اعتمد التيار الوطني الحر منذ تأسيسه، استراتيجية اللاعنف التي سمحت لطلابه وناشطيه بتحدي السلطات التي كانت قائمة قبل خروج السوريين من لبنان. وكما يظهر من خلال سلوكه المعتمد بعد 2005، ومع عودة تفشي ظاهرة العنف وانتشار السلاح في المجتمع اللبناني، يتبين ان اللاعنف ما زال السمة الأساسية في تكوين التيار الوطني الحر وخياراته الاستراتيجية.
لكن، ما هي استراتيجية اللاعنف؟ وهل ما زالت صالحة كاستراتيجية للوصول الى التحرر والانتصار في معركة التحرر، بعد أن أثبتت نجاعتها في معركة التحرير؟ وما هو مصير التيار اللاعنفي بعد انتشار ظاهرة العنف والتسلح التي يمارسها جميع الاطراف في لبنان دون استثناء؟.
في مقارنة التعاريف المتعددة لاستراتيجيات اللاعنف المعتمدة في المعارك السياسية، نجد أن افضل تعريف هو: "شنّ الصراع الحاسم على الخصوم المعاندين من خلال التحكم المقصود والمخطط في أدوات القوة السياسية لتحطيم إرادة الخصم باستخدام أسلحة لاعنيفة قوية التأثير".
ويمكن القول ان اللاعنف سواء كان استراتيجية تهدف الى تحقيق أهداف سياسية أو فلسفة أخلاقية تنبذ استخدام العنف في سبيل أهداف اجتماعية وثقافية، فانها بالتأكيد نقيض لاستراتيجتين هما الرضوخ والانصياع السلبي للظلم، أو الصدام المسلح معه.
وبتحليل إضافي لفلسفة واستراتيجيات اللاعنف المعتمدة تاريخيًا، يبدو من المفيد إدراج بعض الملاحظات على أهمية مفهوم اللاعنف كاستراتيجية معتمدة في المعارك الداخلية للتحرر من الفساد والظلم والاستئثار والانتصار في معركة بناء الدولة في لبنان:
- اولاً: اللاعنف لا يمكن أن يكون مطلقًا
يقول غاندي في تعليقه على مجموعة من أبناء شعبه، تركوا منازلهم وهربوا من الشرطة التي شنّت هجومًا على قريتهم، ونهبت أموالهم واغتصبت نساءهم، وحيث إنهم برروا هروبهم بامتثالهم لأوامره وتعليماته باللاعنف: "أردت أن أراهم يقفون كالترس بين الأعظم قوة وبين الأكثر ضعفًا... والحق أنه دليل بعضٍ من شجاعة أن يدافع الناس عن مقتنياتهم بحد السيف، ويصونوا كرامتهم...إني أفضل ألف مرة أن أخاطر فألجأ إلى العنف على أن أرى شعبًا بأسره يتعرض للإبادة". ويضيف: "بين العنف والجبن، فانا أفضل العنف".
وهكذا، فان اللاعنف لا يعني الجبن ولا يدعو اليه، فأمام تهديد الوجود أو الكرامة، لا يمكن للانسان أن يهرب من المواجهة بذريعة اللاعنف، ومن هذا المبدأ، فان تأييد التيار الوطني الحر لمبدأ المقاومة المسلحة ضد اسرائيل، لا يعني مطلقًا تخليه عن استراتيجية اللاعنف.
- ثانيًا: اللاعنف هو بالتأكيد ليس "من ضربك على خدك الايمن در له الايسر"
وهو أبعد ما يكون عن السلبية والخنوع والاستقالة من الواجب الوطني بالمقاومة ، لا بل ان اللاعنف يتطلب شجاعة هي أكبر بكثير من استراتيجية العنف. ويقول البروفيسور جين شارب، "إن العمل اللاعنيف هو أسلوب يستطيع به الناس، الذين يرفضون السلبية والخضوع والذين يرون أن الكفاح ضروري، أن يخوضوا صراعهم بدون عنف... وهو ليس محاولة لتجنب أو تجاهل الصراع، بل هو استجابة لمشكلة كيفية العمل بفعالية في مجال السياسة، لاسيما كيفية استخدام القدرات بفعالية".
من هنا نستطيع أن نفهم دعوات التيار الوطني الحر الدائمة للمواطنين للتعبير عن رفضهم للواقع المزري، وعدم الاستقالة من الوطن بذرائع ملفقة منها الحياد والاعتدال وغيرها.
- ثالثًا: من مميزات اللاعنف، توحّد الغاية والوسيلة:
اللاعنف هو استراتيجية ككل الاستراتيجيات الاخرى؛ قد تنجح وقد تفشل بحسب ظروف استخدامها ، وقد تؤدي – كما العنف- الى تحقيق الهدف المنشود أو لا. إلا أنّها تتميّز بأنّ هدفها النهائيّ ليس النصر في المعركة فحسب، بل تهدف الى تغيير الواقع نفسه. ويقول غاندي في هذا المجال، الوسائل غير الاخلاقية كالعنف لا يمكن أن تؤدي الى أهداف أخلاقية، لان الوسائل تكون بحد ذاتها أهداف، أو انها أهداف في طبيعتها.
لهذا، نجد أن غاية المقاومة لدى التيار الوطني الحر قد تضمّنت فعلاً في الوسيلة المستخدمة أي "اللاعنف". فغاندي، على سبيل المثال، لم يسعَ فقط إلى خروج البريطانيين من الهند بل أكّد على استقلال الهنود أنفسهم أوّلاً، وهنا بيت القصيد لدى التيار الوطني الحر، فمن خلال اللاعنف يريد التيار أن يحرر الانسان في لبنان ويحقق بناء دولة المواطنين لا الرعايا بالاضافة الى تحريره الارض واستعادة السيادة.
- رابعًا: ان اللاعنف لا يعني مطلقًا تجنب الصراع، بل هو مصدر له:
قبل غاندي لم يكن هناك نزاع بين البريطانيين والهنود، لأن العلاقة بين العبد والسيد هي حياة سلام طالما بقي العبد مستكيناً قانعًا شاكرًا سيده على النعمة، لكن "السلام الزائف" ينتهي عندما يبدأ العبد بالمطالبة بحقوقه وحريته. لقد أوجد غاندي النزاع بين الهنود والبريطانيين عندما طالب بتحقيق المساواة وطالب بالحصول على إستقلال بلاده.
إذاً يجب أن نقبل بوجود النزاع، وهكذا يصبح اللاعنف مسببًا للنزاع وليس رفضاً له أو حافزًا لتجنبه ولا تجنبًا للنضال من أجل الحرية، ولا رفضًا للمقاومة.
لهذا السبب، عندما يؤخذ على التيار الوطني الحر أنه فجّر صراعًا في لبنان، أو يقال أن العماد عون "مش مخلي حدا"، فالجواب يكون أن هذا طبيعي، لان صاحب العزة والكرامة الرافض للتسليم للمستبد والمستأثر والفاسد، والمقاوم للظلم يخلق الصراع ولا يتجنبه أو يهابه.
- خامسًا: المساواة ميزة المقاومة اللاعنفية:
أي انها تشكّل حيزًا مفتوحًا يمكن للجميع أطفالاً وشبابًا وشيبًا، نساء ورجالاً، المشاركة فيه، على عكس العنف الذي يعتمد على القوة ويحتاج شبابًا وصحة و"ذكورة".
بهذا المعنى يمثل اللاعنف نقلة نوعية على المستوى الإنسانيّ، من خلال المساواة التي يؤمنها لممارسيه، فيعيد إليهم الأمل بقدرتهم على إحداث التغيير، إذ يستطيع كلّ شخص أن يكون فعّالاً مهما ضعفت وتواضعت امكاناته، وبنفس المستوى، دون أيّ تمييز بحسب الجنس او الثقافة وغيرها.
ولعل أبلغ دلالة على ذلك، المساهمة الفعالة والأساسية التي كانت للمرأة والشباب وأصحاب المهن الحرة والجامعيين خلال مرحلة النضال في التيار الوطني الحر خلال الخمس عشرة سنة الممتدة من التسعين ولغاية العام 2005.
إذًا، انتصرت استراتجية التيار اللاعنفية سابقًا وتحقق الانسحاب السوري من لبنان، وأحرج الناشطون السلطات اللبنانية مرات ومرات وأوقعوها في فخ مواجهة استراتيجية اللاعنف؛ فإذا أجازت النشاط اللاعنفي ينتصر التيار وتكتسب حركته قوة إضافية، وإذا قاومته وقمعته بوسائل عنفية تحقق هدف الناشطين، إذ يظهر ظلم خصومهم للعيان جسيمًا، فتحرز لهم كسبًا سياسيًّا لا يستهان به.
والان ، يبدو التيار الوطني الحر مستمرًا باستراتيجية بناء الوطن، من خلال اللاعنف. فهل يبقى على الوسيلة الانجع والانسب لمواجهة العنف الكلامي والاعلامي والتحريضي المذهبي الذي يمارسه أهل السلطة في لبنان؟.
نحن نعتقد بذلك، لكن في زمن العنف المتعدد الوجوه، على التيار اللاعنفي الاستعداد للمواجهة والصراع لأن المنطقة ومعها لبنان قادمان على مزيد من التصعيد والتوتر، ما سيفرض عليه معارك مصيرية كثيرة، ويبقى واجبه خلق النزاع حين تدعو الحاجة، انطلاقًا من ايمانه بحقه في المقاومة ورفض الظلم والفساد.
مقالة أكثر من رائعة وأكثر من حضارية وأكثر من دستور للديموقراطية وأكثر من مادة تعليمية ..انها وليدة ايمان وتضحية ووفاء وتجربة مميزة في بناء الأوطان والأجيال في منطقة أقل ما يقال أنها ديكاتورية ودموية ... انها التجربة التي استمدت روحها من تعاليم السيد المسيح الذي نهر ب الرسول بطرس عندما إستل سيفه وقطع أذن أحد الجنود الذين أتوا لاعتقاله ...رد سيفك إلى حيث هو ..ألا تعرف بأني قادرٌ أن اطلب من أبي أهدى عشر فيلقاً من الملائكة ؟ وأردف السيد المسيح قائلاً ..ما أخذ بالسيف بالسيف يأخذ ...
ردحذفشكراً لك سيدتي وادعوا الجميع التمعن جيداً المعاني وألمباديء التي بنيت عليها هذه المقالة الرائعة .
لم يعد اللاعنف ينفعنا في هذا الزمن قالغدر جارنا والغدارين كثر واليوم وفي حال اشتعلت المعركة سنكون ضحيتها بسبب اللاعنف فهلمو لاقتناء السلاح للدفاع عن أنفسنا
ردحذفإن غاندي الذي أقسم أمام والدته بعدم تذوق اللحوم أو الخمر قبيل سفره إلى انكلترا لتلقي دروسه الجامعية في كلية الحقوق هو نفسه الذي اعتمد سياسة اللاعنف لتحرير بلاده من الإستعمار البريطاني وهو الذي واجه المستعمرين الذين كانوا يستولون على الحرير وهو من ثروات الهند ليعودوا ويبيعون المنتجات الإنكليزية الحريرية إلى الهند فهل من سياسة أنجع من سياسة اللاعنف ؟
ردحذفالاصدقاء الاعزاء
ردحذفانا لا اؤمن باستراتيجية السلاح بل بسلاح الكلمة الو يقل الكتاب المقدس في البدء كان الكلمة.. ثم ان السلاح لن يؤدي الا الى الانزلاق في الوحول والتحول الى ميلشيات لا تختلف عن غيرها بشيء.
أما بالنسبة للاستاذ انطوان ألوف
احييك واحيي جهودك واشكرك على ما كتبته.
تحياتي
ليلى