يقصد الفلسطينيون اليوم الأمم المتحدة لإعلان دولتهم في ظل وضع عالمي متغير، وبعد حراك عربي مستمر منذ بداية السنة الحالية بدّل الكثير من معالم المنطقة سياسياً.
وللمرة الثالثة منذ عام 1948، تنوي القيادة السياسية الفلسطينية إعلان الدولة الفلسطينية، فبعد إعلان حكومة عموم فلسطين بغزة في أيلول عام 1948 والتي أعلنت الدولة على كامل أرض فلسطين التاريخية، ثم "إعلان الاستقلال" في تشرين الثاني 1988، وذلك بعد إعلان ياسر عرفات الدولة الفلسطينية من الجزائر، وذلك بحسب قرار التقسيم رقم 181 والذي يعطي الفلسطينيين نسبة 44 بالمئة من أرض فلسطين، تتجه السلطة الفلسطينية اليوم إلى الأمم المتحدة لإعلان الدولة الفلسطينية على حدود لا تتعدى 22 بالمئة من أرض فلسطين، وبدون إشارة إلى قضية اللاجئين والقدس وغيرها من الثوابت الفلسطينية وحقوقهم المشروعة.
ويشير داعمو هذه الخطوة، إلى أن الفلسطينيين اليوم يصرون على التوجه للأمم المتحدة مستفيدين من تغيرات الربيع العربي، وبعدما بات للشعوب في المنطقة العربية رأي وشأن في تقرير ما يحصل على ساحتها. لكن، سواء أكان هذا الكلام صحيحاً أم لا، فإننا نعتقد أن الفلسطينيين يتوجهون اليوم إلى الأمم المتحدة في جو دولي سياسي غير ملائم لإعلان دولتهم، أو لكسب معركة دولية ضد إسرائيل، وذلك لأسباب عدة أهمها:
أولاً: يتجه كثير من الرؤساء الغربيين اليوم، ومنهم أوباما وساركوزي، للتحضير لانتخابات داخلية يريدون كسبها بأي ثمن.
بالتأكيد، وفي ظل ما يُعرف عن تأثير اللوبي اليهودي في الانتخابات الأميركية، فإن الرئيس الأميركي باراك أوباما، لن يجازف بدعم الفلسطينيين في حقهم في إعلان دولتهم، مقابل خسارة الدعم اليهودي الداخلي في الانتخابات المقبلة، وله في المعركتين القاسيتين الخاسرتين اللتين خاضهما مع نتنياهو في السنة المنصرمة عبرة ودرس مستفاد منه على صعيد تقرير سياسات الداخل الأميركي.
أما ساركوزي، الحالم بعودة مظفرة إلى الإليزيه في ظل تدنٍ هائل في شعبيته كما تشير استطلاعات الرأي، فإنه لن يجازف بخسارة الدعم الصهيوني، بالرغم من أنه سيحمي نفسه من غضب العرب، من خلال التستر بالموقف الأوروبي الموحد تجاه القضية الفلسطينية، والظهور بمظهر الداعم للشعوب العربية في حقها في الديمقراطية والحرية.
ثانياً: إن الربيع العربي اليوم الذي يقال إنه قد يكون عاملاً مؤثراً في كسب معركة فلسطينية دولية في الأمم المتحدة ضد إسرائيل، يبدو في هذا الوقت بالذات سيفاً ذا حدّين:
من جهة أولى، قد يكون صحيحاً ما يثيره البعض حول عدم رغبة الأميركيين في استثارة الشعوب العربية وإغضابها والظهور بمظهر المعادي لها بعدما أسقطت حكامها المتعاملين مع الغرب، وهي تحاول الآن أنْ تفرض أجندتها الداخلية والخارجية على الصراع الدائر في المنطقة، والتي تبدو بشكل واضح أنها ستكون في غير مصلحة إسرائيل.
لكن من جهة أخرى، ولنفس الأسباب أيضاً وبسبب ما تعانيه إسرائيل اليوم من فقدان حليف استراتيجي هام في مصر، وفقدان الحليف التونسي وبسبب تدهور العلاقات التركية الإسرائيلية، فإن الغرب والأميركيين بالتحديد، لا يمكن لهم أن يتهاونوا في السماح للفلسطينيين بإحراج أكبر لإسرائيل ومحاولة عزلها على الساحة الدولية، في ظل ما تعانيه من فقدان للشرعية على الساحة الدولية منذ حربي لبنان وغزة وحتى الآن.
ويخشى الإسرائيليون بحسب مسؤوليهم والباحثين الاستراتيجيين لديهم، أن يتحول تهديد نزع الشرعية إلى "تهديد وجودي" لدولتهم، فقد كشفت حربَا لبنان وغزة والتقارير الدولية التي صدرت إثرهما وبعدها الأحداث التي حصلت في العالم العربي، وجود فجوة مهمة بين مكانة إسرائيل لدى الزعامات السياسية في أنحاء العالم وبين مكانتها العامة لدى الشعوب. ويخشى الإسرائيليون من أن يؤدي انهيار شرعية إسرائيل في الخارج والداخل إلى انهيارها على غرار ما حدث لجنوب أفريقيا البيضاء والاتحاد السوفيتي، اللذين انهارا نتيجة ضغوط سياسية واجتماعية داخلية، وضغوط اقتصادية وسياسية دولية، وتراجع حلفائها التقليديين من الأوروبيين عن تأييدها والتعاطف معها.
في ظل كل هذا التخوف الإسرائيلي من فقدان الشرعية، وفي ظل وضع عربي إقليمي متحرك ضاغط ضد إسرائيل، لن يسمح قادة الغرب المتعاطفون معها بالسماح للفلسطينيين بمزيد من الإحراج للإسرائيليين على الساحة الدولية، من هنا يبدو التوقيت في غير صالح الفلسطينيين أيضاً.
ثالثاً: تأتي الخطوة الفلسطينية بالتوجه إلى الأمم المتحدة بعد تجربة ليبية أظهرت، خلال التحضير لها، فشل الآليات الأوروبية الاتحادية في التعامل مع المستجدات بصوت أوروبي واحد.
لقد كادت ليبيا أن تتحول إلى العاصفة المثالية للإطاحة بأوروبا الاتحادية، والتي أظهرت أن آليات لشبونة ما زالت غير ناضجة، وأن الأحلام بتحوّل أوروبا إلى قوة سياسية وعسكرية ضخمة قد تبخرت، وتبين أن الأوروبيين لا يصلحون كـ"اتحاد" إلا للأعمال الإنسانية.
من هذه الخلاصة المتشائمة التي خرج منها الأوروبيون بعد الخلافات التي سادت بينهم خلال التعامل مع التجربة الليبية، سيحاول الأوروبيون اليوم، الظهور بمظهر الصوت الواحد في التعامل مع قضية إعلان الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة. من هنا، فإن صقور الدول الأوروبية وأهمهم ميركل وساركوزي لن يسمحوا للحمائم بفرض وجهة نظرهم، في الصوت الأوروبي الموحّد الذي سيصدر تجاه القضية الفلسطينية اليوم، وهذا ليس في صالح الفلسطينيين أيضاً في معركتهم في الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
إذاً، لا تبدو الأجواء الدولية ملائمة اليوم لانتزاع مكسب فلسطيني - ولو لفظي - في الأمم المتحدة، وقد تكون السلطة الفلسطينية في محاولتها الهروب من الواقع الذي وضعت نفسها فيه، قد أدخلت نفسها في معركة خاسرة لم تعد العدة لها بشكل كامل، خصوصاً أن الإعلان في نيويورك حتى لو تمّ، فإنه لا يُنشئ دولة واقعية فعلية "ذات سيادة" على الأرض. كما أن الإعلان كما تريده السلطة الفلسطينية بدون مشروع متكامل يحفظ حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم، ويحفظ القدس عاصمة لأهلها، سيؤسس لتآكل إضافي للقضية الفلسطينية التي قد تغدو نوعاً من "الندبيات" العربية التي يتم تذكرها بين الحين والآخر في ذكرى النكبة والنكسة فيما لو استمرت السلطة بالتنازل عن الحقوق وقضمها شيئاً فشيئاً لإرضاء إسرائيل.
ليلى نقولا الرحباني
أستاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق