لم تكن حادثة اغتيال ابن مفتي الجمهورية السورية، حادثة منفصلة عما تعيشه سورية منذ بداية الانتفاضة الشعبية فيها للمطالبة بالإصلاح، والتي سرعان ما تحولت إلى حركة مسلحة تضرب الجيش السوري، وتخرب منشآت الدولة، وتحاول أن تسيطر على بعض المناطق للانفصال عن الدولة الأم، تمهيداً لخلق ما يشبه سيناريو ليبي لتدمير سورية، بعدما تعذر على المحتجين الدفع نحو سيناريو شبيه بالسيناريو المصري، وذلك بسبب وحدة الجيش السوري وعقائديته، والتفاف غالبية الشعب السوري حول قيادته، وعدم إمكانية تحفيز مختلف الطبقات الاجتماعية الاقتصادية للانخراط في حركة تغيير النظام؛ كما حصل في مصر.
تبدو حادثة الاغتيال التي أودت بحياة الابن الأصغر للمفتي حسون مهمة، للفت النظر إلى ظاهرة الإرهاب الخطيرة التي تضرب سورية اليوم، والتي تنتشر كالأخطبوط في العالم، حيث يقوم الإرهابيون بترويع الآمنين والأبرياء وقتل المفكرين والأكاديميين والعلماء؛ تماماً كما حصل سابقاً في العراق ويحصل اليوم في سورية.
إن التاريخ الفعلي لعبارة "الإرهاب" بمفهومها السياسي لا يتعدى نهاية القرن الثامن عشر، حيث عُرفت أولاً إبان الثورة الفرنسية، وبالضبط ابتداء من عام 1794، حيث بدأت تستعمل في سياق سياسي بحت. وقد اكتسبت هذه العبارة مضموناً فكرياً سياسياً تاريخياً على عدة مراحل، ففي المرحلة الأولى من تطورها، لم تكن هذه العبارة تدل على أي معنى سياسي، بل كانت تتضمن معنى سيكولوجياً بحتاً دالاً على ما معناه حالة "الترويع"، ثم ما لبثت أن بدأت تأخذ بعض الملامح السياسية في استعمالها، ولو بشكل خجول، أما المرحلة الثالثة التي جاءت نتيجة تطور تاريخي في الفكر والاجتماع والسياسة، فبرز فيها المعنى السياسي بشكل واضح وجلي، بحيث باتت أي محاولة لتعريف الإرهاب أكاديمياً تتضمن محاولة الإقدام على ترويع المدنيين والأبرياء، وقتلهم لخدمة أهداف سياسية بالضرورة.
وتطلق صفة الإرهاب في عصرنا الحاضر على كثير من الجرائم الواقعة ضمن إطار الحق العام، وعلى أعمال العنف المختلفة التي يقوم بها الأفراد، كمحاولات الاغتيال التي يتعرض لها أشخاص لهم صفة سياسية أو معنوية أو أناس عاديون أبرياء، وعلى أعمال التخريب التي تتعرض لها الممتلكات الخاصة أو العامة، وتطلق أيضاً كلمة "إرهابي" أو "إرهابيون" على الأشخاص والمجموعات السياسية، والأقليات الإثنية التي تضرب من تعتبره عدواً لها، بشكل دموي رهيب. وعلى الرغم من عدم وجود توافق عالمي حول تعريف الإرهاب، إلا أن المعاهدة الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب، حددته بـ"كل فعل من شأنه التسبب بالموت أو بأي ضرر جسدي خطير يطال المدنيين، أو أي أشخاص آخرين لا يشاركون مباشرة في النزاع في حال المواجهة المسلحة، وذلك عندما يهدف هذا الفعل، إلى ترويع السكان أو إرغام الحكومات أو المنظمات الدولية على القيام أو الامتناع عن القيام بأعمال معينة"، ويمكن اعتبار هذه الصيغة، أول مشروع لتعريف الإرهاب على صعيد عالمي.
واللافت اليوم، وفي خضم الحديث عن صراع حضاري ثقافي بين الشرق والغرب، أو ما يسوّق له في الغرب من مفاهيم ثقافية حوّلت الحضارة الغربية من حضارة ذات أصول يونانية رومانية، كما كانت توصف حتى السبعينات من القرن الماضي، إلى حضارة مسيحية - يهودية، مقابل ثقافة إسلامية عربية، واللافت أن الإرهابيين يقومون بخدمة مشروع صراع الحضارات لصالح الغرب، وذلك من خلال تزويرهم لكثير من العناصر الثقافية والدينية السمحة، والداعية إلى السلام والعدالة بين البشر، من خلال فتاوى "غب الطلب"؛ بقتل كل مخالف للرأي، واستباحة الحرمات وقتل المفكرين والعلماء، في ظاهرة خطيرة تؤشر إلى عمق الأزمة التي يعيشها هؤلاء مع الفكر والعلم، أو كل إمكانية تفكير أو تطور اجتماعي أو ثقافي أو علمي.
لقد أدخل الإرهابيون و"شيوخ التكفير" في عقول العامة مفاهيم تتبنّى رؤية إيديولوجية للعالم، تتسم بالانغلاق الفكري والجمود النفسي، منطلقين من اقتناع عميق بامتلاك الحقيقة المطلقة، وتكفير الأديان والمذاهب الأخرى، وعدم القبول أو التسامح مع أي رأي آخر مختلف، ورفض الحوار رفضاً مطلقاً، والسعي إلى تغيير الواقع بالقوة المسلحة، زاعمين أن لهم أهدافاً ترتبط بتحقيق مثل عليا صاغتها أفكار "أمراء" الجماعات الإرهابية، وهم في سبيل تحقيق هذه الأهداف يقتلون من المسلمين ما يفوق عدده من الأديان الأخرى.
بالفعل، لقد أدت حادثة اغتيال الشاب البريء ابن المفتي حسون، وما نقرأه من حقد وشماتة على صفحات الفيسبوك والمواقع الإلكترونية، إلى لفت النظر إلى ظاهرة لم يكن الإعلام والرأي العام يعي خطورتها، أو لعله اعتقد بمبالغة إعلامية رسمية سورية لحجم وانتشار الحركات الأصولية، وإعلان "الإمارات" في الداخل السوري، إلى أن أتت حادثة الاغتيال هذه لتضيء على الموضوع، وتدق ناقوس الخطر، لما يتهدد سورية والمنطقة في حال انتشار هذا النوع من الإرهاب الأصولي، وقدرته على زعزعة استقرار سورية.
وهكذا، تبدو منطقة الشرق الأوسط اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، مقبلة على صراع خطير، بين مفاهيم التعصب والانغلاق واستباحة القتل والتدمير، ومفاهيم العقل والانفتاح والتسامح الديني الذي لا يمكن للشرق أن يستمر بدونه، وفي هذا الصراع، تغدو مسؤولية العقلاء من المسلمين شيوخاً وفقهاء ومدنيين، أكبر للاستمرار في مكافحة الجهل والتكفير، وإبراز الوجه الحقيقي للإسلام كدين للسلام والتسامح ومحبة البشر وخدمتهم وهدايتهم إلى طريق الله الحق. الطريق طويل وشاق، وفيه الكثير من التضحيات والبذل، ولعل ما بذله الشيخ المفتي حسون باستشهاد ولده في هذا الصراع، هو بداية الغيث وليس نهايته.
ليلى نقولا الرحباني
- · أستاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق