عقدت الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية ندوتها السنوية الثانية لمناهضة عقوبة الاعدام، وكانت الجلسة الرابعة برئاسة ليلى نقولا الرحباني، بعنوان: نحو إرادة متزايدة لإلغاء عقوبة الاعدام...احصاءات وانجازات وعقبات.
وفي ما يلي نص الكلمة التي ألقتها:
محور جلستنا الاخيرة في هذا اللقاء هو بعنوان: نحو إرادة متزايدة لإلغاء عقوبة الاعدام. والسؤال الذي يطرح نفسه تلقائيًا: هل هناك بالفعل إرادة دولية وعربية ومحلية متزايدة لإلغاء تلك العقوبة؟.
واقعيًا ودوليًا، يتجه القانون الجنائي الدولي اليوم، الى تطوير مفاهيم العدالة الجنائية، فيبرز فيه بوضوح تراجع مفهوم العدالة الثأرية الانتقاميةRetributive justice لصالح مفهوم العدالة الاصلاحية التصحيحية Restorative justice التي تسعى للخروج من الإطار التقليدي للعدالة الذي يعتمد التشديد السلبي على العقاب كهدف بحد ذاته الى مفهوم بنّاء أكثر، تتركز فيه العدالة ليس على معالجة خطأ حصل في الماضي فحسب، بل تهدف بشكل أوسع الى بناء مجتمع أفضل في الحاضر والمستقبل.
وإذا كانت مفاهيم العدالة المستحدثة تلك، مرغوبة ومعتمدة في التعامل مع إرث هائل من الانتهاكات والفظائع، ومع أشخاص ومسؤولين عن أعمال إبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، أي للمعاقبة على جرائم قتل الآلاف من البشر، فتسعى لتأطير أنواع جديدة من العدالة التي يغلب عليها طابع المصالحة، فكيف يمكن لمَن قتل الآلاف من البشر أن يُمنح عقوبة مخففة بهدف الحفاظ على السلام، بينما جريمة قتل امرئ واحد تقود مرتكبها الى الاعدام؟.
ترجع أسس عقوبة الاعدام في عصرنا الحديث، الى مبدأ حمورابي الشهير "عين بعين، وسن بسن، وحياة بحياة". وبالرغم من أن عقوبة الاعدام عُرفت منذ ما قبل شريعة حمورابي بقرون، إلا أن القسوة التي اشتهرت بها تلك الشريعة كانت غير مسبوقة كقانون مكتوب، باعتبارها قد نصّت على الموت كعقوبة عن أربعٍ وثلاثين جريمة، ومعظمها لا يحترم مبدأ التناسب بين العقوبة والجرم المرتكب، حيث كان "الاعدام" عقابًا للقتل، وخطف ابن رجل حر، وشهادة الزور، والاتهام بدون دليل، والسرقات الكبرى والزنا والاغتصاب وسرقة المعابد، وحتى لمجرد إحداث صدعٍ في منزل[1]...، أما طرق التنفيذ فكانت تتسم بالوحشية والبربرية، وذلك إما عن طريق الغرق أو الحرق أو وضع المذنب على العامود أو غيرها من الأساليب الفائقة القسوة.
قد تكون تلك الأحكام مناسبة لذلك الزمان، بما أن القانون هو ابن البيئة والثقافة التي ينتمي اليها. لكن، هل مَن يمكن له أن يدافع اليوم عن صوابية الحكم بالاعدام على سقراط وغاليليه و آخرين ممن اتهموا بالسحر والشعوذة والهرطقة؟.
واذا أردنا أن نتعمق في ظلم تلك الاحكام التاريخية، ونثبت أن مظلومين سيقوا الى المشنقة أو انتُزعت منهم حياتهم وهم أبرياء، فقد يكون أشهر مظلوم حوكم بالاعدام في تاريخ البشرية ككل هو يسوع المسيح.... لقد كان "الاعدام" عقوبة التمرد على السلطات بموجب القانون الروماني السائد آنذاك، أما الصّلب فقد اختير لأن طريقة تنفيذ الحكم كانت تختلف بحسب الطبقة الاجتماعية التي ينتمي اليها المحكوم، فإذا كان ينتمي إلى طبقة عليا أو يشغل منصبًا ساميًا عوقب بالنفي، وإذا انتمى إلى الطبقات المتوسطة عوقب بقطع العنق، أما إذا كان من الطبقات الدنيا، فيعاقب بالصلب... وهكذا كان عقاب "المتمرد" يسوع المسيح "ابن النجار"، الإعدام صلبًا، تنفيذًا للقانون وتطبيقًا للعدالة!!!
ونعود الى السؤال المحوري في هذه الجلسة: هل نتجه بالفعل نحو وعي متزايد بضرورة الغاء عقوبة الاعدام، وكيف يمكن ذلك؟
برأيي، لا يمكن لهذا الوعي أن يتشكّل ألا من خلال:
أولاً: التأكيد أن عقوبة الإعدام تنتمي الى ثقافة عهود بائدة قديمة كما الرّق والاستعباد . ولماذا مسموح لبشر اليوم أن يتخلوا عن الاسترقاق والاستعباد واعتبار الاتجار بالبشر جريمة شائنة، بينما يبقى التمسك بمبدأ "حياة بحياة والقاتل يقتل" مبدأ صالح للاستخدام كأساس للعدالة الجنائية بعد مضي ما يقارب 3700 سنة على تلك النصوص القديمة التي شرّعت الرقّ والاعدام بالتساوي؟
ثانيًا: التأكيد أن العدالة لا تتطلب إراقة مزيدٍ من الدماء، هي تتطلب فقط عقابًا منصفًا لجريمة مثبتة، فبدل أن نزيد ضحية جديدة الى سجل الضحايا، علينا ان نعلّم الجميع أهمية الحق بالحياة، لأن العطش للثأر والانتقام لا يمكن أن يرتوي مهما أزهقت أرواح ومهما قُدم من ذبائح.
ثالثًا: الادراك العميق أن العدالة بمعناها الواسع، وكما نفهمها، لا تعني الانتقام، وبالتالي لا يحقق "الإعدام" إلا إشباعًا لغرائز الثأر لدى ذوي الضحايا، ولكنه لا يصحح خطأ، ولا يجبر أضرارًا، ولا يسمح لذوي الضحايا بالشفاء من خلال ممارسة "المسامحة والغفران"، والقبول بإمكانية المصالحة اللازمة لاستمرار المجتمع وبناء السلام.
[1] نصت المادة ( 21 ) من قانون حمورابي على أن "مَن أحدث صدعًا بمنزل، يعاقب فاعله بحشره داخل ذلك الشق الذي أحدثه حتى يقضي نحبه".
انت رائعة يا ليلى
ردحذف