المطالبات بتحقيق العـدالة الجنائية هي مطالب محقة وطبيعية، إذ لا يمكن لعاقل ذي ضمير أن يوافق على استمرار سياسة الإفلات من العقاب السائدة في العالم والتذرع بالسيادة لممارسة أعمال القتل والتعذيب والإبادات. لكن الحديث عن عدالة دولية من دون تسييس ومن دون صفقات سياسية، يبدو لدارسي العلاقات الدولية وتاريخها إما كلاما جاهـلا أو فائق المثالية.
فعليًا، بدأت ثقافة انشاء المحاكم الدولية تتسع وتصبح أمرًا شائعا في العلاقات الدولية مع إنشاء المحاكم الدولية الخاصة بيوغسلافيا ورواندا، وهي محاكم دولية أنشئت ابتداء من العام 1993 للبت في جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبت في دولة ما، خلال فترة محددة من الزمن، وخلال نزاع محدد.
لكن الكلفة العالية جدًا التي تكبدها المجتمع الدولي لهذه المحاكم، بالاضافة الى النقص في الموارد والكثير من المصاعب والاعتراضات التي واجهتها، بالاضافة الى اعتبارها كوسيلة هيمنة واتهامها بالتسييس وبأنها «محاكم المنتصر»، دفعت المجتمع الدولي الى الاستعاضة عنها بإقرار مبدأ المحاكم المختلطة، أي التعاون مع البلدان المتضررة على تشكيل محاكم «ذات طابع دولي» تجمع ما بين النظم القضائية المحلية والدولية، وعلى هذا النمط نشأ العديد من المحاكم ومنها «المحكمة الدولية الخاصة بلبنان».
وفي دراسة لمسار المحاكم الدولية منذ تأسيسها، نجد ان المحاكمات الاشهر في تاريخ القانون الدولي والتي أسست لمبدأ المسؤولية الجنائية الفردية، وهي محاكم نورمبرغ وطوكيو، ومن بعدها المحاكم الدولية الخاصة والمختلطة، وعانت وتعاني من عيوب كثيرة تمس بسمعتها وصدقيتها، نوجز بعضها بما يلي:
أولا: ان المحاكمات التي أجريت في نورمبرغ وطوكيو، أصدرت أحكامها بموجب قانون بمفعول رجعي، أي ان المتهمين حوكموا على جرائم لم تكن تعتبر جرائم حين قاموا بها، ما يعني أن المحاكمات لم تحترم مبدأ «لا جريمة بدون نص». أما المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، فاللافت أنها لا تعمل بموجب القانون الدولي الإنساني كما بات معلوما، ولا تتفق أيضا مع القانون الدولي لحقوق الانسان كما ذكرت دراسة أعدتها جامعة اوكسفورد ونشرت في ايار الماضي، بعنوان «المحاكمات الغيابية في المـحكمة الخاصة بلبنان: عدم تطابق مع القانون الدولي لحقوق الانسان».
ويتم في هذه الدراسة تقييم مدى تطابق المادة 22 من النظام الأساسي للمحكمة الخاصة بلبنان، مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، فيخلص الى اعتبار أن عقد محاكمات غيابية ينتهك معايير الحد الأدنى للعدالة المعترف بها دوليا، ويخلص الباحثون الى أن النظام الأساسي للمحكمة غير متوافق مع هذه المعايير الدنيا للمحاكمة العادلة، وبالتالي فهي غير متوافقة مع القانون الدولي لحقوق الانسان الذي يقرّ لبنان بالتزامه به في دستوره.
ثانياً: تكشف الوثائق التاريخية لمحاكمات نورمبرغ أن الألمان أجبروا على الاعتراف بالجرائم، عبر تهديد حياتهم، أو من خلال صفقات قاموا بها مع المحكمة، فأعطوا شهادات زور لتخليص أنفسهم وخدمة المنتصرين ـ القضاة.
اعتمدت تلك المحاكم الدولية إذاً على شهود زور لمحاكمة المهزومين في الحرب، وعلى ما يبدو أن ثقافة شهود الزور، هي ثقافة عالمية قديمة لا ترتبط بمحاكمة قتلة الحــريري فـقط، ولا ترتبط بفترة تاريخية معينة.
ونشير في هذا الصدد الى كتاب توثيقي هام صادر عن جامعة كامبردج 2010 بعنوان «تقصي حقائق بدون حقائق Fact-Finding Without Facts «، دحضت الباحثة فيه الاعتقاد السائد بأن المحاكمات الدولية تستـطيع أن تحدّد بنجاح «من فعل ماذا» خلال أوقـات الفظائع والجرائم وبقيامها بدراسة إحصائية عالمية، وجدت الباحثة حقائق مثيرة للاشمئزاز، فقد اكتشفت أنه «ما يزيد عن 50 % من الشهود الذين ظهروا في المحاكم الدوليـة كانوا شهود زور».
ثالثاً: تكشف الوثائق التاريخية أيضاً أن كثراً من «مجرمي الحرب» الألمان الذين تواجدوا على اللائحة البريطانية للاتهام، حوكموا على أساس الأدلة المتوافرة، وليس على اساس الجرم، ومنهم من حوكم على تصريحاته وخطبه. وفي دراسة للقرارات الاتهامية الصادرة عن المدعين العامين في المحكمة الخاصة بيوغسلافيا السابقة، نجد أن بابيتش اتُهم بأن «خطاباته خلال مناسبات عامة ومن خلال وسائل الإعلام مسّت بالإثنيات وولّدت مناخاً من الخوف والكراهية بين الصرب المقيمين في كرواتيا بهدف الحصول على دعمهم ومشاركتهم في تحقيق أهداف المجموعة الجرمية».
وهكذا، وقياساً على لبنان وما يُحكى عن اتهام سيوجه لعناصر من حزب الله بالاغتيال، يمكن للمدعي العام المحاكمة على النوايا، وتضمين القرار الاتهامي بعض الخطب للسيد حسن نصرالله، واعتباره مذنباً بجرم الحضّ على الكراهية، أو على توفير الجو الملائم للاغتيال، من خلال خطب إعلامية او تصريحات سياسيات معينة، وهو الامر الذي ينسف، بالاضافة الى ما تحتويه المادة الثالثة من نظام المحكمة الاساسي من علاقة الرئيس بالمرؤوس، تسوية «العناصر غير المنضبطة».
رابعاً: منذ تأسيسها اتهمت المحاكمات الدولية بأنها «محاكم المنتصر» إذ لم تسجل اي محاكمة لأي من المنتصرين او وكلائهم، ولم تتم محاكمة أي من قادة الولايات المتحدة الاميركية بجرائم حرب في اليابان، على سبيل المثال لا الحصر، بل حوكم اليابانيون المنهزمون.
أما فيما يختص بالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، فان قراءة تاريخية بسيطة لمسار التحقيق الدولي وتطور الاتهام فيه، يذكرنا كيف أدّت التطورات الميدانية في العراق واعلان الاميركيين نيتهم الانسحاب منه، ودخول الاتفاقيات العراقية - الاميركية حيز التنفيذ في كانون الثاني 2009، الى سقوط الاتهام السياسي باغتيال الحريري عن سوريا لانتفاء الهدف منه وهو «التعاون مع الأميركيين في القضايا الاقليمية» وخاصة في الموضوع العراقي.
لم يستطع الاميركيون أن ينتصروا على سوريا ويسقطوا نظامها بعد سقوط العراق، فسقط الاتهام عنها واطلق سراح الضباط الاربعة في نيسان 2009. عندها تحولت المحكمة الى هدف آخر هو حزب الله، فنشر المقال في مجلة «دير شبيغل» في أيار 2009 وتوالت التسريبات.
وبغض النظر عن السيناريوهات التي تطرح للازمة الراهنة، والسباق المحموم بين التسوية والانفجار، إلا أنه يبقى من المؤكد أن محكمة الحريري لن تصل الى مكان طالما ليس هناك منتصر وخاسر في لبنان... كما في كل زمن تحولات مفصلية، وكما في كل حرب، من يملك القدرة على الصمود والمواجهة ومن يمتلك القوة الكافية للانتصار يكـسب كل شيء، فيسنّ القوانين ويقيم المحاكمات لأعـدائه ويكتب التاريخ!
مقال نشر في جريدة السفير