يعيش لبنان منذ تأسيسه مخاطر جمّة، منها ما يتعلق بوجوده في منطقة زلازل سياسية ومشاكل إقليمية دائمة منذ تأسيس دولة إسرائيل، ومنها ما هو بنيوي يرتبط بهيكلية الفساد المعشش في البنى السياسية والاجتماعية والإدارية منذ ما قبل تأسيس دولة لبنان الكبير، بالإضافة إلى استفادة هذا الفساد من البنى الطائفية ونظام المحاصصة الطائفي المستمد من نظام الملل العثماني الذي أنشأ ما يشبه فيدرالية الطوائف المتناحرة على الوطن.
واليوم، وبعد وصول الوطن إلى مستويات منحدرة من الانهيار الاقتصادي الاجتماعي الذي ضرب الفئات الشعبية كافة، باتت الحاجة ملحة جداً للسير بمسيرة إصلاحية لبناء الدولة، يتحمل مسؤوليتها جميع شرائح الطبقات السياسية والاجتماعية على حد سواء. أما القوى المدعوة إلى أن تضافر جهودها، فهي بالأساس الفئات السياسة التي لم تشارك في الفساد المتعاقب منذ عقود، بالإضافة إلى شرائح المجتمع اللبناني المتضرر من هذا الفساد المستشري الذي يؤدي إلى استئثار قلة فاسدة منتفعة بمقدرات بلد بكامله.
وتنقسم الفئات المخاطبة بهذا النداء للإصلاح إلى فئات ثلاث على الشكل التالي:
أولاً: الفئات التي لم تشارك بالحكم في العقود الماضية، والتي كانت خارجه تماماً، وهي منقسمة اليوم بين معارضة وموالاة.
بالنسبة للفئات المعارضة اليوم، والتي لم تكن جزءاً من تركيبة السلطة السياسية قبل عام 2005، فهي مدعوة كما الموالاة، وإن بمسؤولية أقل، للمساهمة في مسيرة إصلاح الدولة وتطهيرها من الفساد، فالخروج من الحكم لا يعني بأي حال من الأحوال الخروج من الوطن أو الدولة. وإن كان البعض يتهم هذه الفئات بأنها ساهمت في الفساد الذي مورس بعد عام 2005 فهي مدعوة أيضاً إلى إسقاط هذه التهمة عن نفسها، وذلك من خلال عدم تغطية الفاسدين والدفاع عنهم بحجة احترام التحالفات أو الكيدية السياسية أو غيرها.
أما المسؤولية الأكبر في مكافحة الفساد واستئصاله، فيتحملها متولو السلطة السياسية، أي الحكومة اللبنانية، التي تمتلك سلطة المعالجة وسلطة المكافحة وسلطة الرّدع، ولا ينفع ادعاء بعض الفئات السياسية المكوّنة للحكومة بضغوط خارجية أو داخلية أو طائفية للتهرب من مسؤولية مكافحة الفساد، وإقامة حكم العدل وإحقاق الحق بين المواطنين.
من هنا، انطلاقاً من مبدأ ثابت يفيد أن "الساكت عن الشر شيطان أخرس"، فإن القوى السياسية والاجتماعية كافة، وخصوصاً القوى المشاركة في الحكومة، مدعوة لمكافحة الفساد والسير في مسيرة بناء الدولة، لا بل إن ادعاء هذه القوى عدم شراكتها بالفساد السابق، لا يعفيها من تحمل مسؤولية المشاركة فيه، أما من خلال تلكئها عن مكافحته أو عبر صمتها عنه وتغطيته الذي يجعلها حامية ومشرعنة له حتى لو لم تكن شريكة فيه.
ثانياً: المقاومة، وهي مدعوة للمشاركة بفاعلية وقوة في مسيرة الإصلاح والقضاء في الفساد، إذ لا يمكن لأي شعب أن يدّعي الحافظ على سيادته واستقلاله من خلال امتلاك القوة العسكرية فقط، ويتغاضى عن حالة الاهتراء الداخلي التي تعيشها دولته ومن النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لكي تتحقق الدولة القوية القادرة التي تحافظ على المقاومة ومكتسباتها وما حققته لغاية الآن من تحرير للأرض وحفظ للإنسان فيه، بات على المقاومة أيضاً أن تسهم في محاربة الفساد الذي يكاد يقضي على الدولة والوطن، ويمنع المواطنين من التمتع بأبسط معايير العدالة الإنسانية، ويمنع عنهم مواصفات المواطنية الصحيحة. لم يعد مقنعاً التقاعس عن محاربة الفساد أو غض النظر عن إصلاح الدولة وبنائها على أسس العدالة والشفافية والحكم الصالح بذريعة حماية المقاومة وسلاحها. فالفساد في لبنان أصبح بنيوياً في هيكل الدولة والمجتمع، حتى يكاد يقضي على الهيكل بمن فيه.
ثالثًا: المجتمع اللبناني: لا يمكن بأي حال من الأحوال، إعفاء المجتمع اللبناني من مسؤولية انتشار الفساد وتطوره، فقد انتشرت في الثقافة اللبنانية مفاهيم قيميّة ومثل شعبية تدعو إلى السكوت عن الفساد وتشجيعه، من خلال الدعوة إلى الحياد من منطلق "شو وقفت عليي؟" أو "حايدي عن ضهري".. أو على الأقل التخلي عن محاربته بذريعة تسهيل سبل العيش وتيسير الأمور الإدارية البيروقراطية، فبات الفساد وسيلة فعالة لتسهيل للمعاملات، أو مختصر للوقت أو غيرها.
من هنا، تغدو مسؤولية محاربة الفساد واستئصاله، مسؤولية عامة يتحملها الجميع، وخصوصاً المؤسسات المجتمعية كالعائلة والمدرسة والجامعة وغيرها باعتبارها مسؤولة عن تغيير ذهنية اجتماعية، تكاد تقضي على الوطن وتستبيحه أمام الرياح التي تعصف به من كل حدب وصوب.
لطالما كان الوطن اللبناني بحاجة إلى مقاومة شعبية وسياسية دائمة منذ تأسيسه، فالأخطار التي تتهدده، لم تكن يوماً خارجية فقط، بل هي داخلية أيضاً قد تؤدي في بعض الأحيان إلى كوارث توازي احتلال الأرض، إذ قد تؤدي هذه الآفات الاجتماعية التي تحولت إلى سرطان مستفحل ينخر جسد الوطن، مما قد يؤدي إلى انهيار الدولة والمجتمع.
إن القول بحماية الوطن عسكرياً وحمايته من الأخطار والاعتداءات الإسرائيلية وحدها لا تكفي للحفاظ على سيادته، بل باتت المعالجة الداخلية واستئصال الفساد وبناء الدولة على أسس الشفافية والعدالة والحكم الصالح بنفس أهمية الحماية من التهديدات الخارجية، لأن انهيار الوطن اقتصادياً واجتماعياً، يستبيحه ويقض سيادته الاقتصادية ومنعته الاجتماعية بشكل لا يقل خطورة وأهمية عن بسط النفوذ العسكري عليه، لا يمكن لدولة منخورة بالفساد وعدم العدالة أن تقاوم عدواً شرساً يربض على حدودها، فمقومات المناعة الاجتماعية والمقاومة الفاعلة لم تكن يوماً عسكرية فقط، ولنا في حالة انهيار الاتحاد السوفياتي الذي انهار من الداخل عبرة مفيدة، هل استطاعت الترسانة العسكرية الهائلة التي امتلكها الاتحاد أن تمنع انفجاره من الداخل؟
ليلى نقولا الرحباني
أستاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق