بعد مخاض عسير وُلدت الحكومة اللبنانية، وتخطت مرحلة الضغوط الأميركية والفرنسية على اللبنانيين واقتصادهم، والأهم أن الإعلان عن التشكيلة جاء متزامناً مع حسم عسكري سوري في جسر الشغور، أحرج بدوره الإدارة الأميركية التي كانت تعطل التشكيل، وجعلها تقبل على مضض بالتشكيلة الحكومية، بعدما قدمت الأكثرية الجديدة تنازلات كبيرة، وفي ظل اتجاه سوري نحو حوار وطني ستنطلق عجلته قريباً، وانتهاء الانتخابات في تركيا، واقتناع تركي بعد السعودي والأردني بأنه لا إمكانية للتدخل العسكري في سورية وقلب نظام الأسد من خلال الوسائل التقليدية، أو من خلال سيناريو يشبه السيناريو الليبي.
وبغض النظر عن التحولات الإقليمية التي جعلت الحكومة اللبنانية تبصر النور، يبدو أن الحكومة الجديدة، وبالإضافة إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، مقبلة على مرحلة جديدة من الضغوط الخارجية الهائلة، وهي قد بدأت فعلاً منذ اللحظة الأولى بصدور الموقف الأميركي، الذي اعتبر أن الولايات المتحدة ستحكم على الحكومة الجديدة «بناء على أفعالها»، ودعاها إلى نبذ العنف والابتعاد عن "الثأر"، بما يوحي أن واشنطن ستعتبر أن أي إقالة أو محاسبة لأي من وكلائها في الداخل أو من زرعتهم في التركيبة الأمنية والإدارية والسياسية في هيكلية الدولة اللبنانية، سيعتبر عملاً ثأرياً! وهكذا يكون أول التحديات أمام الحكومة اللبنانية الجديدة، مواجهة ضغوط الإدارة الأميركية التي خسرت وكلاءها السياسيين في السلطة التنفيذية، وتريد الحفاظ على ما تبقى من الوكلاء الأمنيين والإداريين.
إذاً، التحدي الأول والأهم سيواجه بداية وزيرا الداخلية والعدل، ومن ورائهما كل الحكومة اللبنانية ووزرائها، إذ لا يمكن للحكومة اللبنانية أن تحصل على ثقة الشعب اللبناني وإيمانه بقدرتها على الحفاظ على أمنه وسيادته واستقراره، في ظل تمرد أمني وانقلاب على المؤسسات وسلطة الدولة وأن لا يحوّل مرتكبيه إلى القضاء، للفصل في هذه القضايا وإحقاق الحق.
وهنا السؤال الأهم: هل ستقوم الحكومة اللبنانية بتحويل أشرف ريفي إلى القضاء بعد تمرده على رئيسه المباشر، وعلى رئيس الجمهورية؟ وهل سيفصل القضاء في شرعية فرع المعلومات وتخطيه لصلاحياته، خصوصاً الانقلاب الذي قام به، واحتلاله مبنى تابعاً لوزراة الاتصالات؟
وهل سيحاسَب سهيل البوجي على تزويره محاضر جلسات مجلس الوزراء، وفبركة جلسات لم تعقد أساساً، وتمّ فيها اتخاذ قرارات هامة ومصيرية للبلاد؟
وهل ستستكمل عملية التدقيق في الحسابات المالية، وما كشفته جلسة لجنة المال والموازنة من خلال ما أدلى به مدير عام المالية آلان بيفاني من حقائق خطيرة؟
أسئلة كثيرة وفضائح نشرت على صفحات الجرائد وفي وسائل الإعلام، فهل من قضاء مستقل يفصل في هذه القضايا؟ وهل سيعتبر اللجوء إلى القضاء عملاً ثأرياً من قبل الولايات المتحدة ووكلائها في لبنان؟
- أما التحدي الثاني فسيكون بالتأكيد حول طريقة التعامل مع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وتمويلها، وهنا ستواجه الحكومة تحديات على جبهتين:
الجبهة الداخلية، حيث سيلجأ فريق المستقبل وحلفائه إلى إثارة الكثير من الضجيج المذهبي لإحراج الرئيس ميقاتي، والقول بأنه يخضع لأوامر حزب الله، ويتخلى عن دم "الشهيد"، ولن يتأخر هذا الفريق في استخدام الإعلام والمنابر الدينية في هذا السبيل.
أما الجبهة الخارجية، فيعوّل الغرب على المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لاستخدامها أداة في السير بمشروعه المواجه للحلف المقاوم في لبنان، لذا نشهد أن الأصوات الدولية بدأت تتحدث منذ الآن عن "احترام لبنان لالتزاماته الدولية"، بما يشير إلى أن أي مسار قضائي أو برلماني لمناقشة موضوع المحكمة الدولية والتعاون معها وتمويلها، سيؤدي إلى ضجيج دولي وهيجان لن تسلم منهما الحكومة اللبنانية الجديدة.
- التحدي الثالث سيكون في ملف العلاقات اللبنانية السورية، خصوصاً إذا كشفت التحقيقات ضلوع لبنانيين في التآمر على سورية وأمنها، وكيفية التعامل مع هذا الملف، وما قد يترافق معه من طلبات سورية باسترداد بعض السوريين الفارين إلى الأراضي اللبنانية؛ تنفيذاً للاتفاقيات الموقعة بين البلدين.
- التحدي الرابع سيتجلى في المعركة الدبلوماسية والسياسية المفترض على الحكومة اللبنانية أن تقوم بها في مجال التنقيب عن النفط، خصوصاً أن الاتفاقية القبرصية الإسرائيلية تنتهك حق لبنان في نفطه، بينما يغيب اللبنانيون عن الحدث متلهين بسياسة المحاصصة واقتسام المغانم.
بالتأكيد لن تسلم حكومة لبنانية احتاجت إلى أشهر لولادتها، وفي ظل استخدام دائم للبنان كساحة للإلهاء والإشغال، من تداعيات حراك إقليمي هائل على عتبة قرار أميركي بالبقاء في العراق وتمديد الاتفاقيات الموقعة مع الحكومة العراقية، وانتظار جلاء وضع الميدان السوري ليحسم الأميركيون خيارهم بأي من الاتجاهيْن سيسيرون في المنطقة. ففي ظل الهجوم الأميركي المضاد على الثورات العربية، والتعامل مع التطورات المستجدة في المنطقة، يعمل الأميركيون اليوم على خطين متوازيين: التعاون مع الاتجاه "الوهابي" وقائدته السعودية، أو التعاون والتنسيق مع الإخوان المسلمين وقائدتهم تركيا، وهكذا يكون الوضع السوري الميداني العامل الأساس في حسم الأمريكيين لخيارهم بأي استراتيجية سيسيرون، وبعد هذا الخيار يتحدد مصير اليمن وغيرها من القضايا الإقليمية، وبالتأكيد سيكون للبنان نصيبه من التطورات بحسب أي من الخيارين سيسير به الأميركيون.
بالرغم من أن التحديات الخارجية التي ستواجه لبنان في الأشهر القليلة المقبلة لن تكون سهلة، لكن على الحكومة اللبنانية الجديدة أن لا تغفل الوضع الداخلي، خصوصاً في ظل تفاقم الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، وركود موسم السياحة، وتنامي البطالة والهجرة، وعدم توفر فرص عمل للشباب، فلن يكون بمقدور الحكومة اللبنانية أن تتذرع بشعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" لحرمان اللبنانيين من أبسط حقوقهم في الضمان الاجتماعي، والتعليم والطبابة ونظام الشيخوخة، وغيرها من الأمور البديهية التي باتت من أبسط حقوق الإنسان الرئيسية، فهل ستكون الحكومة الجديدة على قدر التحديات الهائلة التي ستواجهها، وعلى قدر آمال اللبنانيين وحاجاتهم الملحة؟
· استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة البنانية الدولية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق