قياساً إلى النبرة العالية والثقة بالانتصار التي طبعت خطاب السيد نصر الله بمناسبة الانتصار، لا يبدو خطاب السيد خارجاً عن السياق العام، وصورة فائض القوة التي راكمتها المقاومة منذ انتصار تموز ولغاية الآن، فلقد بدت رسائله التي وجهها إلى الداخل والخارج محترفة في الشكل والمضمون، واضحة وموجهة إلى من يعنيه الأمر بأعلى درجات الدقة لتلقى من الاهتمام ومن ردات الفعل ما يلائمها.
استفاد السيد نصرالله من المتغيرات التي فرضتها حرب تموز، ومن المعادلات الجديدة في المنطقة، وقوة الردع التي أرساها فائض القوة المتراكمة لدى المقاومة، ليعد بنصر أكيد مقبل فيما لو فكرت إسرائيل بتكرار تجربة تموز العدوانية على لبنان، وقد استند السيد في ثقته بالنصر، بالإضافة إلى الانتصار المحقق في تموز، إلى جملة من المعطيات الاستراتيجية التي فرضت نفسها وأفقدت إسرائيل تفوقها الاستراتيجي، وذلك كما يلي:
أولاً: قبل 2006، كانت إسرائيل تملك قرارين أساسيين: قرار الدخول في الحرب وقرار الخروج منها وإنهائها ساعة تشاء، وبالشكل الذي تريد، وبناء على تجاربها السابقة، كانت إسرائيل مقتنعة تماماً أن "نزهة تدميرية" إلى لبنان كافية لإخضاعه وإخضاع المجتمع اللبناني وسحب سلاح حزب الله، وبالتالي حصد النتائج والانتصارات، لكن عدوان تموز على لبنان أظهر أن قراراً واحداً فقط كان بيد إسرائيل، وهو قرار الدخول في الحرب، لكن قرارالخروج منها وبأي ثمن وبأي خسائر قد فقدته إسرائيل لأول مرة في تاريخها، ولم تستعده لغاية الآن.
ثانياً: فقدان القدرة على أخذ "الحرب إلى أرض العدو"، وهكذا فقد المجتمع الإسرائيلي الأفضلية التي لطالما تمتع بها على شعوب المنطقة، أي أن يبقى المواطن الإسرائيلي بمأمن من أي تداعيات محتملة للحرب، بينما يعيش المواطن العربي مآسي الحديد والنار والموت والدمار. لكن التجربة التي فرضتها حرب تموز، وقدرة المقاومة على قصف العمق الإسرائيلي خلال الحرب، وبعدها إعلان المقاومة مبدأ "الأهداف المتقابلة المتكافئة" أي عاصمة مقابل عاصمة، ومدينة مقابل مدينة.. حوّل الإسرائيلي كما كان اللبناني والعربي دائماً، إلى هدف للحرب ودافع لأثمان باهظة جراء خيارات دولته الحربية وعدوانيتها المستمرة على العرب.
ثالثاً: فقدت إسرائيل معياراً أساسياً من معايير القوة والنفوذ المعتمدة في العلاقات الدولية، وهي القدرة على التأثير على قرارات الغير، من خلال التهديد والتهويل بالحرب، التي تعني أن يقوم العدو بما تريده أن يقوم به، أو يمتنع عن القيام بما لا تريده أن يفعله، وذلك من دون أن تضطر إلى الحرب.
لقد كانت إسرائيل في السابق، وبمجرد التهويل بالحرب، تتدخل في قرارات عربية كبرى وتصيغها لصالحها وتخلق في ذهن العرب أن كلفة الاستسلام أخف من كلفة الحرب، لكن بعد تموز وما قدمته المقاومة خلاله، بات الجميع يدرك أن التهويل بالحرب لم يعد يجدي وأن إسرائيل تخشى الحرب كما يخشاها الطرف الآخر تماماً، إن لم يكن أكثر.
رابعاً: بعد مغامرات بوش التدميرية وحرب 2006، وفي ظل الأنباء عن الأزمات المالية العالمية المستمرة منذ عام 2008، فقدت إسرائيل "دافع الفواتير" الجاهز، فلطالما اعتمد الإسرائيليون على قدرتهم على شن الحرب، وإجبار الغرب على دفع فواتيرها وتكاليفها، لا بل قبض المكافآت السخية نتيجتها، والآن تفقد إسرائيل هذا الامتياز، ليس لعدم رغبة الغرب في استخدام إسرائيل عصا تأديبية لشعوب المنطقة المتمردة، بل ببساطة لعدم الإمكانية نتيجة الإفلاس المالي الذي يغرق فيه الاقتصاد الأميركي والأوروبي.
خامساً: بعكس الواقع الدولي السائد منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، أدى فشل السياسات الأميركية في المنطقة، التي أعقبها فشل عدوان تموز على لبنان، بالإضافة إلى صعود قوى جديدة على المسرح الدولي، إلى إرسال إشارات بما يشبه اليقين أن القوة الإسرائيلية عاجزة عن تأمين غطاء دولي سياسي وإعلامي لأي عدوان جديد لها على لبنان، فها هم الأميركيون يظهرون في مجلس الأمن وعلى الساحة الدولية "كأول بين متساوين" وليس كقوة عظمى لا يمكن رد طلباتها.
هكذا إذاً، وبالرغم من كل التهديدات التي تطلق والايحاءات التي تتحدث عن حرب مقبلة على لبنان أو إيران في أيلول المقبل، يبدو من النتائج التراكمية ومن المعطيات التي فرضتها حرب تموز 2006، أن إسرائيل اليوم أكثر من أي وقت مضى أعجز من أن تقوم بحرب عسكرية مباشرة على لبنان، وبالرغم من أن الإسرائيليين يحضّرون للحرب منذ 15 آب 2006، كما تحضّروا لحرب تموز منذ انسحابهم من لبنان عام 2000، لكن الرغبة في الحرب شيء والقرار بالدخول فيها شيء آخر، وها هم الإسرائيليون يشعرون أن ما كانوا قد امتلكوه لغاية حرب تموز 2006 قد خسروه، فالقرار بشن الحرب لم يعد سهلاً كما في السابق، ببساطة لأن القدرة على الانتصار فيها لم تعد مؤكدة، للأسباب التي ذكرناها سابقاً، بالإضافة إلى ما دلت عليه تجارب المناورات السنوية، وقياس مؤشر المناعة الاجتماعية الذي يقام كل سنة.
هكذا إذاً، لا يبدو أن إسرائيل ستشن حرباً على لبنان، ليس لانعدام الرغبة، ولا لنقص في الأدوات التدميرية، وليس لتخليها عما أسمته "عقيدة الضاحية" أو سياسة الأرض المحروقة.. بل ببساطة لأنها تدرك عجزها عن إمكانية تشكيل ظروف موضوعية مناسبة للانتصار في الحرب، وكل ما يقال غير ذلك هو من باب الحرب النفسية التي يحاول العدو فرضها على اللبنانيين لكسر إرادتهم، وهي ستفشل هذه المرة كما فشلت سابقاً، ولن يكون نصيب اللبنانيين المراهنين على ضربة إسرائيلية والمروجين لها أفضل من مصير جيش لحد من العملاء.
*أستاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق