرة على جزء من الجنوب، أو ما سُمّي فيما بعد "فتح لاند"، حاول بعض المسلحين السوريين، بمعاونة أطراف لبنانية من قوى 14 شباط، القيام باقتطاع مناطق لبنانية في الشمال للاستئثار بحكمها، والانطلاق منها إلى تقويض استقرار الدولة السورية.
- من الناحية السياسية: يعيش اللبنانيون اليوم على وقع التطورات الحاصلة في الميدان السوري، فكلما احتاج الغرب وبعض العرب إلى تصعيد ما، أو دخان يحجب الأنظار عن الخسائر التي تتكبدها المعارضة في سورية، قام حلفاؤهم اللبنانيون بتصعيد سياسي، وأمني أحياناً، للتعمية والاستحصال على مكاسب سياسية داخلية تعوّض ما يتمّ خسارته في سورية.
- من الناحية القضائية: تنازلت الدولة اللبنانية عن سيادتها القضائية في التحقيق ومحاكمة المتهمين في قضايا الاغتيال التي يثبت أنها مرتبطة باغتيال الحريري، وقد قامت الحكومة اللبنانية التي وقّعت بروتوكول التعاون مع الأمم المتحدة بالتنازل كلياً عن السيادة للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي تستهلك من أموال المكلّف اللبناني أموالاً طائلة، وقد نصّت المادة الرابعة من النظام الأساسي أن للمحكمة الدولية الخاصة ضمن اختصاصها أسبقية على المحاكم الوطنية في لبنان، وأن المحاكم اللبنانية تتنازل عن كامل اختصاصها لصالح المحكمة، وهو أمر لم تفعله دول أعجز وأقل تقدّماً من الدولة اللبنانية، كسيراليون وكمبوديا وغيرهما.
- من الناحية الاقتصادية: تعيش البنوك والأسواق المالية اللبنانية تحت رحمة منظمات الرقابة الدولية، خصوصاً الأميركية منها، التي تقوم بالتجسس على البيانات المالية، والتحقيق في جميع التحويلات المالية بذيعة "مكافحة الإرهاب". ومؤخراً قامت بعض المنظمات غير الحكومية وغير التابعة لأي هيئة دولية رسمية، بتهديد القطاع المصرفي اللبناني، وتوجيه أسئلة إلى حاكم المصرف المركزي أقل ما يقال فيها إنها انتهاك خطير لسيادة لبنان، وتدخل سافر في شؤونه الداخلية.
بالنتيجة، تشهد الدولة اللبنانية منذ الاستقلال وحتى اليوم تدخلات شتى في شؤونها الداخلية، ويبدو لبنان مسرحاً للكثير من العمليات الأمنية، وعمليات الحروب القذرة التي تقوم بها الاستخبارات العالمية؛ من مخططات اغتيال، إلى محاولات انقلاب، إلى بحث في تغيير أنظمة ومناطق عازلة، وحروب بالوكالة. في المقابل، يفسح معظم السياسيين اللبنانيين المجال لتلك التدخلات، فينتظرون "كلمة سر" خارجية لاتخاذ قرارات سيادية لبنانية صرف، ويربط معظمهم مصيره ومصير الوطن والشعب اللبناني بمصالح دول خارجية أجنبية وعربية لا همّ لها إلا مصلحتها القومية الخاصة.
في النهاية، ألا يحق للبناني أن يسأل: "بربّكم، عن أي استقلال تتكلمون؟ وبماذا تحتفلون"؟

2012/11/15

الفتنة السنية - الشيعية.. محاذيرها ونتائجها


نُشر في الثبات في 15 تشرين الثاني 2012
كان محقاً السيد حسن نصرالله في التحذير في خطابه الأخير من انجرار البعض، سواء بقصد أو بغير قصد، إلى السير في مشروع فتنة سنية - شيعية، يرمي الغرب وبعض العرب إلى إشعالها، وهي إن حصلت وتمّت كما يُخطط لها، فستؤدي إلى تدمير لبنان والمنطقة على رؤوس أبنائها جميعهم، ولن تنأى من تداعياتها دولة عربية أو مسلمة في العالم.
بالفعل، أصاب السيد نصرالله في تنبيه الرأي العام الإسلامي إلى مخاطر الوقوع في فخ الفتنة تلك، فمن خلال ما نلاحظه من قراءة التقارير الغربية، ومن المؤتمرات الدولية التي نشارك بها، يمكن لنا استخلاص أهداف خطيرة جداً يرمي إليها مخططو تفجير الفتنة السنية - الشيعية، والتي يسير بها بعض المسلمين المدفوعين بدافع المذهبية البغيضة، من دون إدراك تداعياتها عليهم وعلى الأمة ككل
ولعل أبرز ما يمكن إدراجه من أهداف ذلك المخطط، يمكن اختصارها بما يلي:

أولاً: إدخال المسلمين في أتون نار مذهبية دينية بين بعضهم البعض، وذلك لإلهائهم عن الأخطار الحقيقية المحدقة بهم، وأهمها الصراع العربي - "الإسرائيلي"، والمشروع الغربي الذي يرمي إلى السيطرة على المنطقة اقتصادياً وثقافياً وعسكرياً.

ثانياً: تجفيف نبع الروحانية الإسلامية، وهنا يتحدث بعض الخبراء الغربيين عن ضرورة إدخال الإسلام إلى نفس "الأتون" المذهبي الديني الذي دخلت فيه أوروبا المسيحية في القرون الوسطى، والتي لم تخرج منها إلا وقد خسرت روحانيتها، وتخلى المجتمع عن تديّنه، ولفظ الكنيسة والدين، وبات من السهل اختراقها بكثير من البدع اليهودية التي دخلت إلى المسيحية وشوّهتها من الداخل، ودفعت بعض المسيحيين إلى الإيمان بالعهد القديم والأساطير التوراتية التي جاء المسيح لتصحيح النظرة إليها.
وبنفس السيناريو، لا بد من اختراق الدين الإسلامي بالبدع البعيدة عن جوهر الإسلام - وهو ما نشهده اليوم من انتشار الفتاوى الغريبة والمريبة في آن - والتي تجعله بحاجة إلى ثورة إصلاحية تُخرجه من البدع تلك، والتي لن تتم إلا بإضعافه وتجويفه.
ولكي يعيد التاريخ الأوروبي نفسه مع المسلمين هذه المرة، يجب أن يتمّ حكم بلاد المسلمين من قبل مؤسسات دينية متعصبة، تقوم بما قامت به الكنيسة على يد "بابوات" القرون الوسطى، فتقضي تلك الحركات الدينية المتعصبة، التي ستحكم بلاد الإسلام، على كل مظاهر الفكر والتقدم والانفتاح والتعايش، وتُغرق المسلمين بالتعصب والجهل، وتسلط عليهم فتاوى التكفير (كما تسلطت الكنيسة على الأوروبيين بتُهم الهرطقة).. والنتيجة، وكما في أوروبا، حرب دينية بين السنّة والشيعة تمتد مئة عام أو أكثر، يخرج بعدها المسلمون أضعف إيمانياً وسياسياً، وبعدها يخرجون إلى عصر الأنوار، فيسيطر الفكر المادي على الروحاني، وعندها يمكن لهم أن يخرجوا إلى العالم بفكر يدعو إلى فصل الدين على الدولة، ويدخلون في عصر نهضة حقيقية مشابهة للنهضة الأوروبية.

ثالثاً: تفتيت المنطقة إلى دويلات تقسَّم على أساس عرقي أو طائفي، ما يجعل من وجود "إسرائيل" كدولة يهودية أمراً طبيعياً في محيط من الدويلات المتناحرة طائفياً، وقد تكون "إسرائيل" حينها قبلة تلك الدويلات التي يمكن لها أن تسعى للتحالف معها - باعتبارها دولة قوية عسكرياً وتكنولوجياً ومدعومة غربياً - للقضاء على أعدائها من الدويلات الأخرى. والنتيجة تكون إنهاء القضية الفلسطينية، وإسقاط حق العودة نهائياً، وتوطين الفلسطينيين اللاجئين في أماكن وجودهم في تلك الدويلات الطائفية، التي لن ترفضهم، باعتبارهم جزءاً من انتمائها المذهبي، وهم "أخوة" في الدين قد يعززون وضع الدويلة الطائفية تلك.

رابعاً: القضاء على الوجود المسيحي في الشرق، ويبقى للمسيحيين وجود في بعض المناطق القليلة جداً التي تستطيع أن تقيم دويلتها القابلة للحياة، ومنها دولة الأقباط في سيناء، ودولة جنوب السودان..
أما في لبنان، فيتوهم بعض المسيحيين أنه سيكون لهم كونتونهم الخاص، يستأثرون بحكمه في ظل تحقق هذا السيناريو، ولذا يدفعون تلك الفتنة المذهبية دفعاً إلى الأمام، ويستميتون في إذكاء نارها، وهو ما لفت إليه السيد نصرالله أيضاً.
لكن، ما يبدو واضحاً من خلال قراءة كل المعطيات، أن القضاء على الوجود المسيحي في لبنان يبدو ضرورة لنجاح المخطط، باعتبار أن المناطق المسيحية تشكّل عازلاً بين المناطق السنيّة والشيعية، ولا بد من إزالة الدويلة - الحاجز إما بالتهجير، أو بتدفيعهم ثمن وجودهم بين جبهتين متقاتلتين، وجعلها غير قابلة للحياة بخنقها.
في المحصلة، إن المرحلة الصعبة التي نمرّ بها تحتم على السُّنة والشيعة والمسيحيين العقلاء في لبنان والعالم العربي، أن يعوا إلى أن وجودهم ومصيرهم ومستقبلهم مرهون بمدى وعيهم بما يحاك للمنطقة، وإن المصلحة الخاصة التي يحلم البعض بتحقيقها من فتنة سنية - شيعية، لن تُبقي شيئاً من الوطن كله لحكمه أو الاستئثار به.

2012/11/06

الاعلام ومنظمات المجتمع المدني: بين تلاقي الأهداف وتصادمها


شاركت ليلى نقولا الرحباني في المؤتمر الإقليمي حول "رؤية مستقبلية للإعلام العربي ومنظمات المجتمع المدني" الذي أقيم في فندق ميريديان هليوبوليس القاهرة- مصر وذلك على مدى يومي 3 و 4 تشرين الثاني 2012.

وقدمت المداخلة التالية بعنوان :
الاعلام ومنظمات المجتمع المدني:  بين تلاقي الأهداف وتصادمها
مقدمة
        لقد باتت منظمات المجتمع المدني أحد أدوات التغيير الفعًالة في عصرنا الراهن، وبعد أن توسع نشاط هذه المنظمات وتطور عملها، وبات المجتمع الدولي مدركًا لأهمية دورها ونشاطه، وركّزت عليها المنظمات التابعة للأمم المتحدة، ما أدى الى انتقالها من الأدوار التقليدية أي التنمية والخدمات الى ممارسة نشاط أساسي في الدفاع عن الديمقراطية والحريات العامة وتمكين المرأة ومحاربة الفساد بأنواعه كافة. وبمعنى آخر، باتت مهمة منظمات المجتمع المدني ومنها المنظمات العربية، تمكين المجتمعات العربية من أجل الانتقال من واقعها السيء ونقلها من مفهوم الرعية إلى مسار المواطنية والمشاركة في بناء المجتمع.
وبما أن عملية الانتقال هذه ارتبطت مع مسار وقفزة تكنولوجية كبيرة فرضتها معايير العولمة الجديدة، كان لا بد للاعلام من أن يواكب هذا التطور لا إنه بات جزءًا أساسيًا لا يتجزأ من مضامينه بحيث لا يمكن الاشارة الى هذا التطور بدون لفت النظر الى تطور موازٍ حصل في الاعلام.
        من هنا، وبما أن آليتي العولمة تلك تسيران جنبًا الى جنب في صنع مسار عولمي جديد، ويقومان كل في نطاقه بتغيير في الأطر والبنى التقليدية السائدة في المجتمعات، ويحركان ثقاقتها السائدة ويفرضان عليها أن تسير في عجلة التطور الحضاري، كان لا بد من مقاربة موضوعية لعلاقة كل من الاعلام ومنظمات المجتمع المدني، ودراسة آلية تعاون فعّالة بينهما تؤدي الى تحقيق أهداف المجتمع المنوي خدمته.
وفي مقاربة تلك العلاقة الشائكة بين آليتين من آليات التغيير الاجتماعي، يمكن أن نرصد مسارين مختلفين يرتبطان بمدى تقارب الأهداف أو تصادمها، مع ما يستتبع ذلك من محاذير وعراقيل وعلاقات تفاعلية.

أولاً- حين تلاقي الأهداف
        ليس هناك مواصفات محددة للعلاقة بين الإعلام والمجتمع المدني يمكن اعتبارها مقياسًا أو مؤشرًا لعلاقة جيدة أو فاعلة إلا حين يكون للاثنان أجندات تقترب في أهدافها من الآخر أو تبتعد عنه. لذا يمكن القول أن العلاقة بين الطرفين علاقة تكاملية، وعلاقة تأثير وخدمات متبادلة، في حال كان للطرفان أهداف متقاربة أو متطابقة. وعندها، تقوم علاقة فعّالة ومثمرة بين وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني في حال كانت تراعى المصالح المشتركة لكلا الطرفين، أو حين تلتقي الأهداف المعلنة أو غير المعلنة لكل منهما، فتنخرط وسائل الإعلام في الحملات التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني، وتتبناها كإحدى قضاياها الأساسية، فتساهم في إثارة الرأي العام وتعبئته، لا بل تساهم في صناعة ذلك الرأي العام القادر على الاستجابة إلى تحديات التغيير .
وهكذا تقوم علاقة تشاركية مصلحية ربحية للجميع، ويمكن أن تتجلى هذه العلاقة التكاملية بتأمين الحاجات المشتركة لكل منهما:
        - بالنسبة لمنظمات المجتمع المدني: في مراحل التخطيط للحملات الميدانية والتي تستهدف التغيير على مختلف مستوياته، تفرد تلك المنظمات حيزًا بارزًا  للتواصل مع الأعلام لادراكهم بأهميته في المساهمة في انجاح تلك الحملة، وذلك من خلال قدرته على الوصول الى أوسع نطاق من الشرائح المجتمعية التي يصل اليها الاعلام ويحاكيها في البيوت والمصانع والمدارس والجامعات وغيرها. فبلا شك لا يمكن لأي حملة أن تنجح بدون تأمين تغطيتها الإعلامية، وهو دور أقرب لان يكون إعلانيا ترويجيًا يهدف الى توعية الجمهور على القضايا المطروحة، ما يؤدي الى استقطابه.
        - أما الوسيلة الاعلامية ذات الأجندة الاجتماعية أو السياسية أو سواها، فهي تسعى بشكل دائم لاستقطاب أكبر عدد من الجمهور لتأمين ايصال رسالتها ونشرها. وهكذا، يكون من مصلحتها أن تقوم بالخدمة الاعلانية لمؤسسات المجتمع المدني التي يمكن أن تسهم في تنفيذ أهدافها الاستراتيجية. فيكون لها مصلحة في ابراز تلك المؤسسات، والتسويق لها، فكلما كبرت المؤسسة الحليفة وانتشرت اعلاميًا، كلما كان تحقيق الأهداف مضمونًا أكثر.
        علمًا أنه لا يمكننا في هذا المجال، أن ننكر مدى ضرورية وأهمية التفاعل بين الاعلام، خاصة الاقليمي أو الدولي، ومنظمات المجتمع المدني  الذي يبدو  حاجة ملحة لكل منهما في البلدان النامية، التي تحتاج الى تضافر الجهود لتحقيق التنمية ونشر الوعي وتفعيل أطر المجتمع المدني كافة.  وقد تزداد تلك الحاجة في الدول التي تعاني من أزمات حادة في مجالات حقوق الانسان خاصة، أو تعيش صراعات دموية. فالاعلام لا يستطيع أن يغيب عن الحدث وإلا خسر المشاهد - الزبون، لذا يحتاج  الى منظمات فاعلة في الميدان،  يستند اليها في الحصول على الأخبار والاطلاع على التفاصيل الميدانية، ما يسمح له بتخفيف الأعباء المادية والبشرية بإرسال صحفيين الى مناطق النزاع. في المقابل، إن المجتمع المدني ومؤسساته تحتاج الى ابراز قضيتها من خلال تغطية اعلامية تهدف للتأثير على الرأي العام المحلي والعالمي وتأمين التعاطف، فيكون للاعلام القيام بهذه المهمة. وفي هذا الإطار يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، منظمات مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس واتش، اللتان باتتا المصدر الأهم لمعلومات الاعلاميين في كثير من البلدان التي تعاني من الصراعات.

ثانيًا - حين تصادم الأهداف
        كما ناقشنا سابقًا، إن ما يحكم العلاقة بين الاعلام ومنظمات المجتمع المدني هو معيار المصالح المشتركة، وتلاقي أجندات وأهداف كل منهما أو تباينها.
        ولعل السمة الطاغية على تلك العلاقة بين منظمات المجتمع المدني والاعلاميين خاصة في المجتمعات العربية، هي التشكيك فنرى أن عامل الثقة مفقود نوعًا ما بين الاثنين، فالعاملون في منظمات المجتمع المدني يشككون بكفاءات الإعلاميين وبمدى اطلاعهم على الملفات بشكل كاف بما يمكنّهم من التعبير عنها أو معالجتها بطريقة جيدة، ويعتبرون أن الاعلام لا يهتم للقضايا الانسانية الا بقدر ما تكون قصصًا مثيرة تشكّل سبقًا صحفيًا، وتلبي مصالحهم التسويقية، ولذلك هم يبحثون عن النجوم من الوجوه السياسية فيعطونهم الأولوية والاهتمام على حساب الأنشطة التي تنظمها منظمات المجتمع المدني.
وبالمقابل، يتهم الإعلاميون منظمات المجتمع المدني بحب الظهور وبمحاولة تلميع صورتها من خلالهم، والوصولية والانحياز إلى جهاتها المانحة، وان أغلب هذه المنظمات هدفها البحث عن الشهرة من خلال الظهور الاعلامي، وفي كثير من الأحيان تفتقر هذه المنظمات الى المبادئ التي تنادي بها.
        وهكذا، في حالة تباين الاهداف أو تصادمها، يكون التواصل مفقودًا تقريبًا بين الاثنين، وعليه وبما أن الاعلام يشكّل سلطة أقوى من سلطة منظمات المجتمع المدني وهو الطرف الأقدر على الوصول الى الرأي العام، فتكون الغلبة في هذه العلاقة المتوترة للاعلام على المنظمات غير الحكومية. فقد يقوم الاعلام ببروباغندا تهدف الى تشويه حملة مدنية وضرب مصداقيتها في نظر الرأي العام بالرغم من عدالتها وأحقيتها، أو يعمد الى تهميش قضية ما والتعتيم عليها، لتدخل طي النسيان بالرغم من أهميتها ومن حجم العاملين فيها من المجتمع المدني، أو ببساطة قد يتجاهلها.
        الاستثناء في هذا المجال، هو العلاقة بين الإعلام والاحزاب بصفتها جزءًا من مؤسسات المجتمع المدني، فالأحزاب تكون في بعض الأحيان أقوى من المؤسسات الاعلامية وقادرة على التأثير والضغط عليها، وذلك لجعلها تعبّر عن رأيها وتسوّق لها وإلا تعرضت لحظر من قبلها. وهنا، في هذا الاطار، وتفاديًا لتصادم الأهداف والأجندات بين الطرفين، تقوم الاحزاب عادة بتأسيس أو تمويل وسائل اعلامية خاصة بها، وذلك لتسويق مبادئها وللوصول الى الرأي العام والقيام بالاستقطاب والتعبئة الجماهيرية بطريقة أسرع.
       
ولعل الدليل الفعلي على ما تحدثنا عنه من تلاقي أو تناقض الأهداف، هو النتيجة التي أسفرت عنها دراسة أجرتها كلية الإعلام بجامعة القاهرة بالتعاون مع كلية الإعلام بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا عام 2008[1]، وقد أدت الى استخلاص جوهري يثبت ما يلي:
أ-  إن الدور المؤثر الذي تضطلع به ملكية الصحيفة والتيار الفكري الذي تعبر عنه ومن ثم سياستها التحريرية في تقديم صورة معينة لدور المجتمع المدني في مصر.
ب- أثر السياسة التحريرية للصحيفة والتوجّه الذي تعبّر عنه في اختيار المصادر الصحفية مما يسفر عن توجيه المعالجات الصحفية نحو إبراز سمات معينة لصورة المجتمع المدني واستبعاد سمات أخرى، والتأكيد على موقف معين يتفق والسياسة التحريرية للصحيفة والأهداف التي تبغي تحقيقها وتهميش مواقف أخرى[2].
ونبرز ذلك من خلال الأمثلة التالية:
كان إطار الحريات المدنية والحقوق النقابية أكثر بروزًا في الصحف الخاصة والحزبية، في حين ندر الاهتمام به في الخطاب الصحفي للصحف القومية عينة البحث. وقد ظهر ذلك في اهتمام "المصري اليوم" بإطار الحريات النقابية والعمالية وتوسعت في نشر أخبار وتحقيقات عن التدخل الحكومي في العمل النقابي وفى الانتخابات النقابية والعمالية ووركزت على انتقادات منظمة العمل الدولية لمصر في ذلك الشأن، وقد تم تجاهل مثل هذه الموضوعات تمامًا في صحيفتي الأهرام وأخبار اليوم.
كما أن الصحف الخاصة التي تتبنى قيمًا ديمقراطية ليبرالية أعطت مساحة لنشر وتغطية أخبار المجتمع المدني انطلاقًا من رؤيتها الخاصة لأهمية نشر أفكاره والتعرف على دوره بهدف تنمية هذا الدور، لذا سعت إلى تناول بعض القضايا الشائكة التي تواجه المجتمع المدني مثل إشكالية التمثيل والتعددية النقابية، وهو ما تم إغفاله عمدًا في الصحف القومية محل البحث.

ثالثًا- محاذير لا بد من الاشارة لها
        ما زال من المبكر اليوم القول أنه في الاطار العالمي أو الاقليمي العربي أو حتى المحلي، أن شراكة رسمية ومفتوحة بين الطرفين باتت متحققة، بالرغم من أن بعضًا من أشكال التعاون فيما بينهما موجود منذ مدة طويلة، وبدرجات متفاوتة خاصة في الإطار الفردي حيث تقوم وسائل الاعلام المختلفة باستضافة ناشطي المجتمع المدني في التقارير الاخبارية والبرامج الحوارية وغيرها.
        ولعل أهم المحاذير التي يجب التعاطي معها بشكل حذر، هو تلك العلاقة التفاعلية التي تبنى على تلاقي الاهداف والأجندات السياسية لكل من الإعلام ومنظمات المجتمع المدني. فبالرغم من أن الجميع يسعى الى تفعيل تلك العلاقة باعتبارها مشجعًا على التغيير وعلى تطور المجتمعات وسعيها نحو كسر الاحتكار الحكومي أو الاستبداد، ولكونها قد تكون حافزًا على زيادة الوعي والتنمية في المجتمع، إلا أن تلاقي الاجندات أيضًا قد يكون له تداعياته الخطيرة على المجتمع المنوي خدمته، بحيث أن فائض القوة المتحصل من تلك العلاقة قد يبيح التعسف أو يغطي فرض أجندات خارجية أو احتلال وغيرها.

أ- تنفيذ أجندات خارجية
        الشواهد التاريخية في هذا الإطار لا تعد ولا تحصى، وسنذكر على سبيل المثال لا الحصر، كيف قام الاعلام الأميركي بالتحالف مع منظمات حقوق الانسان، في الضغط على مجلس الأمن لقبوله بقرار أميركي بالتدخل في البوسنة والهرسك، (وبغض النظر عن أحقية التدخل أو عدمه، وهو ليس من ضمن اختصاص هذه الورقة) بل من مهمتها الكشف عن كيف يمكن للعلاقة التفاعلية بين الاعلام ومنظمات المجتمع المدني أن تؤدي الى تشريع تدخلات في شؤون الدول الأخرى وتنفيذ أجندات خارجية:
        استمرت الحرب في البوسنة والهرسك أعوامًا عدة (1992- 1995)، وكانت عدم وحدة الموقف في مجلس الامن حول سبب النزاع البوسني وطبيعة القضية، قد عرقلت قدرة المجلس على استصدار قرار بتدخل عسكري في النزاع، علمًا أن الولايات المتحدة الأميركية كانت القائد الاول الذي طرح  - بشكل مبكر- قضية التدخل العسكري، لكن بغياب دعم قوي لهذا التوجه من قبل الاعضاء الدائمين في مجلس الامن، لم يكن الدعم الاميركي وحده كافيًا للحصول على تفويض بالتدخل من قبل مجلس الامن.
        واستمرت المراوحة في مجلس الأمن، الى أن قام الاعلام، الاميركي خاصة، بطرح القضية كقضية تطهير عرقي[3]. وبدأت وسائل الاعلام العالمية تتناقل أخبار المجازر والارتكابات، وسوّقت ما مفاده ان مجزرة سريبرينتشا هي "مجزرة يقوم بها المسيحيون الصرب بحق المسلمين في البوسنة والهرسك"[4].
وهكذا، ومع نشر الصور الاعلامية المرعبة، وصدور تقارير لمنظمات حقوق الانسان، والتي أشارت الى <<امكانية>> وجود مقابر جماعية في صربيا، تمّ دعم التوجه الاميركي في مجلس الأمن الدولي، وجعل الدول المعارضة ترضخ لخيار اللجوء الى القوة[5]. وهكذا كانت نتيجة تحالف الاعلام ومنظمات حقوق الانسان الضغط على مجلس الأمن للتدخل العسكري في بلد ذا سيادة.

ب- بروز معضلة الخطر الاخلاقي[6] Moral Hazard  
        بتطبيق هذه النظرية على العلاقة التفاعلية بين الاعلام ومنظمات المجتمع المدني، نستطيع ان نقول أن تلاقي أهداف كل منهما، قد يسمح بطمس الحقيقة وتشويهها، وذلك من خلال تضخيم الحدث بجعله شيئًا غير مسبوق، أو تقزيمه لطمس حقيقته وطيّه في غياهب النسيان. وبدون أن ننسى تأثير الاعلام أو ما يطلق عليه أكاديميو العلاقات الدولية اسم-CNN effect  - والذي يستعين بتقارير ميداينة موثقة ذات مصداقية،  لصناعة رأي عام مساند لقضيته وبالتالي تأثير هذا في الضغط على أصحاب القرار".[7]
        على سبيل المثال، في حال شعرت مجموعة داخل دولة ما انها تريد الانفصال، أو تريد تغيير النظام القائم والوصول الى السلطة لكنها لا تستطيع لانها ضعيفة، او لأن ميزان القوى ليس في صالحها، فانها تقوم بأعمال إجرامية تتجاوز الحد المعقول، وذلك لجعل الاعلام ينقل صور تلك المجازر، وتُظهر تقارير حقوق الانسان أعدادًا هائلة من الضحايا... وهكذا، يزيد حد الاجرام، لكي يبلغ حد الابادة او الجرائم الكبرى الموصوفة، فيكون التأثير أكبر والضغط الخارجي أكبر لايقاف تلك الانتهاكات والمجازر[8].

خاتمة
        في النهاية، لا بد من أن ننوّه بحاجة المجتمعات العربية الى مزيد من العمل على القضايا الاجتماعية والتنموية والحريات الأساسية، وهذا يتطلب تعاون فعّال ومثمر بين الطرفين، ويحتاج الى وعي أكبر من قبل المؤسسات الاعلامية وادراكها أن لها مصلحة في المساهمة في تفعيل وتمكين المجتمع المدني ما  سيعود عليها بفوائد جمّة، فالمجتمع المدني المنظّم القوي والفعّال يمكن له أن يحمي تلك المؤسسات من بطش السلطة ورقابتها وتعسفها، كما لا يمكن للاعلام أن ينمو ويتطور إلا بوجود مساحة من الحرية واحترام حق الاختلاف والتنوع.




[1] نشرت تفاصيلها في دراسة أعدها الباحث والكاتب الصحفي: خالد الكيلاني، إشكاليات العلاقة بين الإعلام ومنظمات المجتمع المدني
(الصحافة القومية والخاصة والحزبية)، منشورة على الانترنت على الرابط التالي: http://www.ahewar.org/m.asp?i=1876
[2] المصدر نفسه.

[3] خاصة عندما اظهرت وسائل الاعلام العالمية مشاهد المجزرة حصلت في سريبرنتشا في سوق شعبي في اب 1995، حين كان المواطنون يقفون في صفوف للحصول على الخبز فتعرضوا لنيران قناص.
[4]علمًا أن صحيفة الغارديان البريطانية في عددها الصادر في 22 نيسان 2002، أكدت ان المحققين في مجزرة سريبرنتشا، توصلوا الى اكتشاف دامغة عن ضلوع الولايات المتحدة الاميركية في تمويل المجموعات الاسلامية الانفصالية ومدهم بالسلاح، بالاضافة الى ضلوع البانتغون بـ"حرب قذرة".
Richard J Aldrich, America Used Islamists to Arm the Bosnian Muslims: The Srebrenica Report Reveals the Pentagon's Role in a Dirty War, in Guardian, April 22, 2002.
[5] باستثناء روسيا التي رفضت الادعاءات لكنها لم تضع فيتو، والصين التي وافقت على الاسباب ولكنها رفضت خيار اللجوء الى القوة.
[6] "معضلة الخطر الاخلاقي" –  نظرية معتمدة جدًا في تأمين السيارات- ترمز الى حالة تشجع بطريقة غير متعمدة، أعمالاً غير مرغوبة، وذلك لان القائمين بهذه الاعمال يشعرون بأنهم محميين بشكل كامل من نتيجة أعمالهم. وبتعريف أوضح، يعني "الخطر الاخلاقي"، تحفيز لاشخاص أو مؤسسات للقيام بأعمل خطرة لا يقومون بها عادة، وذلك لاعتقادهم ان أحدًا ما سيتحمل تبعة أعمالهم ونتائجها وتداعياتها اذا كانت سيئة للغاية. انظر:
Auger Vincent, Defining the Moral Hazard Problem in Humanitarian Intervention, paper prepared for the Annual Meeting of the Midwest Political Science Association Chicago, IL April 2007.
[7]  Nicholas wheeler,”the humanitarian responsibilities of sovereignty: explaining the development of a new norm of military intervention for human purposes”,in humanitarian intervention and international relations, ed. Jennifer welsh,oxford university press,UK,2004, p.40.

[8] Timothy W. Crawford, Moral Hazard Causal Arguments: A Conceptual and Methodological Appraisal, paper prepared for delivery at the Annual Meeting of the American Political Science Association, September 2-5, 2004