ليلى نقولا الرحباني
يعيش اللبنانيون اليوم هاجس تسوية مفترضة، تؤدي فيما لو نجحت الى إبعاد كأس قرار مرّ، يؤذّن بانقسام جديد وتطورات لا يُعرف حجمها كنتيحة لصدور القرار الاتهامي في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
واذا كان من المنطقي أن يكون للمحكمة مؤيدوها وداعموها في الداخل اللبناني، باعتبار انها أنشئت لمحاكمة من حرّض وخطط ونفذ جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، ولكن الواجب يقتضي أيضا الاطلاع على التجارب السابقة للمحاكم الدولية لمعرفة ماذا ينتظر اللبنانيين قياسا على ما مرت به شعوب أخرى سبقته في التعامل مع تلك المحاكم.
شهد عام 1993 ولادة المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة التي أعطِيت صلاحية محاكمة المسؤولين عن الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني المرتكبة في أراضي يوغسلافيا السابقة منذ العام 1991، والتي تدخل ضمن اختصاصها في النظام الاساسي.
واللافت أن تلك المحكمة وبالرغم من انشائها في وقت مبكر، لم تحصل على تلك الاهمية الاستثنائية أو الدعم الغربي المفرط، الا بعد هجوم الناتو على كوسوفو عام 1999. فقط مع التبدل في الجو السياسي في البلقان، بدأ الاوروبيون والاميركيون ينظـرون الى المحكمة كأداة يمكن استخدامها في محــاولة القيام بتغيير سياسي لصالحهم في البلقان، وإزاحة النفوذ الروسي من المنطقة، وكصمـام أمان لصربيا وكرواتيا للتخلص من القوميين الذين «يخلّون بالاستقرار» في منطقة البلقان، بحسب رأيهم.
قبل كوسوفو، كان ميلوسيفيتش بنظر الغرب مفتاحًا للاستقرار في البلقان و«رجل دولة» يعتمد عليه في مفاوضات السلام، وفي قيادة التحول الجاري في يوغسلافيا. ولكن بعدما واجه ميلوسيفيتش المخططات الغربية في كوسوفو، وشنّ الناتو حربه على كوسوفو، بدأ يسوّق للرأي العام العالمي كمجرم حرب يجب محاكمته. وهكذا، وقياسًا على التبدل في الموقف الغربي، أصدرت المحكمة الدولية قرارها الاتهامي بحق ميلوسيفيتش في أيار 1999، بالقيام بجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، أضيف اليها في ما بعد جريمة الابادة الجماعية، بالرغم من اعتراف المدعي العام الاول للمحكمة، ريتشارد غولدستون بأن «محاكمة ميلوسيفيتش هي سياسية أكثر منها قانونية».
بين ليلة وضحاها تحول ميلوسيفيتش من «رجل سلام» الى مجرم فار من العدالة، وبدأت الضغوط الدولية على صربيا للتعـاون مع المحكمة كشرط لدخولها الاتـحاد الاوروبــي، وهدَّد الاميركيون بحجب قروض كان البنك الدولي قد وعد صربيا بها لإنعاش اقتصادها. ومرَّر الكونغرس الامــيركي قانــونًا يلزم الرئيس جورج بوش بمراقبــة مدى تعاون صربيا مع المحكمة الدولية قبل امـدادها بالقروض والمساعدات، ويعطي مهلة للحكومة الصربية للقبض على ميلوسيفيتش وتسليمه للمحاكمة بحلول 1 نيسان 2001. الامر الذي نفذه رئيـس الوزراء الصربي المدعــوم من الغرب، والمعروف بصداقته القوية مع السفير الاميركي في بلغراد، فاعتقل ميلوسيفيتش في 31 آذار 2001 خلال وجود رئيس الجمهورية خارج البلاد.
أما تسليم ميلوسيفيتش للمحكمة فأتى نتيجة ضغوط خارجية عشية مؤتمر للمانحين في بروكسل، استسلم لها رئيس الوزراء الصربي جانجيتش، فأرسله الى لاهاي بطريقة سرية ضاربًا عرض الحائط كل الاعتراضات الداخلية، ومتخطيًا قرار المحكمة الدستورية. قرار كلفه حياته؛ اذ اغتالته مجموعة تطلق على نفسها اسم «القبعات الحمر»، في عملية انتقامية اطلقوا عليها اسم «اوقفوا لاهاي».
وكان للانتخابات الداخلية حصتها في استخدام المحكمة أيضًا، فمع اقتراب الانتخابات في صربيا، وبروز توقعات بفوز الشيوعيين السابقين، تراجع اهتمام الاوروبيين بالمحكمة خوفًا من أن يؤدي الضغط على صربيا الى خسارة التحالف المدعوم غربيًا، وباتوا بحاجة الى «شيء ما» يسمح بتراجعهم عن «الشرطية» وفي الوقت نفسه لا يظهرهم كمتخلين عن المحكمة.
حينها اصدرت محكمة العدل الدولية في شباط 2007 قرارها «المنتظر طويلاً» في قضية البوسنة ضد صربيا، فأعلنت «براءة صربيا من الابادة التي حصلت في سربرينكا، وعدم استحقاق أي تعويضات للبوسنيين». وتمّ الطلب من القاضية دال بونتي اصدار بيان ايجابي حول تعاون صربيا مع المحكمة الدولية، بعد ان عقدت صفقة بين صربيا والاوروبيين قضت باعتقال اثنين من المتهمين المنخفضي الرتب. وهكذا استؤنفت المفاوضات لدخول صربيا الى الاتحاد الاوروبي، مما ادى الى ارتفاع أسهم التحالف المدعوم من الغرب والمناوئ لموسكو في الداخل الصربي، فشكل الحكومة واستلم السلطة.
وكما في صربيا كذلك في كرواتيا، استخدم التعاون مع المحكمة الدولية شرطاً لاستمرار المفاوضات لدخول كرواتيا الى الاتحاد الاوروبي، وخاصة من قبل الدول الاسكندنافية التي لم تقبل باستئناف المفاوضات الا بعد اتمام صفقة مع النمسا، اتفق فيها على القبول بعضوية كرواتيا مقابل التعهد بعدم انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي. حينها، وبعد الصفقة، أصدرت المحكمة الدولية بيانًا تشيد فيه بـ«التعاون الكرواتي الكامل» مع المحكمة، بدون أن توضح كيف ومتى.
أدت الضغوط على كرواتيا الى اعتقال جوتوفينا وتحويله الى المحكمة، فاستقال اربعة من الوزراء في الحكومة الكرواتية احتجاجًا، وسارت التظاهرات في الشوارع، يقودها نواب ووزراء، ونظمت اغان وطنية تتحدث عن «بسمارك كرواتيا» أو «جوتوفينا البطل القومي» الذي حرر الوطن وواجه الطغيان المتمثل بالمحكمة المسيَّسة التي تشوّه تاريخ كرواتيا وحربها الاستقلالية.
أما في الحالة اللبنانية، فيتجه القرار الاتهامي اليوم لاتهام عناصر من حزب الله، وبعدها السيد حسن نصر الله وقادة المقاومة بموجب مسؤولية الرئيس عن المرؤوس، وهكذا سيتحول ابطال المقاومة الذين حرروا لبنان من الاحتلال الاسرائيلي عام 2000 وهزموا اسرائيل عام 2006، الى مجرمين ارهابيين مطاردين من العدالة الدولية، هذا قد يفرح بعض الجهلة في لبنان. نقول جهلة، لأن داعمي المحكمة في لبنان عليهم أن يقلقوا كما المقاومة المستهدفة، بالقرار الاتهامي، فقياسًا على التجارب السابقة للمحاكم الدولية، لن يسلم أحد من تداعيات هذا الامر، وسيتعرض لبنان لضغوط لا طاقة له على احتمالها، ومطالبات بتسليم المتهمين، تستخدم لأجله وسائل اقتصادية وسياسية وإيقاف قروض ومنح دولية، وستسحب ورقة المحكمة الدولية عند كل انتخابات وكل مؤتمر دولي وكل استحقاق لبناني هام.
نتشاءم بما ستجرّه المحكمة على لبنان من ويلات، مع علمنا بأن الحالة اللبنانية تختلف عن الحالة اليوغسلافية، فالقوميون الصرب والكروات كانوا من الشيوعيين السابقين الذين تأثروا بانهيار الاتحاد السوفياتي وضعف روسيا في حينه، لكن موازين القوى اللبنانية لا تعطي امكانية لتسليمات من هذا النوع، وستكون الضغوط ممتدة. ولعل المأزق الاكبر الذي سيجد داعمو المحكمة أنفسهم فيه، أن يكون القرار الاتهامي ذريعة لتغيير سياسي يقلب الطاولة على الجميع، فيجدون أنفسهم وداعميهم الدوليين قد خرجوا كليًا من الساحة اللبنانية، كما يقول احد السيناريوهات المحتملة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق