مناقشة كتاب "الخديعة" لمحمد حسين بزّي – دار الامير
ليلى نقولا الرحباني
معرض الكتاب الدولي – 14 كانون الاول 2011
أود أن أشكر الاستاذ محمد حسين بزي لاختياري لمناقشة كتابه الجديد (الخديعة: يوم اغتالت الفوضى الخلاقة رفيق الحريري) واهنئه على نشر هذا الكتاب التوثيقي، الذي يمكن ان يشكّل مرجعًا لكل باحث مهتم بقضية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، نظرًا لاحتوائه على كمّ من الوثائق الخاصة بالموضوع والتي جُمعت في كتاب واحد مما يسهل عملية التفتيش عنها.
وسوف ادرج ملاحظاتي في المضمون:
الملاحظة الاولى:
كما أشرت سابقًا، أراد الكاتب لكتابه أن يكون كتابًا توثيقيًا مرجعيًا في موضوع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وقد نجح في ذلك، لكن نلاحظ أن الطابع التوثيقي طغى على الطابع التحليلي الذي لو أهتم فيه أكثر لسمح للقارئ بإدراك حجم تلك الخديعة وأسسها، وفهمٍ أوسع لمكوناتها.
1- على سبيل المثال يذكر الكاتب في الصفحة 61 أن مبدأ التسوية المطروح حول اتهام "عناصر غير منضبطة" من حزب الله قد تؤدي الى محاولة ايجاد خيوط تصل الى القيادة، لكنه لم يتوسع في شرح كيف يمكن أن يتم ذلك.
في الواقع، إن ما أدرجه الكاتب في هذه النقطة حقيقي وواقعي، لإن نظام المحكمة الأساسي احتوى على مادة خطيرة للغاية هي المادة الثالثة، وفيها مبدآن قانونيان يؤديان الى تلك الخلاصة التي أوردها الاستاذ محمد بزي في كتابه.
المبدأ الاول يندرج في البند الثاني من تلك المادة، ويتحدث عن "المسؤولية الجنائية الفردية للرئيس عن مرؤوسيه أي أن "الرئيس يتحمل المسؤولية الجنائية عن الجريمة التي يرتكبها مرؤوسون يخضعون لسلطته وسيطرته الفعليتين، وذلك أما:
- نتيجة لعدم سيطرته سيطرة سليمة على هؤلاء المرؤوسين.
- أن يكون عرف أو تجاهل عن عمد أي معلومات تبين بوضوح أن مرؤوسيه يرتكبون أو هم على وشك أن يرتكبوا تلك الجريمة،
- إذا لم يتخذ الرئيس جميع التدابير اللازمة والمعقولة لمنع أو قمع ارتكاب مرؤوسيه للجريمة أو لعرض المسألة على السلطات المختصة للتحقيق والملاحقة القضائية.
على هذا الاساس فإن السيد نصرالله وقيادة حزب الله بأكملها ستكون متهمة ومسؤولة جنائيًا عن الافعال التي تدّعي المحكمة أن عناصر من حزب الله قاموا بها، لا بل انهم يتحملون مسؤولية جنائية أيضًا في حال لم يتخذوا التدابير اللازمة بتسليم المتهمين للسلطات المختصة أي المحكمة الدولية.
أما المبدأ الثاني والاخطر في المادة الثالثة نفسها، فيندرج في البند الاول: وهو الإدانة بموجب مبدأ قضائي مستحدث في القانون الجنائي الدولي يطلق عليه اسم "المشروع الجنائي المشترك" joint criminal enterprise، والذي تعتمده المحاكم الدولية منذ عام 1999، وبالتحديد منذ الحكم الذي أصدرته محكمة يوغسلافيا في قضية تاديتش، والذي اعتُبر علامة فارقة في القضاء الجنائي الدولي، وهو السابقة القانونية التي اعتمدت عليها المحاكم الدولية الأخرى فيما بعد لإدانة المتهمين بموجب "القصد المشترك" أو "الهدف المشترك". بموجب هذا المبدأ يدان جنائيًا كل من انتمى لمجموعة لديها نفس النية الجرمية من ضمن هدفها المشترك، أو في حال كانت الجريمة "نتيجة طبيعية ومتوقعة" للهدف المشترك الذي وضعته المجموعة لنفسها، حتى لو لم يكن هذا الهدف المشترك جرميًا في الأساس.
وهذا يعني أن المحكمة تتحضر لمساءلة جزء كبير أو "كل" من ينتمي إلى حزب الله، وتحميلهم مسؤولية جنائية فردية، لوجود هدف مشترك أو أهداف مشتركة للحزب، كفرض سيطرته على لبنان مثلاً أو تقوية نفوذه، أو غير ذلك من الأهداف التي قد تعتبر المحكمة أن "اغتيال الحريري" جاء "نتيجة طبيعية ومنطقية لها".
الملاحظة الثانية:
بالرغم من أني اوافق على التسلسل التاريخي الذي سرد فيه الكاتب انتقال الاتهام من سوريا الى حزب الله في لبنان، ولكن بنهم القارئ لمعرفة خفايا واسرار الخديعة بشكل أكبر، كنت أتمنى لو أفرد لهذا الانتقال مساحة كافية ولم يحصرها بصفحة واحدة فقط هي الصفحة 58. كنت أتمنى لو أضاء الكاتب على المعطيات التاريخية والاستراتيجية التي أملت هذا الانتقال من اتهام سوريا الى اتهام حزب الله، بالرغم من انه منذ اغتيال رفيق الحريري ولغاية العام 2009 لم يتم ذكر حزب الله في التقارير التي أصدرتها "لجنة التحقيق الدولية المستقلة" كل ثلاثة أشهر، ولم يكن هناك مَن تداولَ في هذا الامر الا وسائل الاعلام الاسرائيلية التي تحدثت عن هذا الامر مباشرة بعد الاغتيال، فقرار اتهام حزب الله باغتيال الحريري جاء اسرائيليًا، منذ اليوم الأول للاغتيال.
إذًا، بالرغم من أن شيراك حدد مهمة المحكمة منذ البداية وقبل تأسيسها الفعلي، بـ "قتل النظام السوري" كما أورد فرنسوا نوزَيّ حرفيًا في كتابه "سر الرؤساء"، ولكن معطيات عدة فرضت التحول من اتهام سوريا الى حزب الله، برأيي، أهمها:
- السبب الاول استراتيجي: فقد تحولت المقاومة في لبنان بعد حرب تموز 2006 إلى قوة عسكرية وسياسية بالغة التأثير، ليس على المستوى اللبناني فحسب، بل على المستوى الإقليمي أيضًا؛ فتحالفها الوثيق مع سوريا وايران، ودعمها للمقاومة في فلسطين، بالاضافة الى تحولها الى مصدر إلهام للمقاومات الاخرى في المنطقة وأهمها المقاومتين الفلسطينية والعراقية ، زِدْ على ذلك نظرة التعاطف والاعجاب التي يخصّها بها معظم مسلمي العالم بسبب دورها في الحاق هزيمة باسرائيل لطالما تمنوها....كل هذا جعل حزب الله مصدر تهديد استراتيجي لاسرائيل، وللسياسة الأميركية في المنطقة، لذا كان من المفيد التركيز عليه وتشويه صورته من خلال "شيطنته" وتحويله الى مجموعة من القتلة الارهابيين، وارساء سيناريو غرائزي مذهبي، يزرع الحقد في نفوس مسلمي المنطقة والعالم ويقسمهم الى "سنّة" يكرهون المقاومة ويتخلون عن تمجيدهم لها باعتبارها مجموعة "شيعية" قتلت رئيس وزراء لبنان "السنّي"، وقسم آخر يدعمها ويتعرض لشتى انواع الاتهامات بالعمالة لايران ومحاولة ارساء الهلال الشيعي في المنطقة.
- السبب الثاني محلي: فالأحداث التي حصلت في أيار 2008، والتي استطاع فيها حزب الله أن يحطم "الوهم" الذي بناه الاميركيون بامكانية قيام وكلائهم الداخليين بالتخلص من حزب الله ونزع سلاحه بعد دعم مادي وعسكري ولوجستي واعلامي استمر لسنوات أسقطه الحزب في يومين اثنين.
- السبب الثالث اقليمي: ارتاح الاميركيون في العراق بعدما استطاع جورج بوش أن يوقع اتفاقيتين هامتين مع الحكومة العراقية؛ هما اتفاقية الاطار الاستراتيجي والاتفاقية الامنية، ولا يمكن القول أنه كان يمكن للأميركيين الحصول على موافقة جميع القوى السياسية العراقية على الاتفاقيات تلك بدون مباركة ايرانية وسورية لذلك.
لذا، يمكن التكهن، أن عدول المحكمة عن اتهام سوريا، واطلاق سراح الضباط الاربعة في نيسان 2009، قبيل الانتخابات النيابية اللبنانية بقليل، أي في توقيت قاتل سياسيًا بالنسبة لحلفاء واشنطن وداعمي المحكمة الدولية، وتوجّه سعد الحريري الى مصالحة النظام السوري والاعتذار عن اتهامه، وانقلاب جنبلاط الدراماتيكي الخ... كان جزء من صفقة سياسية حصلت في المنطقة في اواخر العام 2008 أراحت الاميركيين في العراق وأسقطت الاتهام عن النظام السوري، وظهرت نتائجها في لبنان بتقلص نفوذ الحريرية السياسية وتراجع حدة الخطاب السياسي المعادي لسوريا.
- الملاحظة الثالثة والاخيرة هي حول الخلاصة – العنوان.
يدل عنوان الكتاب على الخلاصة التي تعكسها وثائقه، أي محكمة تمّ تسييسها وهي في الاصل فاقدة الشرعية القانونية والدستورية اللبنانية، بالاضافة الى مسارها الملتوي والمليء بالانتهاكات وهو ما أفقد اللبنانيين الثقة بها كما تشير استطلاعات الرأي المختلفة. وكنت أتمنى لو ادرج الكاتب هذه الاستطلاعات في كتابه التوثيقي حول المحكمة، وخاصة أنه أدرج في الصفحة 57 تواجد تيارين في لبنان الاول يدافع عن المحكمة والثاني يتهمها بالتسييس، وحبذا أيضًا لو لفت الكاتب الى نسبة كل من هذين التيارين في الساحة اللبنانية، لان ما أدرجه أوحى أن التيارين يتساويان من حيث النسبة وهذا ما تدحضه الاستطلاعات المحلية والدولية التي أستفت اللبنانيين حول الموضوع[1]، والتي منها نستنتج أن غالبية اللبنانيين توافق الكاتب محمد حسين بزّي على الخلاصة التي توصل اليها في كتابه الجديد وهي ان المحكمة الدولية الخاصة بلبنان هي بالفعل "خديعة".
في النهاية، أود أن اهنئ الكاتب على كتابه الجديد وعلى اختياره الموفق للعنوان، فأنا لطالما احترت في وصف مناسب يمكن أن نطلقه على تلك المحكمة، التي نعلم جميعًا مدى تسييسها. البعض أطلق عليها صفة "المؤامرة" ولكن الادبيات السياسية العربية كانت قد اتخمت بعبارات المؤامرة، ونظريات المؤامرة حتى بات اطلاق صفة "المؤامرة" على شيء تآمري فعلي، يعتبر نوعًا من المبالغة أو اللغة الخشبية البائدة. ومن المفكرين والباحثين من قال انها "فيلم أميركي" أو فيلم انتاج سينمائي"، أو خطة للتخلص من المقاومة والى ما هنالك من أوصاف، وهنا تأتي "الخديعة" لتضيف اليهم عنوانًا جديدًا لمحكمة فقد اللبنانيون بمعظمهم الثقة بها.
ومن نموذج محكمة لبنان أنتقل لأشير الى فقدان الثقة بالعدالة الدولية، والتأكيد أن المحاكم الدولية بشكل عام مسيسة وهي أدوات دولية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهنا أنا أجزم أن لا مبالغة في الأمر، وليس هناك اطلاق صفات تضخيمية لحجم الفساد وعدم العدالة فيها، ولا نسقط تمنياتنا ووعينا الشخصي للأمر، لأن تجارب المحاكم المختلفة والابحاث التي جرت حولها والتي نجريها نحن تؤكد هذا الامر.
مبروك محمد حسين بزي، أوافقك الرأي بأن تلك المحكمة هي "خديعة" تلبس لباس العدالة الدولية لتنفيذ أهداف سياسية تخدم أهداف المشروع الاميركي المرسوم للشرق الاوسط.
[1] - الاستطلاع الاول الذي يمكن أن نشير اليه، هو استطلاع الدولية للمعلومات والذي أجري في أيلول 2011، والذي ظهر بنتيجته أن أكثر من نصف المستطلعين (54%) عبروا عن اعتقادهم ان المحكمة الدولية مسيّسة، وخالفهم نحو ربع المستطلعين (26%) الرأي فاعتبروا أن المحكمة نزيهة ومحايدة وغير مسيّسة، واعتبر 3% أنها في نقطة وسط بين التسييس والنزاهة، وأجاب 17% غير معني.
- أما الاستطلاع الثاني فهو الذي قامت به مؤسسة عالمية هي «مؤسسة پيختر لإستطلاعات الرأي في الشرق الأوسط» خلال تشرين الثاني– كانون الأول 2010 ، وأظهرت النتائج أن:
- 85 بالمائة تماماً من الشيعة الذين شملهم الاستطلاع اعتقدوا بـ"صورة قوية" أن المحكمة لم تكن حرة أو نزيهة.
- أغلبية المسيحيين (55 بالمائة) قالوا بقوة أيضًا إن المحكمة لم تكن حرة ونزيهة، و42 بالمئة من المسيحيين قالوا "نوعًا ما".
- 60 بالمئة من السنّة اللبنانيين وصفوا المحكمة أنها حرة ونزيهة بـ "قوة"، بينما 29 بالمئة منهم أيدت هذا الموقف "نوعًا ما".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق