2010/12/30

My wishes for 2011

Dear friends,

Another year has just passed away..As we look forward to meet the new year 2011; I wish YOU keep hope, faith; and especially your passion.
Passion - for me -  is not an act. It is a way of believing.
I mean the real passion for who you are, who are you becoming, where are you now, and where are you going the following years, what do you believe in, stand for and would die for!!!!
In the evaluation for the last year, just ask yourself: are you living like more than 85% of the population with the attitude, "Same Stuff, Different Day?"

Let your passion in the coming year shouts to the world:
"I am here to stay, I am here to make a difference, I will leave my mark in this world. It may take me my entire life, but I will not give up until my purpose and destiny are realized."

with all my best wishes,
Leila Nicolas- Rahbani

2010/12/03

محاكم دولية بشهود زور دوليين

المطالبات بتحقيق العـدالة الجنائية هي مطالب محقة وطبيعية، إذ لا يمكن لعاقل ذي ضمير أن يوافق على استمرار سياسة الإفلات من العقاب السائدة في العالم والتذرع بالسيادة لممارسة أعمال القتل والتعذيب والإبادات. لكن الحديث عن عدالة دولية من دون تسييس ومن دون صفقات سياسية، يبدو لدارسي العلاقات الدولية وتاريخها إما كلاما جاهـلا أو فائق المثالية.

فعليًا، بدأت ثقافة انشاء المحاكم الدولية تتسع وتصبح أمرًا شائعا في العلاقات الدولية مع إنشاء المحاكم الدولية الخاصة بيوغسلافيا ورواندا، وهي محاكم دولية أنشئت ابتداء من العام 1993 للبت في جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبت في دولة ما، خلال فترة محددة من الزمن، وخلال نزاع محدد.

لكن الكلفة العالية جدًا التي تكبدها المجتمع الدولي لهذه المحاكم، بالاضافة الى النقص في الموارد والكثير من المصاعب والاعتراضات التي واجهتها، بالاضافة الى اعتبارها كوسيلة هيمنة واتهامها بالتسييس وبأنها «محاكم المنتصر»، دفعت المجتمع الدولي الى الاستعاضة عنها بإقرار مبدأ المحاكم المختلطة، أي التعاون مع البلدان المتضررة على تشكيل محاكم «ذات طابع دولي» تجمع ما بين النظم القضائية المحلية والدولية، وعلى هذا النمط نشأ العديد من المحاكم ومنها «المحكمة الدولية الخاصة بلبنان».

وفي دراسة لمسار المحاكم الدولية منذ تأسيسها، نجد ان المحاكمات الاشهر في تاريخ القانون الدولي والتي أسست لمبدأ المسؤولية الجنائية الفردية، وهي محاكم نورمبرغ وطوكيو، ومن بعدها المحاكم الدولية الخاصة والمختلطة، وعانت وتعاني من عيوب كثيرة تمس بسمعتها وصدقيتها، نوجز بعضها بما يلي:

أولا: ان المحاكمات التي أجريت في نورمبرغ وطوكيو، أصدرت أحكامها بموجب قانون بمفعول رجعي، أي ان المتهمين حوكموا على جرائم لم تكن تعتبر جرائم حين قاموا بها، ما يعني أن المحاكمات لم تحترم مبدأ «لا جريمة بدون نص». أما المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، فاللافت أنها لا تعمل بموجب القانون الدولي الإنساني كما بات معلوما، ولا تتفق أيضا مع القانون الدولي لحقوق الانسان كما ذكرت دراسة أعدتها جامعة اوكسفورد ونشرت في ايار الماضي، بعنوان «المحاكمات الغيابية في المـحكمة الخاصة بلبنان: عدم تطابق مع القانون الدولي لحقوق الانسان».

ويتم في هذه الدراسة تقييم مدى تطابق المادة 22 من النظام الأساسي للمحكمة الخاصة بلبنان، مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، فيخلص الى اعتبار أن عقد محاكمات غيابية ينتهك معايير الحد الأدنى للعدالة المعترف بها دوليا، ويخلص الباحثون الى أن النظام الأساسي للمحكمة غير متوافق مع هذه المعايير الدنيا للمحاكمة العادلة، وبالتالي فهي غير متوافقة مع القانون الدولي لحقوق الانسان الذي يقرّ لبنان بالتزامه به في دستوره.

ثانياً: تكشف الوثائق التاريخية لمحاكمات نورمبرغ أن الألمان أجبروا على الاعتراف بالجرائم، عبر تهديد حياتهم، أو من خلال صفقات قاموا بها مع المحكمة، فأعطوا شهادات زور لتخليص أنفسهم وخدمة المنتصرين ـ القضاة.

اعتمدت تلك المحاكم الدولية إذاً على شهود زور لمحاكمة المهزومين في الحرب، وعلى ما يبدو أن ثقافة شهود الزور، هي ثقافة عالمية قديمة لا ترتبط بمحاكمة قتلة الحــريري فـقط، ولا ترتبط بفترة تاريخية معينة.

ونشير في هذا الصدد الى كتاب توثيقي هام صادر عن جامعة كامبردج 2010 بعنوان «تقصي حقائق بدون حقائق Fact-Finding Without Facts «، دحضت الباحثة فيه الاعتقاد السائد بأن المحاكمات الدولية تستـطيع أن تحدّد بنجاح «من فعل ماذا» خلال أوقـات الفظائع والجرائم وبقيامها بدراسة إحصائية عالمية، وجدت الباحثة حقائق مثيرة للاشمئزاز، فقد اكتشفت أنه «ما يزيد عن 50 % من الشهود الذين ظهروا في المحاكم الدوليـة كانوا شهود زور».

ثالثاً: تكشف الوثائق التاريخية أيضاً أن كثراً من «مجرمي الحرب» الألمان الذين تواجدوا على اللائحة البريطانية للاتهام، حوكموا على أساس الأدلة المتوافرة، وليس على اساس الجرم، ومنهم من حوكم على تصريحاته وخطبه. وفي دراسة للقرارات الاتهامية الصادرة عن المدعين العامين في المحكمة الخاصة بيوغسلافيا السابقة، نجد أن بابيتش اتُهم بأن «خطاباته خلال مناسبات عامة ومن خلال وسائل الإعلام مسّت بالإثنيات وولّدت مناخاً من الخوف والكراهية بين الصرب المقيمين في كرواتيا بهدف الحصول على دعمهم ومشاركتهم في تحقيق أهداف المجموعة الجرمية».

وهكذا، وقياساً على لبنان وما يُحكى عن اتهام سيوجه لعناصر من حزب الله بالاغتيال، يمكن للمدعي العام المحاكمة على النوايا، وتضمين القرار الاتهامي بعض الخطب للسيد حسن نصرالله، واعتباره مذنباً بجرم الحضّ على الكراهية، أو على توفير الجو الملائم للاغتيال، من خلال خطب إعلامية او تصريحات سياسيات معينة، وهو الامر الذي ينسف، بالاضافة الى ما تحتويه المادة الثالثة من نظام المحكمة الاساسي من علاقة الرئيس بالمرؤوس، تسوية «العناصر غير المنضبطة».

رابعاً: منذ تأسيسها اتهمت المحاكمات الدولية بأنها «محاكم المنتصر» إذ لم تسجل اي محاكمة لأي من المنتصرين او وكلائهم، ولم تتم محاكمة أي من قادة الولايات المتحدة الاميركية بجرائم حرب في اليابان، على سبيل المثال لا الحصر، بل حوكم اليابانيون المنهزمون.

أما فيما يختص بالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، فان قراءة تاريخية بسيطة لمسار التحقيق الدولي وتطور الاتهام فيه، يذكرنا كيف أدّت التطورات الميدانية في العراق واعلان الاميركيين نيتهم الانسحاب منه، ودخول الاتفاقيات العراقية - الاميركية حيز التنفيذ في كانون الثاني 2009، الى سقوط الاتهام السياسي باغتيال الحريري عن سوريا لانتفاء الهدف منه وهو «التعاون مع الأميركيين في القضايا الاقليمية» وخاصة في الموضوع العراقي.

لم يستطع الاميركيون أن ينتصروا على سوريا ويسقطوا نظامها بعد سقوط العراق، فسقط الاتهام عنها واطلق سراح الضباط الاربعة في نيسان 2009. عندها تحولت المحكمة الى هدف آخر هو حزب الله، فنشر المقال في مجلة «دير شبيغل» في أيار 2009 وتوالت التسريبات.

وبغض النظر عن السيناريوهات التي تطرح للازمة الراهنة، والسباق المحموم بين التسوية والانفجار، إلا أنه يبقى من المؤكد أن محكمة الحريري لن تصل الى مكان طالما ليس هناك منتصر وخاسر في لبنان... كما في كل زمن تحولات مفصلية، وكما في كل حرب، من يملك القدرة على الصمود والمواجهة ومن يمتلك القوة الكافية للانتصار يكـسب كل شيء، فيسنّ القوانين ويقيم المحاكمات لأعـدائه ويكتب التاريخ!

مقال نشر في جريدة السفير


2010/11/10

لمن سيأتي المسيح مرة ثانية؟

أقيم في بيروت يوم الجمعة في 5 تشرين الثاني، لقاء تضامني مع القدس، القت خلالها ليلى نقولا الرحباني، المداخلة التالية بعنوان: "لمن سيأتي المسيح مرة ثانية؟"، وهذا نصها:

اسمحوا لي ايتها السيدات والسادة، أن لا أتحدث عن المقدسات في القدس، لن اتحدث عن مساجد وكنائس، ولن اتحدث عن مصلين ومصليات... فبالرغم من أنني اعتبر ان القدس بشر وليست حجر، وقيمتها الدينية لا تطغى على قيمتها الانسانية وقيمة انسانها الموجود فيها، وبالرغم من أن مقدساتها قيمة غالية على قلوبنا جميعًا وتهديدها يهز كياننا ويطعننا في الصميم، لكني لن اتحدث عنها.

اسمحوا لي أن أتحدث اليوم عن المسيح... أنا الانسانة العلمانية سأتحدث عن المسيح، وأسال عن أي عدل الهي يرجوه اليهود من تهويد القدس؟.

هي القدس نفسها التي بكى عليها المسيح قائلاً: " ليتك عرفت أنت أيضًا في هذا اليوم طريق السلام! ولكنه حُجب عن عينيك، فسوف تأتيك أيام يلفّك أعداؤك بالمتاريس، ويحاصرونك ويضيّقون عليك الخناق من كل جهة، ويدمرونك وأبناءك فيك، ولا يتركون فيك حجرًا على حجر، لأنك لم تعرفي وقت افتقاد الله لك" (لوقا 19: 41- 44).

فماذا عساك تقول ايها المسيح اليوم؟ وما عسى الانبياء يقولون اليوم عن العدل المهدور على أبواب المدينة المقدسة يوميًا؟ ماذا يقول الانبياء والاعداء يحيطون بالمدينة بمتاريسهم وجنودهم وبنادقهم، يسدّون الطرق المؤدية الى الاقصى وكنيسة القيامة ويبنون "كنيس الخراب" فيها؟

يا اخوتي، اني اتساءل واياكم

عما يبحث ذلك الساعي الى تشتيت أهل القدس وتشريدهم وطمس حضور المسيحية والاسلام فيها؟

وماذا يريد ذلك الساعي الى تهجير المسيحيين من الشرق وطمس حضور المسيحية في المشرق العربي بأكمله؟

لماذا يُضرب المسيحيون في العراق والقدس وفلسطين وتفتح لهم أبواب السفارات الغربية؟

لماذا يُحاول دائمًا ضرب المسيحيين المتشبثين بلبنان وطنًا نهائيًا لا رحيل منه؟

لماذا نرى دعاة الانعزال والتقوقع يجرّون المسيحيين جرًا نحو المواجهة مع أبناء الوطن؟

من الناحية السياسية أشبعنا الأمر تمحيصًا وقراءات استراتيجية، فهل فكّر أحدنا بالأمر من ناحية دينية؟

هل فكر أحد منا في مغزى القراءة الحرفية للعهد القديم الذي يقرأه معظم مسيحيو اوروبا وأميركا؟

إن الغاء الوجود المسيحي في الشرق، سيغيّر وجه الشرق الحضاري بأكمله ويجعله يغرق في التخلف والتعصب ويصبح مسرحًا لحروب الالهة على الارض..

إن إلغاء المسيحية والاسلام من القدس سيجعل وجود المسيح فيها وحضوره ونبوته من باب اللافعل، أي يصبح حدثًا خارج إطار الذاكرة الجماعية في المشرق وفي القدس بالتحديد... برحيل الشهود وفقدان الجماعة المنتظرة القدوم الثاني، لمن سيأتي المسيح مرة اخرى؟

وأي اسلام يبقى بنسيان نبوة عيسى بن مريم، وفقدان روح الله وكلمته وتحوّل أمه الطاهرة الى مجرد امرأة أنجبت طفلاً غير شرعي كما يتهمها اليهود؟

لن يكون عدل ولن يستوي حكم، بتهجير المسيحيين من المشرق، وبخروج القدس عن قدسيتها...

إن أقدس ما في هذه الارض هو إنسانها...هو حق سكانها فيها...

لكني أؤكد لكم أن الحق لن يزول، ولن يستطيعوا قهر ارادتنا...وسيكون مصيرهم كما تنبأ لهم إشعيا النبي بالقول: "توكلتم على الظلم والالتواء واعتمدتم عليهما، لذلك يكون هذا الاثم لكم كصدعٍ منقضٍ ناتئٍ في جدار مرتفع فيُحدث انهدامه على الفور، ويكسر ككسر إناء الخزافين، مسحوقًا بلا شفقة، حتى لا يوجد في مسحوقه قطعة لأخذ نار من الموقدة، أو لغرف ماء من الجبّ؟ (اشعياء 30:12-14).

2010/11/04

السياسة الخارجية الاوروبية تجاه القضية الفلسطينية: منطلقاتها وخلفياتها

تعقيب على ورقة آلان غريش في مؤتمر عقد في بيروت حول السياسة الخارجية الاوروبية والقضية الفلسطينية في 3 و4 تشرين الثاني 2010:

خلفيات السياسة الخارجية الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية ومحدداتها

ليلى نقولا - الرحباني

بداية وقبل البدء بأي نقاش حول الموقف الاوروبي تجاه القضية الفلسطينية، علينا أن ندرج حقيقة جوهرية مفادها أنه لا يمكن لأي باحث في موضوع السياسة الخارجية تجاه القضية الفلسطينية أن يتغاضى أن الاوروبيين سواء كانوا مندمجين في اتحاد أو متفرقين في دول مستقلة، فهم يتحملون مسؤولية تاريخية وأخلاقية وقانونية عن نشوء القضية الفلسطينية وقيام اسرائيل بشكل مخالف لكل مبادئ القانون الدولي.

منذ وعد بلفور وبعدها السياسات التي اتبعها الانتداب في الاراضي الفلسطينية، مرورًا بقرار التقسيم واعلان دولة اسرائيل عام 1948 وصولاً الى أيامنا الراهنة و"الدعم غير المسبوق لاسرائيل" بحسب تعبير بيريز، وحيث يطالعنا كل يوم تصريحات مسؤولين أوروبيين تزايد على الاسرائيليين في الدفاع عن دولتهم بالرغم من كل الاهانات التي يوجهها لهم كل من ليبرمان وغيره من الاسرائيليين.... كل هذه الاحداث والشواهد التاريخية تجعل من اوروبا ومن خلفها المجتمع الدولي، مسؤولة عن تهجير شعب وقتله واغتصاب أرضه وتفجير منطقة الشرق الاوسط بكاملها وتعرضها لعدم الاستقرار بسبب الاحتلال.



في الورقة التي نعقّب عليها الآن، يتحدث آلان غريش عن التاريخ الاوروبي في التعامل مع القضية الفلسطينية، فيقسمه الى ثلاث مراحل، يبدأ بحرب 1967 وينتهي بمرحلة ما بعد عام 2000.

في المرحلة الاولى يتحدث عن "وثيقة شومان" عام 1971 كوثيقة اوروبية اولى تعاطت مع القضية الفلسطينية كقضية لاجئين ولم تذكر حق تقرير المصير ولا منظمة التحرير الفلسطينية. وبعد حوالى عشر سنوات أُصدر اعلان فينيس 1980، الذي طالب بحل عادل للقضية الفلسطينية، وحقهم في اقامة دولتهم المستقلة، وقد هاجمه الاميركيون ورفضه الاسرائيليون بشدة.

ويصل الباحث الى اوسلو ليتحدث عن تهميش دور اوروبا بالكامل، ويقول ان موقف الاسرائيليين والاميركيين بتهميش اوروبا كان مفهومًا ولكن ما لم يُفهم هو الموقف الفلسطيني.

طبعت المرحلة الثانية اي ما بعد اوسلو الى عام 2000، بقرار اوروبي بالاكتفاء بالمساعدة الاقتصادية والفشل في اكتساب دور سياسي، ويعزو أسباب هذا الفشل الى أن اوروبا هي كما يقال عنها "عملاق اقتصادي وقزم سياسي".

أما المرحلة الثالثة أي ما بعد عام 2000 وهي مرحلة تتلخص بدعم اوروبي كبير لاسرائيل.

في هذه المرحلة بدأ أعضاء الاتحاد يقيمون علاقات واتفاقات ثنائية مع اسرائيل بالرغم مما كانت تفعله في الاراضي المحتلة .

يعزو الباحث اسباب هذا الانقلاب في الموقف الاوروبي الى تغيّر النظرة للقضية الفلسطينية، فبينما كان يُنظر اليها سابقًا خلال السبعينات والثمانينات الى أنها قضية بين قوة احتلال وشعب محتل، تحولت النظرة بعد 11 ايلول لتصبح فلسطين هي إحدى الجبهات في صراع الحضارات بين الغرب والاسلام.

وينهي الباحث ورقته بتوصية الى اوروبا الى انها يجب أن تعترف بأن النزاع ليس بين قوى متساوية بل بين احتلال ومحتلين. واذا كانت اوروبا تعتقد ان الحل هو قيام دولة فلسطينية مستقلة فيجب أن تضغط لذلك، لان الضغط القوي هو فقط من يغيّر سياسات اسرائيل.

------------------------------------



بدايةً أنا أوافق الباحث بأنه كان على المفاوض الفلسطيني أن يطالب بالشريك الاوروبي في مفاوضات السلام ومؤتمراته وذلك لحفظ نوع من التوازن مع الاميركي الذي لم يكن يومًا طرفًا محايدًا.. ولكن عندما نقرأ تاريخ القضية الفلسطينية ونبحث في سجلاتها وأرشيفها نجد أن الخطأ مزدوج أوروبي فلسطيني وأساسه المصلحة وعدم الثقة، وسأدرج فيما بعد مسؤولية الاوروبيين عن تهميش أنفسهم، ولكن الموضوعية تفترض أيضًا أن نذكر أن منظمة التحرير الفلسطينية قامت بسلسلة من الاخطاء والخطايا في تاريخها. ولأن موضوعنا هو العلاقات الاوروبية الفلسطينية، فيمكن أن نذكر من هذه الاخطاء مثال واحد معبر جدًا:

إعلان فينيس في حزيران 1980 الذي أتى على اثر توقيع معاهدة كامب ديفيد، والذي أقرّ بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة وحقهم في تقرير مصيرهم، واشراك منظمة التحرير الفلسطينية في أي مفاوضات الخ، والذي أدى الى علاقات سيئة جدًا بين الاوروبيين والاسرائيليين.... كما اسرائيل وأميركا رفضت منظمة التحرير هذا الاعلان ايضًا، وهاجمه فاروق القدومي خلال جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة في اواخر تموز 1980.

أما بالنسبة للتهميش الذي وجدت أوروبا نفسها فيه خلال مفاوضات السلام ومؤتمراته وخلال مسار القضية الفلسطينية الى الآن، فله اسباب عدة لم يتطرق اليها الباحث في ورقته، سنوجزها بما يلي:

1- اكتفاء اوروبي منذ تاريخ وثيقة شومان الى اليوم، بسياسة الاعلانات والبيانات declaratory policy فباستثناء البيانات لم نجد أن الاوروبيين قاموا بأي ضغط لاعطاء قوة للبيانات وجعلها موضع التطبيق. إن عدم قيام الاوروبيين بأي اجراءات عقابية أو ردعية أو اتخاذ تدابير بحق اسرائيل... أفقد العالم الثقة بقدرتهم على لعب دور محوري كوسيط نزيه أو كلاعب مؤثر .

2- انسحاب اوروبي طوعي وتهرب من دور سياسي مطلوب في القضية الفلسطينية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، الحوار العربي الاوروبي الذي بدأ بعد العام 1973 في مؤتمر كوبنهاغن في كانون الاول 1973، بعد مشكلة النفط الشهيرة واستمر في جولات متتابعة في تونس والقاهرة. أراد العرب من هذا الحوار نتائج سياسية لكسب التأييد الاوروبي للقضية الفلسطينية، بينما كان اهتمام الاوروبيين من الحوار هو النواحي الاقتصادية والتجارية وبالاخص مسألة الطاقة.

3- بالنسبة لمؤتمر مدريد بالتحديد والتساؤل الذي لم يجد له الباحث مبررًا، يعود تهميش اوروبا في مؤتمر مدريد أيضًا الى اللحظة التاريخية التي انعقد فيها المؤتر بعد حرب الخليج الاولى، وسقوط الاتحاد السوفياتي وسيادة شعور لدى الاميركيين بانتصار كبير وقدرة على القيادة المنفردة للعالم، وخاصة في ظل تسليم اوروبي بالقيادة الاميركية والسير خلفها في حربها ضد العراق. لقد أظهرالخلاف حول كيفية التعامل مع العراق عدم وحدة الصف الاوروبي مما أضعف أي موقف يمكن أن يُتخذ في السياسة الخارجية.

4- عدم قدرة اوروبا على الفعل نتيجة القيود المؤسساتية ومراكز القوى داخل الاتحاد نفسه: من المفيد القول ان الدور الاوروبي يعاني من هوة كبيرة بين الطموحات المعلنة والدور الفعلي الذي يؤديه، وقد يفسر هذا الامر بالقيود المؤسساتية والاجرائية للسياسات الاوروبية الخارجية والامنية. كما لا يمكننا أن نغفل دور التباين بين الدول الاعضاء حول الموقف من القضية الفلسطينية وخاصة التباينات بين مراكز النفوذ الكبرى المتمثلة بـ: بريطانيا والمانيا وفرنسا.

أ‌- بريطانيا:

بالاساس ترفض بريطانيا الفكرة بأن يكون الاتحاد الاوروبي هو الاساس في تنسيق السياسات الخارجية ومنها القضية الفلسطينية. كما تخشى بريطانيا من السيطرة الفرنسية على السياسات الخارجية الاوروبية وخاصة اذا كانت هذه السياسات تتعارض مع السياسات الاميركية - لان بريطانيا اختارت دائما أن تكون حليف للولايات المتحدة ولو ضد السياسات الاوروبية كما حصل في العراق 2003. من هنا تحاول بريطانيا موازنة علاقتها بالاتحاد الاوروبي مع علاقتها الخاصة جدًا بالولايات المتحدة التي لها الاولوية بالنسبة للبريطانيين.

ب‌- ألمانيا:

علاقة المانيا الجيدة باسرائيل تبدو أولوية في سياستها الخارجية في الشرق الاوسط، لذا تحاول المانيا أن تكون السياسة الخارجية تجاه الفلسطينيين بالتحديد من خلال الاتحاد الاوروبي.

بسبب عقدتها التاريخية، تجد المانيا من واجبها تأييد قيام دولة اسرائيلية، وتتجنب اتخاذ أي خطوة أو موقف قد يبدو ضد الاسرائيليين. لذا فهي تريد ان يكون الموقف من القضية الفلسطينية من خلال مؤسسات الاتحاد الاوروبي لكي يتاح لها أخذ موقف متوازن مع العرب والابقاء على علاقاتها الجيدة مع اسرائيل بدون اهتزاز.

ج - فرنسا:

يتأرجح الموقف الفرنسي بين الاثنين، فمن جهة يسود لدى الفرنسيين شعور قوي بالهوية الاوروبية لكنهم يؤيدون بعض الاستقلالية الخاصة بهم.

بالرغم من تحبيذها لسياسة اوروبية خارجية فاعلة وموحدة الا أن الروابط التاريخية لفرنسا مع العرب تجعلها تستقل بموقفها عن الاتحاد الاوروبي في قضية الصراع العربي الاسرائيلي، وتاريخيًا ( أي منذ شارل ديغول الى فرنسوا ميتران) كان الموقف الفرنسي متعاطفًا مع القضية الفلسطينية وذلك من خلال المساهمة في صياغة القرار 242 ومن خلال محاولة توحيد الموقف الاوروبي تجاه إقامة علاقات وروابط متينة مع العرب. ظهر التبدل في الموقف الفرنسي بشكل واضح جدًا مع ساركوزي.

الاختلاف الأكثر وضوحًا بين الفرنسيين وباقي الاوروبيين هي رغبة فرنسا بموقف متميز عن الاميركيين في السياسة الخارجية، بينما رغبة الدول الاخرى بالوقوف الى جانب الولايات المتحدة واعطائها القيادة في تحديد الخيارات السياسية في السياسه الخارجية تجاه الشرق الاوسط.
5- قبول اوروبي بالتقسيم الوظيفي الذي حدده له الاميركيون : "أميركا تأخذ الدور السياسي واوروبا تؤمّن التمويل". اعتبر الاوروبيون انهم لا يريدون منافسة الدور الاميركي في الشرق الاوسط بل التكامل معه- بين التنافسية والتكاملية اختار الاوروبييون تهميش انفسهم بذريعة التكاملية. لكن الاميركيين رفضوا حتى التكامل مع الاوروبيين، واختاروا لهم دور المنفذ ، ودافع الفواتير: الفواتير المترتبة على تدمير إسرائيل للمنشآت الفلسطينية، ودفع ثمن التنازلات الفلسطينية للفلسطينيين.

هذا في ما خص أسباب تهميش الدور الاوروبي في القضية الفلسطينية، أما في منطلقات تلك السياسة ومحدداتها ، فيجب لنا أن نلفت أن هناك الكثير من سوء الفهم الاوروبي للقضية أو على الاقل إن المنطلقات التي تنطلق منها السياسة الخارجية الاوروبية في المنطقة هي منطلقات ملتبسة ومشوّهة ومتأثرة بقراءة خاطئة للتاريخ والدين، وفي هذا ندرج بعض الملاحظات:

أولاً: ان المعركة في فلسطين ليست صدامًا حضاريًا ثقافيًا، ولا حربًا أهلية، ولا حربًا دينية... هي ببساطة، صراع بين الحق والباطل، الباطل الذي يتخذ من الدعم الاميركي والاوروبي قوة إضافية لبطشه وضرب القوانين والاعراف الدولية عرض الحائط.

ثانيًا: لا يمكن للعقل الاوروبي "المسيحي" فهم القضية الفلسطينية بجوهرها الحقيقي والتفاعل معها كما يجب، الا من خلال الاقتداء بمسيحيي المشرق بشكل عام والمسيحيين العرب بشكل خاص، الذين طوّروا قراءة العهد القديم وتحرّروا من القراءة الحرفية لبعض النصوص التوراتية حول أرض الميعاد، ففهموها بمعناها الرمزي والروحي وليس الحرفي. وهنا لا بدَّ لنا من الاشارة الى العدد الكبير من اليهود، علمانيين أو رجال دين، الذين يعادون ممارسات دولة إسرائيل ويدينونها بشدة، بلْ أنَّ بعض الفئات المتدينة من الحاخامات يرون عدم شرعية وجود دولة يهودية من المنظور اللاهوتي اليهودي، وبالتالي يعتبرون انشاء اسرائيل بدعة خطيرة في حياة اليهود ومخالفة فظيعة للمبادئ الأخلاقية المسالِمة التي يتمسّكون بها.

ثالثًا: يعيش المجتمع الاوروبي منذ فترة، عصر الانقلاب الثقافي، ولقد برز مفهوم جديد لوصف الحضارة الغربية وجذورها على أنَّها "يهودية مسيحية" وليس كما كانت الحال حتى السبعينيات من القرن الماضي أي "يونانية رومانية".

هذا الانقلاب جعل اسرائيل تحتل مكانة رفيعة في الوجدان الغربي كخط دفاع أساسي ومتقدِّم للحضارة الغربية مقابل الحضارة العربية الإسلامية التي أصبحت تهدِّد، في نظر القيادات الغربية، سلامة العالم المسيحي اليهودي ونظام قيمه ومؤسساته الديمقراطية، وهذا ما يجعلهم يبررون عدوانها المستمر وهمجيتها.

رابعًا: إنَّ الخلفية التاريخية لأوروبا، تتميَّز بقرون من الاضطهاد ضد اليهود تطورت بشكل متصاعد وأدَّت إلى محاولة إبادة اليهود الأوروبيين من قبل النازية خلال الحرب العالمية الثانية. لكن النظرة التبسيطية للصراع اليوم في فلسطين وتحويله عن جوهره الاساسي واسباغ الصبغة الدينية عليه لن يحلّه، ولن تستنقذ تاريخًا اوروبيًا مليئًا بالمآسي وتوبيخ الضمير. لذا على الاوروبيين أن يعوا بأن لا علاقة للمسلمين عمومًا والعرب خصوصًا، بأسباب اضطهاد اليهود في أوروبا أكانت دينية أو عنصرية الطابع، وإفهامهم بأنَّ العرب لم يكونوا يومًا طرفاً في مأساة اضطهاد اليهود وفي المحرقة، لذا لا يجوز للعالم أن يحمّلنا كعرب، مسلمين ومسيحيين، وزر التاريخ الأوروبي والأميركي ومآسيه وتوبيخ ضميره.

خامسًا: يسير الاوروبيون بدون إدراك لخطورتها، في محاولات تصفية القضية الفلسطينية من خلال إهدار حقوق الفلسطينيين المشروعة وأهمها حق العودة، بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في مراكز تواجدهم. من منطلق فهمنا للأوضاع ولمراكز القوى في المنطقة، نؤكد إن هذه المخططات لن تمر، ولن تؤدي الا الى عدم استقرار ونزاعات وحروب مستمرة في منطقة الشرق الاوسط، والتي قد تمتد لتحرق الحيز الجغرافي الملاصق بأكمله.

سادسًا: يؤكد القانون الطبيعي والقانون الدولي الذي نشأ أوروبيًا وامتد الى العالم، أن المقاومة حق وواجب مقدس. لذا بات على الاوروبيين اليوم في سياساتهم الخارجية، الانسجام مع تاريخهم وقيمهم وثقافتهم وقوانينهم والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه ووحقه المشروع في المقاومة بجميع الوسائل المتاحة.

2010/10/08

اغتيال الخيار المقاوم في لبنان: لتصفية القضية الفلسطينية

ليلى نقولا - الرحباني
مقدمة

تفاءل كثر من العرب بقدوم رئيس أميركي جديد الى البيت الابيض، وقد استطاع الرئيس اوباما زرع الامل بأن التغيير الذي سيطرأ على سياسات اميركا في العالم، سيحقق السلام في الشرق الاوسط.

ولعل التفاؤل المفرط الذي ساد لدى بعض الاميركيين وفي العالم، واعتقاد البعض أن باستطاعته اجتراح المعجزات مثّل نقطة الضعف الأكبر للرئيس الاميركي الحالم بالتغيير أو المبشّر به، فقد تبيّن أن الرئيس الجديد رغم الآمال الكبيرة المعقودة عليه داخلياً وخارجياً لا يملك عصا سحرية تمكنه من تجاوز وفك الألغام التي زرعتها إدارة بوش في طريقه على الصعيدين الداخلي والخارجي، كما انه كأي رئيس أميركي آخر، أسير جماعات ضغط صهيونية عشعشت في الادارة والاعلام والمال والنقد الخ، وهو محاط بنخبة حاكمة، تتناسل جيلاً بعد جيل، تؤمن بثقافة التفوق والسيطرة الكونية المنفردة وبتعبئة مشحونة بكراهية الخصوم المحتملين أو المُختَرَعين، والسعي لإخضاعهم بكافة الوسائل بما فيها القوة العسكرية.

إن الفشل الذي منيت به الاستراتيجية الاميركية السابقة المفرطة القوة، دفعت الرئيس اوباما الى تغيير الاستراتيجية المعتمدة للوصول الى الاهداف الأميركية الكبرى أي الهيمنة على العالم وتحقيق مشروعها الامبراطوري، ولكن بسياسات أذكى.... ولعل ما يحصل في لبنان الآن، وما يُحكى عن قرار اتهامي سيصدر ويلف حبل المشنقة على عنق المقاومة، هو تجسيد تام لهذه السياسات بعد أن ثبت بالدليل القاطع في حرب تموز، نظرية عجز القوة.

فما هي الاستراتيجية الاميركية الجديدة وما أبرز مقوماتها؟. وكيف سيتم اعتمادها في لبنان؟ ومن هم المستهدفون بها في لبنان؟ وكيف نواجهها؟

اولاً - السياسة الاميركية الجديدة: أميركا في مرحلة انتقالية

ارتبط مفهوم القوة تاريخيًا بـ"القوة في الحرب"، حيث اعتبرت عناصر مثل القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية بالاضافة الى السكان والأرض والموارد الطبيعية، وغيرها من المكونات أساسية في الحكم على قوة الدولة أو ضعفها. لكن حصر القوة في هذه العناصر بالذات قوبل بانتقادات بعدما ازداد تطور الاعتماد المتبادل وبعدما أدت التطورات التقنية والتكنولوجية الى إضعاف مفاهيم القوة التقليدية.

وفي كتابه الصادر عام 1990 “bound to lead” أدرج المفكر الاميركي جوزيف ناي نوعين من القوة: "الصلبة" و"الناعمة". حيث تعتمد الصلبة على استخدام معايير القوة التقليدية وأهمها القوة العسكرية، وتحدث عن مفهوم القوة الناعمة التي تعني "قدرة دولة معينة على التأثير في دول أخرى وتوجيه خياراتها العامة، وذلك استنادًا إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي ومنظومة قيمها ومؤسساتها، بدلاً من الاعتماد على الإكراه أو التهديد". وقد اعتبر ناي ان استخدام هذه القوة بات متاحًا أكثر بعدما انهار الاتحاد السوفياتي وباتت القيم الليبرالية وقيم الديمقراطية وحقوق الانسان مرغوبة ومطلوبة في آن.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومحاولات أميركية لفرض نظام عالمي جديد بدأته بحرب الخليج الثانية، أتت أحداث 11 أيلول 2001 لتشكّل فرصة ذهبية لهم للانطلاق بقوة هائلة في مشروعهم الامبراطوري للهيمنة على العالم من خلال سياسة "تأليه القوة" واستخدام التدخلات العسكرية المباشرة، والافراط في استخدام اساليب القوة الصلبة. وحاول المحافظون الجدد تنفيذ مشروعهم، من خلال استخدام فائض القوة العسكرية والتقنية للولايات المتحدة لصياغة نظام عالمي تتفرد فيه الولايات المتحدة على عرش النظام الدولي إلى أقصى مدة ممكنة عبر التحكم بمصادر الطاقة، والحيلولة دون تمكين أي دولة أخرى من منافستها عسكريًا وإقتصاديًا وتكنولوجيًا.

لكن مع تعثر المشروع الاميركي ميدانيًا بفعل المقاومة، ظهرت حقيقة "عجز القوة" الاميركية عن تحقيق أهدافها، فكان لا بد للاميركيين من تطوير نظرية جديدة للقوة تنقلها من "القوة العاجزة" الى "القوة الفاعلة"، فطوروا نظرية جديدة للقوة أطلقوا عليها اسم "القوة الذكية".

القوة الذكية (Smart Power) تعني الدمج بين القوة الصلبة (Hard Power) المتمثلة في زيادة القوة العسكرية والاقتصادية الأميركية، والقوة الناعمة (Soft Power) والتي تتمثل في استثمار القيم الأميركية وجاذبيتها عالميًا في التأثير على الدول والشعوب واخضاعها بدون مقاومة. واعتبروا أن الجمع بين هاتين القوتين ستمكّن الولايات المتحدة من التعامل مع التحديات العالمية المستجدة خاصة وأن العديد من التحديات التي تواجهها واشنطن لم تعد ذات طبيعة عسكرية صرف، لذا فان استراتيجية "القوة الذكية" هي ضرورية في "حروب لامتماثلة" أثبتت عجز القوة ومحدودية قدرتها الفائضة.

ولو دققنا في خطب الرئيس الاميركي باراك أوباما التي أطلقها منذ توليه الرئاسة الى اليوم لاكتشفنا، رغم لهجته المرنة وغير الاستعلائية، أنه يتبنى المشروع الأمبراطوري الأميركي للهيمنة ولم يتخلَ عنه كما يعتقد البعض. فهو لا يزال ينطلق من هيمنة فائض القوة العسكرية الأميركية باعتبارها معطى ثابت لا يخضع للمناقشة أو المساءلة، ويعتبر أن مكمن الخلل في تعثر المشروع يعود إلى الإستخدام "الغبي" للقوة العسكرية الأميركية من قبل الإدارات السابقة وخاصة إدارة بوش الإبن، ويدعو إلى ضرورة إقلاع واشنطن على استخدام القوة الخشنة المهيمنة بصورة منفردة على المسرح الدولي لتنفيذ إستراتيجيتها الكونية، ويطالب باعتماد إستراتيجية الاستخدام المتكامل لجميع عناصر القوة الأميركية في خدمة أهداف الأمن القومي الاميركي. وبحسب وجهة نظره، يتوجب على أميركا أن تستخدم قوة الإذعان والإقناع معاً ولا تنسى مفاعيل استخدام القوة في مجالات الاقتصاد، والدبلوماسية، والثقافة، والفنون، والإعلام وغيرها.

وملخص هذه الاستراتيجية، تشير إلى أنه يتوجب على أميركا أن تعيد إحياء قدرتها على "زرع الأمل والإقناع" حول العالم، بدلاً من الاعتماد على قوتها العسكرية وحدها. فبالرغم من هيمنتها وتفوقها في امتلاك القوة الصلبة خلال عهد بوش الابن، لكنها تجاهلت إلى حد كبير استخدام الوسائل التقليدية للقوة الناعمة ، لذلك فهي محدودة القدرات في مواجهة تحديات السياسة الخارجية، وباتت هيبة أميركا في العالم في تلاشِ متسارع.

لكن الفشل أصاب أيضًا الاستراتيجية الاميركية التي اعتمدها باراك اوباما في بداية عهده، وقد فقد على ما يبدو عنصري "الامل والاقناع" اللذان حاول الاستعانة بهما، فقد حطمه اللوبي الصهيوني ومراكز القوى والنفوذ الحاكمة التي جعلت من نتنياهو ينتصر عليه مرات عدة في وقت قياسي، وها هو يتحضر لسحب جنوده واعادتهم الى الديار، وادراة المرحلة المتبقية من حكمه بسياسة "ادارة المرحلة الانتقالية" على أن هناك تحضير لاستراتيجية اخرى لمرحلة ما بعد اوباما.

إذًا، من خلال ما سبق، يكون علينا أن نسلّم بما يلي:

أولاً: أن أميركا بالرغم من أنها تعيش مخاض إنكشاف عجزها وتعثر مشروعها الإمبراطوري للهيمنة، لكن لم تتولد القناعة والرغبة بعد لدى النخبة الحاكمة للتسليم بالأمر الواقع، والمباشرة في إدارة إنحسار الإمبراطورية وتنازلها عن العرش المنفرد للنظام الدولي، والارجح ان وصول اوباما الى الحكم في اميركا هو مرحلة انتقالية ومحاولة من قبل النخب لادارة الانتقال من التوسع المفرط المكلف عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا الى سياسة اخرى تحفظ الامبراطورية وتعيد لها قدراتها على الهجوم.

ثانيًا: اذا كان المشروع الاميركي في المنطقة قد تعثر بفعل الضربات التي ألحقتها به المقاومة وبفعل الصمود الذي حققته شعوب المنطقة في وجه المشروع، الا أن الاكيد أن الأميركيين لن يسلّموا بذلك ولن يتخلوا عن مشروعهم في المنطقة، بل أنهم بتبديل الرئيس الاميركي قد تمّ تبديل الاستراتيجية المعتمدة لتحقيق المشروع وانتقلوا الى مرحلة أخرى من السياسات "الاذكى" التي يعتبرون انها قد تؤدي الى الأهداف المنشودة... ويعتمد الاميركيون اليوم سياسة التراجع المرحلي المدروس، وهدفه تحديد الخسائر وتجميع القدرات للانطلاق في استراتيجية هجومية جديدة تعيدهم الى الساحة الدولية كقوة مهيمنة بعدما أفرط بوش في استخدام القدرات الاميركية وأهدرها في تطبيق استراتيجية لم تحسن قراءة الواقع الميداني والعالمي جيدًا.

ثالثًا: ان عدم الوجود أو اعادة الانتشار الاميركي العسكري لا يعني انحسار القدرة والنفوذ الاميركيين، بل أن اميركا تستعيض عن وجودها المباشر باستخدام الوكلاء والقواعد، ونستنتج ذلك مما كتبه وزير الدفاع الاميركي روبرت غيتس في مجلة فورين افيرز (ايار- حزيران 2010)، عما أسماه "بناء قدرات الشريك" معتبرًا أن مستقبل المساعدات الأميركية العسكرية سيكون في مساعدة "الوكلاء المحليين" في الدفاع عن أنفسهم والقيام بالمهمات الامنية نيابةً عن الجنود الاميركيين، بدل أن تقوم أميركا بالتدخل العسكري المباشر المكلف جدًا والمثير للجدل بحسب رأيه.

ثانيًا- لبنان: ساحة إشغال والهاء

تتلخص الاهداف الاميركية في المنطقة في الوقت الراهن بما يلي:

- إعادة تثبيت النفوذ والسيطرة الاميركية على المنطقة بعد إخراج الجيوش الاميركية من ميدان القتال.

- تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي وحفظ اسرائيل وديموتها وتفوقها، وطي ملف تاريخي اسمه فلسطين بما فيه من عبارات اللاجئين، وحق العودة وغيرها.

- احتواء ايران ومنعها كما أي دولة اخرى خارج المنظومة الاميركية، من امتلاك التقنيات النووية والمعرفية.

ولتحقيق هذه الأهداف يبدو لبنان جزء أساسي لا يتجزأ من المشروع المعدّ للمنطقة، ولقد اكتسب لبنان أهمية استراتيجية عبر التاريخ كونه مرآة عاكسة للتوازنات في المنطقة، بالاضافة الى قدرته على تشكيل ساحة إلهاء وإشغال يمكن استخدامها للتعمية عما يحصل في المنطقة من تطورات وتسويات وتصفيات.

بعد 2006، وبعد فشل "القوة الصلبة" في تحقيق أهدافها في القضاء على المقاومة وتحويل لبنان الى ساحة ينطلق منه "الشرق الاوسط الجديد"، تحوّلت المقاومة في لبنان والقضاء عليها هدف بحد ذاته.

لقد تحوّل حزب الله منذ نهاية حرب صيف 2006 إلى قوة عسكرية وسياسية بالغة التأثير، ليس على المستوى اللبناني وحسب، بل على المستوى الإقليمي أيضًا. فتحالفه الوثيق مع سوريا وايران، وتحوله الى مصدر إلهام للمقاومات في المنطقة ولحركات التحرر في العالم، بالاضافة الى نظرة التعاطف والاعجاب التي يخصّه بها معظم مسلمي العالم بسبب دوره في الحاق هزيمة باسرائيل لطالما تمنوها....كل هذا ما جعل حزب الله مصدر تهديد استراتيجي لاسرائيل، وللسياسة الأميركية في المنطقة، ولحلفاء الولايات المتحدة، مثل السعودية ومصر والسلطة الفلسطينية.

بعد 2006 أزال الاميركيون والاسرائيليون - مرحليًا- من أذهانهم امكانية القضاء على المقاومة من خلال القوة العسكرية، فبدأوا بمحاولة تنفيذ هذا الهدف بوسائل "أذكى"، وذلك من خلال تمويل طائل لتشويه سمعته واضعافه سياسيًا كما أقرّ فيلتمان في شهادته أمام الكونغرس، كما محاولات اغراقه في عنف داخلي، لذا كانت قرارات 5 أيار التي تبعها أحداث 7 أيار الشهيرة، وكانت بالطبع "المحكمة الدولية".

ولأن لبنان نموذجي كساحة للالهاء والاشغال، قرر الاميركيون إثارة الدخان فيه، من أجل:

- تحويل الانتباه عما يجري للقضية الفلسطينية من تصفية، تماماً كما كانت حرب 1975 للإشغال عما بدأه السادات من صلح منفرد.

- جعل التوطين مطلباً لفئة لبنانية «ليستعان بالفلسطينيين» على الآخرين من اللبنانيين، فيفرض التوطين من غير قدرة حقيقية على المواجهة والمنع.

- تأمين أمن اسرائيل وتوفير الاستقرار اللازم لها من أجل ترميم قدراتها العسكرية وتحصين جبهتها الداخلية تمهيدًا للانقضاض على لبنان من جديد.

ولتحقيق هذه الاهداف، تقرر تأزيم الوضع اللبناني بشكل "مضبوط نوعًا ما"، وذلك من خلال إشغال "التحالف المقاوم" المواجه للتصفية والتوطين في لبنان، أي حزب الله والتيار الوطني الحر ومحاولة اغتياله سياسيًا، وتأليب الرأي العام ضده وتحويل أنظاره عن العدو الاساسي. ومحاولة الاغتيال السياسي تتم اليوم من خلال أمرين: المحكمة الدولية، وملف التعامل مع اسرائيل.

1- المحكمة الدولية

كما بات معروفًا أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، مثلها مثل المحاكم الدولية الاخرى استخدمت كوسائل في التدخل الدولي، وأدوات لفرض النفوذ ومعاقبة الخصوم السياسيين، لذا فانها تتعرض للتسييس بشكل دائم، وذلك على مستويين:

- المستوى الأول: تدخل الدول العظمى، كالولايات المتحدة، مباشرة في توجيه لجان التحقيق والمحاكمات، مثلما حدث في أغلب مراحل عمل لجان الأمم المتحدة التي كلفت بنزع أسلحة الدمار الشامل في العراق خلال الفترة بين 1991 و2003، على سبيل المثال لا الحصر.

- المستوى الثاني يتعلق بالثقافة القانونية؛ فالقانون الدولي هو نتاج ثقافة وضعية، تسيطر عليها الرؤية ونمط الحياة الغربية لفكرة القانون. والعدالة الدولية ليست قيمة مجردة، بل هي نتاج السياسة وتوازنات القوى الدولية السائدة.

وهكذا انتقلت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان من وسيلة لمحاولة ابتزاز سوريا واخضاعها الى وسيلة لاغتيال حزب الله في لبنان من خلال قرار اتهامي يدين حزب الله باغتيال الحريري.

ويبدو أن المخطط كان يرمي الى إشعال النار في لبنان خلال شهر ايلول؛ الموعد المفترض للقرار الاتهامي قبل تأجيله، وذلك بعد تمهيد الأجواء المناسبة، وتخدير المقاومة من خلال إشاعة أجواء التهدئة وفرض بيئة الاسترخاء، للاستفادة من عنصر المباغتة في الانقضاض عليها بقرار اتهامي يدين أعضاء من حزب الله ويحرج حلفاءه، إلا أن المقاومة تنبهت للأمر وشنّت حربًا استباقية بدأتها في تموز، مستبقة القرار الاتهامي بشهرين.

وكما في عام 2006 حيث أدى خطف المقاومين لجنود اسرائيليين بتسريع الحرب على لبنان، والتي كشفت التقارير انها كانت محضّرة سلفًا ومعدّة للهجوم على لبنان في خريف عام 2006، فخسر الاسرائيليون عنصر المباغتة اللازم وتحقق الانتصار، كذلك في العام 2010، حيث تحسبت المعارضة لقرار ظني سيأتي في أيلول ليهددها فعطّلته بحرب استباقية أثبتت جدواها لغاية الان، ونبقى بانتظار نتائج الكرّ والفرّ السائدين وبانتظار ما سيحصل خلال العام المقبل من تحديات كبرى يجب على المقاومة التنبه لها والاستعداد والجهوزية التامة لمواجهتها.

2- ملف التعامل مع اسرائيل

كجزء من الحرب على المقاومة، لم ينفك المشروع المعادي يحاول اغتيال صورة العماد عون والتيار الوطني الحر المتحالف معها في اوساطه المباشرة وغير المباشرة ومحاولة تصويره منقضًا على كل ما آمن ونادى به لغاية الآن.

وفي هذا السياق، تأتي التسريبات التي رافقت اعتقال العميد فايز كرم بتهمة العمالة، وما رافقه من محاولات افتراء لايحاء بعلاقة ما للعماد عون أو معرفته بعلاقة كرم بالاسرائيليين، محاولة للاغتيال السياسي تشابه الى حد كبير الاغتيال السياسي للمقاومة من خلال القرار الاتهامي للمحكمة الدولية.

تشويه صورة التيار الوطني الحر واسقاط الهالة عنه بوصفه مناديًا بالسيادة والاستقلال والقرار الحر، والباسه ثوب العمالة من خلال تسريب "معرفة العماد عون بعمالة كرم"، يشابه الى حد بعيد تشويه صورة المقاومة والباسها أمرًا جرميًا من خلال تهمة قتل الحريري وتحوّل المقاومين من شرفاء يدافعون عن لبنان الى قتلة ملاحقين قضائيًا. ويومًا بعد يوم تتكشف حقيقة حقيقة الفاعلين والمنفذين والمخططين لمحاولات الاغتيال المتتالية للمقاومة الوطنية اللبنانية من خلال التصويب على دعامتيها الاقوى: حزب الله والتيار الوطني الحر.

وبالرغم من تأكد المخططين من أن توازنات القوى الاقليمية واللبنانية لا تسمح بجرّ المقاومين الى القضاء ولا بتحويلهم الى المحاكمة، ولا بتلفيق ملف للعماد عون يسمح باعتقاله والتحقيق معه، الا ان الاغتيال السياسي من خلال تشويه السمعة واسقاط الهيبة، وانهيار صورة "البطولة الوطنية" وتحولها الى صورة "اجرام وارهاب" يكون كافيًا لتحقيق هدف تعطيل قدرة الطرفين على المقاومة وارتباك الاطراف الاخرى في المقاومة، وقدرتهما على رفض التوطين، ولاشغال اللاعبين الاقليميين عما يجري على الساحة الفلسطينية من تصفية للقضية.

ان موازين القوى المحلية والاقليمية التي استطاع "الخيار المقاوم" أن يبدّلها لمصلحته وخاصة بعد 2006، دفعت الى اعتماد وسائل "أذكى" في المواجهة، من خلال تطويع المقاومة في لبنان وإشغالها بملفات خاصة بها، وتحييد سوريا باغرائها، واحتواء ايران وتهديدها، لفصل المسارات ولشلّ القدرة على المناورة وتفكيك التحالف.

خاتمة وتوصيات

الى أن يحين موعد الحرب الشاملة التي لن يكون بمقدور أحد التكهن بحجمها ومصيرها وتوقيتها، تتحول المعركة التي تخاض اليوم بين "الخيار المقاوم" والمشروع الاميركي في المنطقة، الى معركة رأي عام يحاول كل طرف كسبه.

وبالرغم من أن التجارب التاريخية تؤكد أن الرأي العام هو عامل مساند ومساعد وليس العنصر الحاسم في حسم الصراعات، يبقى على الخيار المقاوم أن يحاول كسب الرأي العام إلى جانبه، بالاضافة الى زيادة وحسن استخدام مقومات القوة لديه، من خلال استراتيجية "ذكية" أيضًا، تفرض عليه ما يلي:

- حسن إدارة وامتلاك مقومات "القوة الناعمة": فن وابداع في إدارة حملة اعلام وتسويق وعلاقات عامة، لكسب الافكار والعقول واقناع الرأي العام المحلي والعربي والعالمي بأحقية القضية وكشف التزوير والخداع.

- الاستمرار في امتلاك وتطوير مقومات "القوة الصلبة": أي الحفاظ على ما تمّ إنجازه ميدانياً، وزيادة القوة العسكرية والاقتصادية وترسيخ القناعة لدى الجمهور بإمكانية هزيمة المشروع الآخر وأدواته ووكلائه.

- الاستمرار في سياسة امتلاك القوة واستخدام "سياسة الهجوم" وخاصة في ظل تراجع المشروع الآخر وتعثره، لعدم اعطائه الفرصة لتجميع القدرات للانقضاض من جديد.

- استعادة المشروع الوطني لتحرير فلسطين مصداقيته من حيث البرنامج والنهج والقيادة المخلصة الملتزمة بتطبيقه وإنجازه حتى النهاية، وعدم التلهي بمعارك جانبية مع الاطراف المختلفة وخاصة اللبنانية والفلسطينية منها وعدم الوقوع في افخاخ تحضر بعناية لتأليب المقاومات ضد بعضها.

- المصداقية والشرعية، أي فعل كل ما يلزم للاحتفاظ بهما، بحيث لا يكون هناك تناقض بين ما هو معلن وما هو قائم وما يتم تطبيقه فعلاً.

- عدم تمييع الخطاب الفكري والسياسي للمقاومة وحليفها التيار الوطني الحر بذريعة التعايش وتقبل الآخر والتهدئة والتسوية الخ.

2010/09/23

اللاعنف في زمن العنف: تجربة التيار الوطني الحر

اعتمد التيار الوطني الحر منذ تأسيسه، استراتيجية اللاعنف التي سمحت لطلابه وناشطيه بتحدي السلطات التي كانت قائمة قبل خروج السوريين من لبنان. وكما يظهر من خلال سلوكه المعتمد بعد 2005، ومع عودة تفشي ظاهرة العنف وانتشار السلاح في المجتمع اللبناني، يتبين ان اللاعنف ما زال السمة الأساسية في تكوين التيار الوطني الحر وخياراته الاستراتيجية.
لكن، ما هي استراتيجية اللاعنف؟ وهل ما زالت صالحة كاستراتيجية للوصول الى التحرر والانتصار في معركة التحرر، بعد أن أثبتت نجاعتها في معركة التحرير؟ وما هو مصير التيار اللاعنفي بعد انتشار ظاهرة العنف والتسلح التي يمارسها جميع الاطراف في لبنان دون استثناء؟.
في مقارنة التعاريف المتعددة لاستراتيجيات اللاعنف المعتمدة في المعارك السياسية، نجد أن افضل تعريف هو: "شنّ الصراع الحاسم على الخصوم المعاندين من خلال التحكم المقصود والمخطط في أدوات القوة السياسية لتحطيم إرادة الخصم باستخدام أسلحة لاعنيفة قوية التأثير".

ويمكن القول ان اللاعنف سواء كان استراتيجية تهدف الى تحقيق أهداف سياسية أو فلسفة أخلاقية تنبذ استخدام العنف في سبيل أهداف اجتماعية وثقافية، فانها بالتأكيد نقيض لاستراتيجتين هما الرضوخ والانصياع السلبي للظلم، أو الصدام المسلح معه.

وبتحليل إضافي لفلسفة واستراتيجيات اللاعنف المعتمدة تاريخيًا، يبدو من المفيد إدراج بعض الملاحظات على أهمية مفهوم اللاعنف كاستراتيجية معتمدة في المعارك الداخلية للتحرر من الفساد والظلم والاستئثار والانتصار في معركة بناء الدولة في لبنان:
- اولاً: اللاعنف لا يمكن أن يكون مطلقًا

يقول غاندي في تعليقه على مجموعة من أبناء شعبه، تركوا منازلهم وهربوا من الشرطة التي شنّت هجومًا على قريتهم، ونهبت أموالهم واغتصبت نساءهم، وحيث إنهم برروا هروبهم بامتثالهم لأوامره وتعليماته باللاعنف: "أردت أن أراهم يقفون كالترس بين الأعظم قوة وبين الأكثر ضعفًا... والحق أنه دليل بعضٍ من شجاعة أن يدافع الناس عن مقتنياتهم بحد السيف، ويصونوا كرامتهم...إني أفضل ألف مرة أن أخاطر فألجأ إلى العنف على أن أرى شعبًا بأسره يتعرض للإبادة". ويضيف: "بين العنف والجبن، فانا أفضل العنف".

وهكذا، فان اللاعنف لا يعني الجبن ولا يدعو اليه، فأمام تهديد الوجود أو الكرامة، لا يمكن للانسان أن يهرب من المواجهة بذريعة اللاعنف، ومن هذا المبدأ، فان تأييد التيار الوطني الحر لمبدأ المقاومة المسلحة ضد اسرائيل، لا يعني مطلقًا تخليه عن استراتيجية اللاعنف.
- ثانيًا: اللاعنف هو بالتأكيد ليس "من ضربك على خدك الايمن در له الايسر"

وهو أبعد ما يكون عن السلبية والخنوع والاستقالة من الواجب الوطني بالمقاومة ، لا بل ان اللاعنف يتطلب شجاعة هي أكبر بكثير من استراتيجية العنف. ويقول البروفيسور جين شارب، "إن العمل اللاعنيف هو أسلوب يستطيع به الناس، الذين يرفضون السلبية والخضوع والذين يرون أن الكفاح ضروري، أن يخوضوا صراعهم بدون عنف... وهو ليس محاولة لتجنب أو تجاهل الصراع، بل هو استجابة لمشكلة كيفية العمل بفعالية في مجال السياسة، لاسيما كيفية استخدام القدرات بفعالية".

من هنا نستطيع أن نفهم دعوات التيار الوطني الحر الدائمة للمواطنين للتعبير عن رفضهم للواقع المزري، وعدم الاستقالة من الوطن بذرائع ملفقة منها الحياد والاعتدال وغيرها.

- ثالثًا: من مميزات اللاعنف، توحّد الغاية والوسيلة:

اللاعنف هو استراتيجية ككل الاستراتيجيات الاخرى؛ قد تنجح وقد تفشل بحسب ظروف استخدامها ، وقد تؤدي – كما العنف- الى تحقيق الهدف المنشود أو لا. إلا أنّها تتميّز بأنّ هدفها النهائيّ ليس النصر في المعركة فحسب، بل تهدف الى تغيير الواقع نفسه. ويقول غاندي في هذا المجال، الوسائل غير الاخلاقية كالعنف لا يمكن أن تؤدي الى أهداف أخلاقية، لان الوسائل تكون بحد ذاتها أهداف، أو انها أهداف في طبيعتها.

لهذا، نجد أن غاية المقاومة لدى التيار الوطني الحر قد تضمّنت فعلاً في الوسيلة المستخدمة أي "اللاعنف". فغاندي، على سبيل المثال، لم يسعَ فقط إلى خروج البريطانيين من الهند بل أكّد على استقلال الهنود أنفسهم أوّلاً، وهنا بيت القصيد لدى التيار الوطني الحر، فمن خلال اللاعنف يريد التيار أن يحرر الانسان في لبنان ويحقق بناء دولة المواطنين لا الرعايا بالاضافة الى تحريره الارض واستعادة السيادة.


- رابعًا: ان اللاعنف لا يعني مطلقًا تجنب الصراع، بل هو مصدر له:

قبل غاندي لم يكن هناك نزاع بين البريطانيين والهنود، لأن العلاقة بين العبد والسيد هي حياة سلام طالما بقي العبد مستكيناً قانعًا شاكرًا سيده على النعمة، لكن "السلام الزائف" ينتهي عندما يبدأ العبد بالمطالبة بحقوقه وحريته. لقد أوجد غاندي النزاع بين الهنود والبريطانيين عندما طالب بتحقيق المساواة وطالب بالحصول على إستقلال بلاده.

إذاً يجب أن نقبل بوجود النزاع، وهكذا يصبح اللاعنف مسببًا للنزاع وليس رفضاً له أو حافزًا لتجنبه ولا تجنبًا للنضال من أجل الحرية، ولا رفضًا للمقاومة.

لهذا السبب، عندما يؤخذ على التيار الوطني الحر أنه فجّر صراعًا في لبنان، أو يقال أن العماد عون "مش مخلي حدا"، فالجواب يكون أن هذا طبيعي، لان صاحب العزة والكرامة الرافض للتسليم للمستبد والمستأثر والفاسد، والمقاوم للظلم يخلق الصراع ولا يتجنبه أو يهابه.

- خامسًا: المساواة ميزة المقاومة اللاعنفية:

أي انها تشكّل حيزًا مفتوحًا يمكن للجميع أطفالاً وشبابًا وشيبًا، نساء ورجالاً، المشاركة فيه، على عكس العنف الذي يعتمد على القوة ويحتاج شبابًا وصحة و"ذكورة".

بهذا المعنى يمثل اللاعنف نقلة نوعية على المستوى الإنسانيّ، من خلال المساواة التي يؤمنها لممارسيه، فيعيد إليهم الأمل بقدرتهم على إحداث التغيير، إذ يستطيع كلّ شخص أن يكون فعّالاً مهما ضعفت وتواضعت امكاناته، وبنفس المستوى، دون أيّ تمييز بحسب الجنس او الثقافة وغيرها.

ولعل أبلغ دلالة على ذلك، المساهمة الفعالة والأساسية التي كانت للمرأة والشباب وأصحاب المهن الحرة والجامعيين خلال مرحلة النضال في التيار الوطني الحر خلال الخمس عشرة سنة الممتدة من التسعين ولغاية العام 2005.


إذًا، انتصرت استراتجية التيار اللاعنفية سابقًا وتحقق الانسحاب السوري من لبنان، وأحرج الناشطون السلطات اللبنانية مرات ومرات وأوقعوها في فخ مواجهة استراتيجية اللاعنف؛ فإذا أجازت النشاط اللاعنفي ينتصر التيار وتكتسب حركته قوة إضافية، وإذا قاومته وقمعته بوسائل عنفية تحقق هدف الناشطين، إذ يظهر ظلم خصومهم للعيان جسيمًا، فتحرز لهم كسبًا سياسيًّا لا يستهان به.

والان ، يبدو التيار الوطني الحر مستمرًا باستراتيجية بناء الوطن، من خلال اللاعنف. فهل يبقى على الوسيلة الانجع والانسب لمواجهة العنف الكلامي والاعلامي والتحريضي المذهبي الذي يمارسه أهل السلطة في لبنان؟.

نحن نعتقد بذلك، لكن في زمن العنف المتعدد الوجوه، على التيار اللاعنفي الاستعداد للمواجهة والصراع لأن المنطقة ومعها لبنان قادمان على مزيد من التصعيد والتوتر، ما سيفرض عليه معارك مصيرية كثيرة، ويبقى واجبه خلق النزاع حين تدعو الحاجة، انطلاقًا من ايمانه بحقه في المقاومة ورفض الظلم والفساد.

2010/09/04

الانسان في الاديان

قليلة بل نادرة هي دراسات الأديان المقارنة في اللغة العربية، هنا تقدم (الكلمة) دراسة في هذا المجال للباحثة اللبنانية المرموقة ليلى نقولا الرحباني تتناول فيها نظرتي الإسلام والمسيحية للإنسان بصورة تكشف عن مركزية الكرامة وارتباط الحرية بالمسؤولية، والمساواة الكاملة بين البشر والحض على السلوك الإنساني الراقي.
بهذه العبارات قدمت مجلة الكلمة اللندنية، هذه الدراسة التي نشرتها للباحثة في عددها الصادر في أيلول 2010.
وفي ما يلي نص الدراسة التي أقامت مقاربة مقارنة بين نظرتي كل من المسيحية والاسلامية للانسان، وتباينهما واتفاقهما، وخاصة اتفاقهما على التمييز ضد المرأة.


مقاربة في نظرتي الاسلام والمسيحية للانسان

ليلى نقولا - الرحباني
الفهرس
مقدمة
تمهيد - القرآن والانجيل: أسس الحوار المطلوب
أولاً- الإنسان: القيمة المخاطَبة الاسمى
ثانيًا- الكرامة الانسانية: كرامة كيانية لا يجوز التفريط بها
ثالثًا- العبودية الشاكرة ضرورة
رابعًا- الحرية الانسانية: مرتبطة بالمسؤولية
خامسًا- المساواة بين البشر: مطلقة وناقصة في آن
سادسًا- وصايا للسلوك الإنساني
سابعًا- رجاءات الانسان من الدين
خاتمة
---------------------------------------------

مقدمة
لطالما كان الاختلاف بين البشر، حقيقة تاريخية، اختلفت باختلاف مراحل الزمن وتطوره والبيئة الحاضنة له. والاختلاف يعني أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو قوله، وبهذا المعنى، يكون الاختلاف أشمل وأعمّ من الضد؛ لأن كل ضدّين مختلفان، ولكن ليس كل مختلفين ضدّين. عليه، يمكن القول ان الاختلاف في القول والتفكير لا يعني "الضد" دائماً، الا أن الثقافة السائدة، والصور النمطية المتبادلة جعلت "الاختلاف" يُعطى معنى التباين والصراع الذي يدفع الى محاولة الغلبة.

وفي مقاربة لموضوع الاختلاف الطبيعي بين البشر، كان لا بد من نظرة تقييمية لمسار الاختلاف الديني الذي بات سمة القرن الواحد والعشرين، وإدراك حقيقته وجوهره، وحيث يلبس الصراع اليوم طابعًا ثقافيًا، يعيد الى الأذهان، عصورًا غابرة طبعتها الحروب الدينية وغلب عليها صفات حروب الجهاد المقدس، والحروب العادلة، التي أساءت الى الانسانية وأعاقت تطورها، وأدخلت الانسان في جدليات "التأليه" والحقيقة المطلقة، حيث لا حقيقة إلا واحدة، وكل ما عداها هو ضرب من "أعمال الشيطان"، يقوم بها "الكافرون" و"الفاسقون" و"المجرمون"...

على هذا الأساس، وبعد أن بدأت الصراعات بين الأمم والشعوب، تأخذ طابعًا الاختلاف حول النظرة الى الله، وتصورها للعلاقة معه، تأتي هذه الدراسة المتواضعة، لتساهم في مسيرة طويلة لمحاولة إعادة الامور الى نصابها، من خلال التأكيد على القيم الانسانية المشتركة بين الإسلام والمسيحية، بما يجعل قبول حق الاختلاف بين الأديان طريق لبلوغ الوحدة الانسانية، التي تتأصل فيها كل الفضائل والقيم الإنسانية التي تعتبر أن الإنسان قيمة بذاته، وأنه يستمد وجوده وقيمته وكرامته من كونه إنساناً وبإعتباره القيمة الأسمى على الارض.

سنعتمد في بحثنا المقاربة الفلسفية السقراطية التي تحثّ على معرفة الانسان، باعتبار أن لازمها البيّن معرفة الرب، من خلال توأمة المعيارين، الاول وهو "اعرف نفسك" التي يضيف اليها بعض الفقهاء "من عرف نفسه، فقد عرف ربّه"، أما الثاني فهو اعتماد "الحكمة" باعتبار ان الحكيم هو الله، وما على الانسان الا السعي، نحو قمة الحكمة؛ نحو الله.
وتأسيسًا على ماسبق، تغدو معرفة الانسان من خلال نظرة كل من الرسالتين المسيحية والاسلامية إليه الأساس لمعرفة القيم المشتركة بينهما، فإن اختلفا على جوهر الله وطبيعته، كيف تتجلى نظرتهما الى المخاطب، الى الانسان؟

تمهيد- القرآن والانجيل: أسس الحوار المطلوب
يظهر خطُّ الرسالات السماوية على أنّه خطّ الإنسانيّة السائرة نحو تحقيق أهدافها القيمية، وبالتالي بإدراك هذه الحقيقة، لا تعود النصوص الدينيّة مبرّراً للصراع، بل مجالاً للتلاقي حول هدف الأديان ورسالتها ألا وهو الإنسان.

إذا انطلقنا من أسس تعاليم يسوع المسيح والقيم العامة للإنجيل المقدس، سنجد أنّ القيم المعيارية لا تختلف كثيراً عمّا بشّر به النبي محمد، وعما جاء في القرآن الكريم من أخلاق التسامح والعفو والرحمة والصبر والمحبّة والانفتاح على الناس والتحرّك من مواقع الخير والدعوة إليه، والوقوف مع المساكين والضعفاء ضد المتكبرين والظالمين... لا بل إن سبر الإنجيل والقرآن في هذه القيم، تجعلنا ندرك أن لا فرق بينهما، إون كان فرق، فقد يكون في الفهم أو التفسير لا فرقاً في العمق والمعنى.
بداية، إن اي حوار مفترض انطلاقه بين الاثنين يمكن أن يُبنى على ما جاء في القرآن الكريم، الذي عندما أراد أن يفتح الحوار مع أهل الكتاب، فإنطلق في محاولة الحوار من نقطتين تتعلّقان بالعقيدة:

- النقطة الأولى وحدانيّة الله، التي تنفتح على التوحيد في العقيدة والعبادة والطاعة من خلال كلّ مفردات الحياة، على أن ينخرط الجميع في الحوار في كلّ الأمور انطلاقًا من مسلّمة "التوحيد". وهو ما عكسته الآية: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً}[1]

- النقطة الثانية وهي تكملة الآية السابقة: {ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله{[2]. أي أن ينطلق الاثنان من أنّ الإنسان واحد يعيش في موقع إنسانيّته، لا يختلف واحد عن آخر، ولا يتميّز إنسان عن إنسان من خلال اللون والجنس والعرق والأرض والمال والنسب... فالخصائص الإنسانيّة التي خصّ الله بها الناس، لا تمثّل إمتيازات تتصاعد في حجم الانفتاح الإنسانّي، لتجعل إنساناً ربّاً لإنسان، بل من خلال الادراك أن للجميع حقوقهم وواجباتهم ومسؤوليّاتهم، وهم سواسية أمام الله والقانون الإلهيّ.

وبما أن النقطة الاولى أي "التوحيد" هي من المسلمات الاساسية، سنركّز في هذه الدراسة على الاقنوم الثاني وهو الانسان، لنحدد نظرة كل دين من الأديان السماوية المسيحية والاسلام الى الإنسان المخاطب، ومعرفة مدى التلاقي أو التباين بينهما في النظرة اليه.

وفي محاولة لتأطير وترسيخ أسس الحوار المطلوب، لا بد من التركيز على "معرفة الانسان" أو بالعبارة السقراطية "اعرف نفسك"، إذ لا يمكن التأسيس لبناء جسر تواصل مع الآخر إلاّ بفهم الذات في عمليّة ولوج الداخل الروحيّ، حتّى لا يُملي الآخرون على الذات فهماً لذاتها لا تتعرّف عليه إلاّ إذا عادت إلى تأمّل ذاتها تأمّلاً صافياً. ففي أجواء الضوضاء والدعوات الى التعصب والتكفير يكفّ الانسان عن أن يفهم نفسه، فكيف يمكن أن يفهم غيره؟. وفي الأجواء التي يكفّ فيها كل فريق عن أن يفهم نفسه، بالتأكيد يستطيع الآخرون أن يدخلوا عليه، الى فكره وشعوره وواقعه، وبالتالي الى الكثير ممّا لا يلتزمه لو تأمّله، والكثير ممّا قد لا يعيش في عمقه لو فكّر فيه.
عندما ينطلق الإنسان ليفهم نفسه وليمتلك حرّيته في ما يقرّر ما يريد أو ما لا يريد، سيّما وأنّه يستطيع أن يحاور ذاته، عندئذٍ فقط يمكنه أن يحاور الآخرين، فيكفّ الانسان عن أن يكون ذاتاً تصارع ذاتاً، ليصبح فكراً يصارع فكراً، وينطلق الحوار في الحياة تيّاراً يهدر وينبوعاً يتفجّر وحركة تحرّك الفكر والعاطفة والوجدان، ومنهجاً للسير بالحياة إلى أهدافه الكبيرة.
انطلاقًا من كل هذا، كان لا بد من دراسة ومعرفة كيف يحدد الانسان نفسه من خلال دينه، أو، بالاحرى، كيف يحدد الدين نظرته الى هذا الانسان، عندها يستطيع الانسان أن يكون هو ولا يكون غيره، من دون أن يشعر ومن دون أن يريد، وعندها يصبح الالتزام الديني جسرًا للوصول الى الآخر وليس فقط للإطلالة عليه، أو الاختلاف معه وتكفيره.

أولاً - الإنسان: القيمة المخاطَبة الاسمى

في قراءة معقمة لنصوص الكتاب المقدس نرى أن العهد الجديد هو عبارة عن متابعة وسيرة لإله متجسد يخاطب الأب ويتوجه اليه، ثم يتوجه الى الناس ويدعوهم الى نفسه، وبالتالي نجد إذاً أن العهد الجديد يتضمن مزيجًا من خطابين:
- يخاطب الابن المسيح الله الأب، من موقعه كإنسان.
- وحينما يخاطب الناس، فإنما يخاطبهم من موقعه كإله.
وهكذا نجد حضورًا قويًا للإنسان في العهد الجديد، فالله هو الذي خلق الانسان في الأساس، ثم تجسّد وصار إنسانًا من أجل أن يفتديه ويخلصه من الخطيئة... وهكذا يصبح علم الانسان المرتبط أصلاً بعلم اللاهوت غير قابل للانفصال عن العلم الخاص بيسوع المسيح "ابن الانسان".

أ- الانسان في مستهل الخليقة

تتباين المسيحية والاسلام في تصورهما للإنسان في مستهل الخليقة، فبينما تتصوره المسيحية تصوّرها لكائن أبدعه الحب الالهي من فيض ذاته[3]، يتصوره الاسلام الانسان كائنًا أنشأته المشيئة الالهية خارج دائرة السمو الالهي، ثم ينكر الاسلام كل اتصال بين التسامي الالهي والوجود الانساني، بالمقابل تبني المسيحية عقيدتها على قاعدة الاعتراف بالطبيعية الدينية للانسان، من خلال "تجسد الله" وحلوله بين البشر[4].
ب- شراكة مقابل قربى
في حين تبني المسيحية مفاهيمها على مبدأ "الشراكة" بين الله والانسان، يشدد الاسلام على تعابير القربى[5] بينهما، لكن ايمان الكنيسة بأن الانسان لديه طبيعية دينية، هي نقطة نجد ما يماثلها عند المسلمين في الحديث عن الفطرة[6]، وإن كانوا يتباينون مع المسيحيين في الحديث عن "الشراكة" لما تنطوي عليه هذه العبارة من مخاطر الاشراك[7].
ج- جذور المشكلة الانسانية

اختلف الاسلام عن المسيحية في توصيف المشكلة الانسانية، فالخطيئة الاصلية التي تقول بها المسيحية[8]، قابلها "الابتلاء" عند المسلمين، والابتلاء يعني بالنسبة لهم ليس الامور السلبية والمكاره فقط، بل إن الصبر على النعم أيضًا فيه ابتلاء[9]. وبحسب بعض الفقهاء المسلمين، إن الفقر كما الغنى ابتلاء، والصحة كما السقم ابتلاء[10].

د- الصفات الانسانية

اتفقت المسيحية والاسلام على صفات الإنسان الأساسية، فقدمت المسيحية الانسان باعتباره على صورة الله ومثاله، وتتنازعه صفتان، صفته الانسانية البشرية وصفته الانسانية الالهية المستمدة من المسيح، وقام الاسلام بالتأكيد على هذا الامر في الآية التي تحدثت عن قرار الله بخلق الانسان[11] والتي قسّمت خلق الانسان الى قسمين[12]: خلقه كبشر من جهة أولى، ونفخ الروح الالهية فيه من جهة ثانية ، والذي بها كان الانسان إنسانًا، يستحق أن يكون مستودع أسرار علم الأسماء[13] ومهبط الوحي[14].
وكما المسيحية التي تعدد الصفات الانسانية بانها تتراوح بين الخير والشر، وإن شخصية كل انسان هي مزيج من الصفات السلبية والايجابية فهو من ناحية كائن حر أخلاقي ذو ضمير وفضيلة وفي نفس الوقت مجبول بالخطيئة والهوى والضعف، وبنفس النظرة أتى توصيف الانسان في القرآن الكريم بأنه مخلوق ضعيف[15] وييأس بسرعة[16] وإنه عجول[17] كفور وحريص[18]، لكن بالرغم من كل هذه الصفات السلبية، فالانسان كما ينظر اليه الاسلام، هو في نفس الوقت، لديه القابلية لحمل أعظم الامانات[19]ولا يسأم من دعاء الخير.
ثم تعود المسيحية والاسلام لتؤكدا إن الارادة الانسانية الخيّرة تستطيع التغلب على قيم الشرّ كما استطاع المسيح أن يتغلب على قيم الشر بعدم الوقوع في التجربة والاغراء الشيطاني[20] ومثلها أشار القرآن في آيات عدة الى عدم قدرة الشيطان على التغلب على الانسان[21] لأنه يتمتع بإرادة صلبة.[22]


ثانيًا - الكرامة الانسانية: كرامة كيانية لا يجوز التفريط بها
أكدت الرسالتان أن للانسان كرامة كيانية لا يجوز التفريط بها على الاطلاق، فبحسب التصورات الايمانية، يقوم الانسان في منزلة القطب الأساس والمركز ومحور الكون كلّه، وكرامة الانسان مستلّة من كرامة الله، لأن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله[23]كما تقول المسيحية، ويجاريها الاسلام بالقول ان الله يكرّم بني آدم[24] ويأمر الملائكة بالسجود له[25] ثم اضاف بإن الله خلق الانسان في أحسن تقويم[26] وهو بالضبط ما قاله المسيحيون[27].
وما الحديث عن استخلاف الله للانسان على الارض الا دليل واضح عن درجة الكرامة الانسانية التي يتمتع بها الانسان في النصوص القرآنية: (اني جاعل في الارض خليفة)[28] فما ينطوي عليه التصور الاسلامي والمسيحي للخلق هو ان الله قد خلق الإنسان من العدم وفوّض اليه إدارة شؤون الكون وأقامه مسؤولاً عن رعاية الارض وما حولها.

ثالثًا- العبودية الشاكرة ضرورة ومصلحة

تؤكد المسيحية والاسلام أن أصل الكرامة الانسانية – التي تحدثنا عنها- هو في عطية الخلق الالهي، فالله هو الذي أبدع الانسان أفضل إبداع وصوّره أبهى تصوير، وهو الذي زرع فيه بذار الكرامة التي تليق به كصنيعة الله لا مثيل لها. وهكذا نجد أن الاسلام يؤمن أن الله هو الذي يغني الانسان من فيض افضاله[29] وبنفس المنظور تعتقد المسيحية أن الخلاص هو عطية من الله.[30]
وبما أن الكرامة الانسانية تنبع في الاسلام والمسيحية من المنحة الالهية، لذا على الانسان أن ينحت وجوده كله ليطابق هذه المنحة الالهية، وبالتالي يجسد "عبوديته الشاكرة"، ومعناها أن كرامة الانسان لا تتجلى كاملة القوام الا بفعل العبادة التي تعترف بصدارة الهبة الالهية، وبفعل الشكر الذي يلزم الكيان الانساني بأسره.

لكن العبودية التي يحددها الدين، ليست تلك العبودية بمفهوم الذلّ. أوإن كان أنحراف في هذه الرؤية فمرده الى البشر الذين جعلوا من الدين قيودًا لمنع الانطلاق وتقييد الفرد ليصبح الانسان عبدًا للانسان بدل أن يكون حرّا في ذاته وعبدًا لله.

المؤكد أن الدين أتى ليرسم طريقًا لتخليص الانسان من القيود الثقلية التي تمنعه من الحركة أو ترديه في التهلكة من خلال رسم مسيرة خلاصية واعتماد ضوابط السلوك، فهو قد دعاه الى الشعور بعظمته وكبره وان "لا أكبر منه الا الله".[31]
ولا ينسى القرآن التنبيه من ان ندرة الشاكرين[32]، لا تعفي الانسان المسلم من فعل الشكر[33]. بل إنه ملزم دائمًا بتقديم العبادة والشكر لله، وذلك لمصلحته الخاصة، فطالما يكون الانسان عبد الله، فإن الله يقدم له كل احتياجاته وكفايته[34].
وبنفس الروحية ولمصلحة الانسان الخاصة، يدعو الكتاب المقدس ايضًا، المؤمنين الى شكر الله لتفيض عليهم النعمة الالهية. [35]

رابعًا- الحرية الانسانية: مرتبطة بالمسؤولية
ان التصور المسيحي والاسلامي السابق للكرامة الانسانية المرتبطة بالعبادة، لا يحرم الانسان المؤمن من الحرية الجوهرية المرتبطة بالمسؤولية، فهي تضمن له حرية القول والفكر والفعل، وتحمّله مسؤولية هذه الافعال طالما وهب الله له عقلاً وحدد له الضوابط والقيم، وترك له مساحة الاختيار.
وهذه الحرية التي هي من الله، هي مُطْلَقة فيما يرى الإنسان ويعتقد، وفيما يأخذ وفيما يَدَع، فقد خلقه الله حرَّ التفكير والإرادة والممارسة لتتحوّل الحرّيّة في حياته إلى عقيدة وإيمان وتصميم وعمل، فليس له أن يتنازل عن حرّيّته للآخرين بحجّة ضغط الآخرين عليه.
تفرد النصوص الدينية المسيحية والاسلامية مساحة واسعة للآيات التي تتحدث عن مسؤولية الانسان وحريته في تدبير أمور حياته، ففي القرآن الكريم، يبدو الله هو الذي يكتب لكل انسان ما يصيبه[36] ويضلّ من يشاء ويهدي من يشاء[37] وهو يعلم أسرار القلوب ونوايا النفوس[38] غير ان الانسان الذي يستنهضه الحق الالهي يظل حراً في اختيار الايمان أو الكفر[39].
أما الحرية في الدين المسيحي فهي نابعة من صورة الله المرتسمة في أعماق كيانه، بيد أن هذه الحرية ترتبط بفعل "الحب" الذي حرر به المسيح الانسان من عبودية الخطيئة[40]، وفي نفس الوقت ان روحية النص الانجيلي تعطي الانسان الحرية الكاملة في الاضطلاع بمسؤوليات حياته كاملة، فالانسان المسيحي مدعو الى الاقتداء بالمسيح إقتداء الاختيار الحر.[41]

خامسًا- المساواة بين البشر: مطلقة وناقصة في آن

تدعو الديانتان الى المساواة المطلقة بين البشر، وتقول أن هذا الأمر ينبع بالأساس من "الخَلق"، إذ أن الله خلق الانسان في الأصل من نفس واحدة كما جاء في القرآن[42] ، وكما أشار الانجيل الى رمزية آدم بأنه الاصل الواحد للبشرية[43].
وبالرغم من أن الديانتان أقرتا المساواة التامة بين البشر، إلا انهما عادا وخرقا هذه المساواة من خلال تمييزين اثنين:
1- التمييز بين المؤمن وغير المؤمن:

إن المساواة بين البشر التي ركّز عليها القرآن من خلال تأكيده على أن "ابناء البشر في مستوى الخلق متساوون في الكرامة عينها"، عاد في آيات التشريع الى المفاضلة بين المسلم وغير المسلم: "كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"[44].

وهو ما نجده أيضاً في المسيحية التي أعلنت المساواة المطلقة بين البشر، في القول "فليس بعدُ يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر ولا أنثى، لأنكم جميعاً واحد في المسيح"[45]، ثم عادت في مستوى التشريع والتدبير الرعائي، وفي نصوص عدة من الكتاب المقدس لتفاضل بين المسيحي وغير المسيحي:"وأما أعدائي أولئك الذين لم يردوا أن أملك عليهم، فاتوا بهم الى هنا، واذبحوهم أمامي"[46] ومن خلال الآية الواضحة التي تجعل الايمان بالمسيح هو الممر الوحيد للوصول الى الله: "أنا هو الطريق والحق والحياة لا أحد يأتي الى الله الا بي"، وكذلك في الآية: "أنا الكرمة وأنتم الاغصان، من يثبت فيّ وأنا فيه، فهو يأتي بثمر كثير... إن كان أحد لا يثبت فيّ، يُطرح خارجًا كالغصن فيجف ويجمعونه ويطرحونه في النار فيحترق"[47].

2- التمييز بين الرجل والمرأة
اتفقت الديانتان السماويتان على التمييز الفاضح بين الرجل والمرأة، فقد أعطى الاسلام الرجل والمرأة قيمة متساوية في آيات الخلق، "يا أيها الناس إنّا خلقناكم شعوبًا وقبائل لتتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"[48] وفي الآية التي تقول "من يعمل الصلحات من ذكر وأنثى وهو مؤمن، فاولئك يدخلون الجنة"[49]

لكنه، بالرغم من أهمية هذه الآيات، عاد وفاضل بين الرجل والمرأة في التشريع، فمنح الرجل امتيازاً على المرأة "وللرجال عليهن درجة"[50] وليس الذكر كالأنثى[51] وللذكر مثل حظ الانثيين[52] ، وكما الاسلام كذلك فاضلت المسيحية بين الرجل والمرأة، وخاصة في تعاليم ورسائل بولس الرسول "أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح، أما رأس المرأة فهو الرجل"..." لا ينبغي للرجل أن يغطي رأسه لكونه صورة الله ومجده، وأما المرأة فهي مجد الرجل".. " ولأن الرجل لم يخلق من أجل المرأة بل المرأة من أجل الرجل"[53]

وفي رسائل عدة، يصرّ بولس الرسول على التأكيد على دونية المرأة بالنسبة للرجل، "اني لا ابيح للمرأة أن تعلّم"[54]... "كما في جميع كنائس القديسين، فلتصمت النساء في الجماعات، فإنه غير مباح لهن أن يتكلمن، بل عليهن أن يخضعن، على حسب ما يقوله الناموس. فإن شئن أن يتعلمن شيئاً فليسألن رجالهن في البيت، إذ لا يليق بالمرأة أن تتكلم في الجماعة"[55].

سادسًا- وصايا للسلوك الإنساني
ذكر العهد القديم الوصايا العشرة، ثم عاد العهد الجديد ليحدّث فيها[56] ويضيف اليها الكثير من الشرح والتفسير، ولعل أهم ما جاء في العهد الجديد بخصوص الوصايا العشر هي عظة الجبل التي ألقاها السيد المسيح، والتي قال انه لم يأتِ لينقض الشريعة بل ليكملها ، ولكنه من خلال الشرح أعطى مفهومًا جديدًا للوصايا العشرة أن الالتزام بالوصايا يجب ان ينبع من القيم الخيرة للانسان وليس من خوفه من العقاب[57]، ويؤكد أن الانسان أهم من القانون، وإن القانون الذي أتى في الوصايا في خدمة الانسان وليس الانسان في خدمة القانون، ونذكر من وصايا العهد القديم ما يلي:

1- "لا يكن آلهة أخرى أمامي". أضاف اليها السيد المسيح "أن نحب الرب إلهنا من كل قلوبنا ومن كل أنفسنا ومن كل أفكارنا"[58].
2- "لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً". وقد أكد عليها العهد الجديد وأضاف "لا ينفعنا شيئاً أن نكرّم الله بشفاهنا إذا كانت قلوبنا مبتعدة عنه"[59].
3- لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً". وأضاف اليها المسيح عبارة " أما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة... بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا. وما زاد على ذلك فهو من الشرير".
4- "اذكر يوم السبت لتقدسه". فيأتي العهد الجديد ليقول "الله جعل السبت لأجل الإنسان، وليس العكس"[60]
5- "أكرم أباك وأمك". ويضيف اليها بولس الرسول التحذير من أنه في الايام الاخيرة ستأتي أزمنة صعبة للناس المحبين للمال والمتعظمين والمستكبرين والمجدفين وغير الطائعين لوالديهم..[61]
6- "لا تقتل". يأتي العهد الجديد ليشرح أن هذه الوصية ليست مجرد نهي عن ارتكاب جريمة القتل بل إن من يغضب على أخيه باطلاً أو يهين أخاه، فإنه يرتكب خطيئة القتل"[62]، ويصل الرسول يوحنا إلى القول: "كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس"[63]
7- "لا تزنِ". أضاف اليها المسيح "كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه"[64]

8- "لا تسرق". ولم يقتنع بولس الرسول بالقول إن اللص يجب أن يمتنع عن السرقة فحسب، بل عليه أن يشتغل وأن يعمل لكي يتحول من سارق الى إنسان محسن "فلا يسرق السارق فيما بعد، بل بالحري يتعب عاملاً الصالح بيديه ليكون له أن يعطي من له احتياج"[65]
9- "لا تشته". ويضيف بولس الرسول "الطمع هو عبادة، عبادة الأوثان"[66].
أما الاسلام فقد جاء في القرآن الكريم سورتان أطلق عليها بعض العلماء آيات الوصايا العشر، وهذه الآيات في موضعين:

1- سورة الأنعام
( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 153

2- سورة الإسراء
( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً(32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنة كان منصورا(33)


سابعًا - رجاءات الانسان من الدين

قد يقول قائل ان رجاءات الانسان تختلف باختلاف البيئة الثقافية والانسانية والاجتماعية التي يعيش فيها، ولكن بغض النظر عن هذا الاختلاف هناك قواسم مشتركة في رجاءات الانسان المؤمن من الدين سواء كان مسيحيًا أو مسلمًا، إذ ان الانسان بما هو إنسان - يحيا مع مشاعره وهواجسه وقلقه وأفكاره- يشكّل منطلقًا لجملة من القيم البانية أو المبنية من الدين، بغض النظر عن التزامه بأي دين من الاديان.
أهم رجاءات الانسان من الدين:
- تحقيق السعادة الانسانية؛ سواءً في الدنيا أو في الآخرة، لأن الدين يشكّل للبعض حالة من اللجوء الى السكينة أمام القلق والاضطراب الذي تمليه مشاكل الحياة وأزماتها.

- سيادة قوانين ومُثُل عليا تفتح عيون الحياة على عالم من الرقابة الالهية تأخذ بيد المحتاج، وتدفع بتثبيت أسس الحق والقسط والعدل بمساواة في النظرة والموقف من كل الناس. ففي بعض الاحيان، تبدو القوانين عاجزة عن تأمين العدالة والانصاف للمظلومين، وأحيانًا يُظلم المقتول الضحية ويُكافأ القاتل والمعتدي.... لذلك، فإن الرجاء الانساني يبقى أن الله لا يغيب عنه شيء وهو أقرب للإنسان من نفسه، وسيحاسب الله الظالمين ويسترد حقوق المظلومين ولو بعد حين.

- إضاءة طريق الهداية التي تعطي الانسان القدرة على مواجهة القلق والألم والحزن والموت... فالدين في هذه النظرة هو بالنسبة للانسان قوة انتصار على عناصر الضعف الموجودة وأهمها الموت والمرض والشيخوخة.

- الخلاص من شعور ملاقاة المجهول الذي يتربص كل انسان بعد موته، من خلال الإيمان بأن هناك حياة بعد الموت يعمل الانسان من أجلها في حياته.
- التوازن في بناء الإنسان النفسي وشخصيته العملية؛ بحيث إنه يعرف مصدر وجوده ويعيش حياته منتميًا الى ذاك المصدر الذي هو مآله ومصيره.

لكن الملاحظ أن هذه النقاط الخمس[67] المشتركة بين المؤمنين من كلا الطرفين، هي التي تصيغ نظرته القيّمية الى دينه والى الاديان الاخرى، فتشكّل في نفس الوقت مفترق التمييز والتمايز بين المؤمنين الذي قد يفضي أحيانًا الى توهين صورة الآخر في الوقت الذي يضفي على دينه كل مقامات السمو والاطلاق، بل ويحصر كل درجات الكمال في دينه بحيث لا يتصور وجه الرحمة الالهية خارج خصوصية دينه، ويجتهد كل واحد في تصوير مذهبه بأنه "الطريق الوحيد للخلاص"، و"الممر الاجباري" نحو الله.. ولا يرى في الآخر الا عدواً لله.

وهكذا، يظهر أن قيم الرجاء الانسانية التي تقدم بصورة حصرية، وبالرغم من اشتراك الاديان فيها، قد تكون هي المسبب للنزعة الالغائية والحروب الدينية، والصراع على المقدس.

خاتمة واستنتاجات

إن القراءة المعمقة للتصورات القيمية والقيم الانسانية المشتركة بين الاسلام والمسيحية ومقارنتها، والاستدلال بالشواهد من الانجيل المقدس والقرآن الكريم والاحاديث النبوية الشريفة، تؤدي الى الاستنتاج التالي:
أولاً: إن أصل الاجتماع والصراع الانساني هو أمر فطري، وجد مترافقاً للطبيعة الانسانية، وقد عاش الناس هاتين الصفتين في حياتهم اليومية، ثم أتى الدين بقيمه الاخلاقية السامية وضوابطه لإقامة التوازن بين هاتين الخاصتين في الحياة الانسانية.
ثانياً: إن الاصل في الدين هو جذب موارد الخلاف نحو مدار الائتلاف. ففي الوقت الذي يعترف الدين بأحقية الاختلاف بين البشر، فانه يسعى الى ضبط هذا الاختلاف وتحديد أطره بحيث لا يتحول الى خلاف وصراع دامي، وذلك بربطه مسار الاختلاف، بوحدة الانتماء الى المصدر والمبدأ الاساس وهو الله.
ثالثاً: كما ان الاختلاف في الامور الدنيوية أمر طبيعي، والصراع في المجتمع الانساني قد تمّ تنظيمه وضبطه من خلال القانون الوضعي، الذي أقيم خصيصاً لهذه الغاية، تأتي الشرائع السماوية عبارة عن قوانين لضبط الصراعات، سواء كانت في صراع الانسان مع نفسه، أو صراعه مع الآخر، أي ذلك الصراع الابدي بين الخير والشر.
وهكذا تكون النتيجة المنطقية، ان الصراع والاختلاف في الدين، ليس من طبيعة الدين نفسه، بل يعود الى عوامل نفسية وصور نمطية، وبالاخص الى سلطات دينية تنصّب نفسها وصية على الدين، وعلى النص الديني، وعلى الجماعة المنتمية.
لذا ندعو الى استبدال التعليم الديني في المدارس، بمناهج تركّز على الثقافة الدينية التي تقوم على تعليم الطلاب مبادئ الأديان كافة لجميع الطلاب لأي دينٍ انتموا.
وفي النهاية، لا بد لنا من موقف ما، ففي ظل عودة "المقدس" الى حلبة الصراعات السياسية الدولية والوطنية، تسكننا الخشية من أن تكون هذه العودة المستعجلة "غير الواعية"، مساراًً لعودة التاريخ الى الوراء، فيتكرر الخطأ القديم الذي مثّلت فيه السلطات الرسمية للأديان سيادة إلهية باسم الله، ونسبت كل رؤيتها ومعتقداتها وانحرافاتها الى الله.
لذا، الجميع مدعو الى وقفة ضمير وتحمّل المسؤولية التاريخية بالمراجعة النقدية للدين والحياة وموقع الاله والانسان والمؤسسات الدينية من ذلك، فلا يكون البشر مرتهنين لواحد من خيارين: إما الانغلاق على الذات وانتهاج النهج التكفيري للآخر، وإما الاندفاع نحو فقدان الخصوصية الذاتية والاستقرار...
لا يمكن الاستمرار في الخلط بين المتحول والثابت، والعابر والدائم، فادراك الثابت في منظومة القيم الدينية الضاربة في قعر الذات الانسانية، والتي تطال عمق الوجدان الانساني في جوهره ووجوده وخلقه، وفي صفاته التي منحه اياها الله، يؤدي الى التركيز على معايير الحق والعدل والتسامح بما هي أسس هذه المنظومة القيمية الراسخة، واستخدامها في ملاقاة الآخر في المسير نحو السلام واحقاق الحق، فالسلام هو قبل كل شيء ثقافة وخيار وإرادة، ثم عمل وممارسة، ممارسة يمكن ان تنبع من قول السيد المسيح: " كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، فافعلوه أنتم أيضًا لهم".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] آل عمران/64.
[2] المرجع نفسه.
[3] معجم اللاهوت الكتابي، دار المشرق، بيروت، 1983، ص 11.
[4] رسالة بطرس الثانية 1:3-4
[5] البقرة، 186.
[6] سورة الروم، آية 30

[7] الاب الدكتور مشير عون، هوية الانسان في المسيحية والاسلام والعلمانية، ورقة عمل مقدمة الى مؤتمر الاسلام والمسيحية بحوث في نظام القيم المعاصر، لبنان، 2003.
[8] الخطيئة الاصلية هي خطيئة آدم والتي دفع الناس ضريبتها، الى أن تجسد يسوع المسيح من أجل خلاص الانسان وفداء البشرية.
[9] تتحدد الابتلاءات في القرآن الكريم بستة: الشيطان، النفس(الامارة بالسوء)، الطاغوت(المجتمعات المنصاعة لإرادة الشر)، الانحرافات التي تحصل في مواقع الحق، الالفة الاجتماعية الناتجة عن إرث السلف وتبنيها دون تمحيص وتدقيق، إسكات صوت العقل والاعتماد على المؤسسات الدينية كممثل وحيد لمشروعية أحقية أي فكرة. انظر في هذا المجال: الشيخ شفيق جرادي، إلهيات المعرفة، معهد المعارف الحكمية، 2006، ص14.
[10] المرجع نفسه، ص 17.

[11] ( وإذ قال ربّك للملائكة إني خالق بشرًا من طين* فإذا سويّته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) سورة ص، آيتان 71 و72.
[12] الراغب الاصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن الكريم، تحقيق عدنان الداوودي، دار القم، دمشق، 1996، ص 124.

[13] سورة البقرة، آية 31.
[14] سورة الكهف، آية 110.

[15] وخُلق الانسان ضعيفًا - سورة النساء، آية 28.

[16] ( ولئن أذقنا الانسان رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور) - سورة هود، آية 9.
[17] سورة الاسراء آية 11
[18] سورة الاسراء، آية 67.
[19]: (إنّا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبَينَ أن يحملنها، وأشفقن منها وحملها الانسان إنه كان ظلومًا جهولا)- سورة الاحزاب، آية 72.
[20] انجيل لوقا (( 4: 1-13
[21] تحدث الانجيل المقدس عن التجارب التي حاول الشيطان ادخال يسوع المسيح فيها، والتي نجح في أن يتخطاها جميعها، اما في القرآن فيرد ايمان القرآن بقدرة الانسان من خلال آيات عدة ومنها: ان عبادي ليس لك عليهم سلطان) - سورة الأسراء، آية 65 وسورة الحجر، آية 42
[22] سورة النحل آية 4.
[23] الانجيل المقدس ، التكوين 27.
[24] سورة الاسراء، آية 70
[25] سورة البقرة، آية 34.
[26] سورة التين، 4 .
[27] المزمور: 8: 4-8
[28] البقرة ،30 .
[29] سورة النور ، آية 32.

[30] رسالة بولس الى أهل افسس، 2:8.
[31] العميد أمين حطيط، محاضرة غير منشورة القيت في الجامعة اللبناينة في صيدا– الفرع الرابع، آذار 2009.
[32]: "إن الله لذو فضل على الناس ولكن اكثرهم لا يشكرون"- سورة يونس 60
[33] (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له)- العنكبوت 17.
[34] (أليس الله بكافٍ عبده)- سورة النمل، آية 69.
[35] "وفي كل وقت على كل حال ، اشكروا الله الآب باسم ربنا يسوع المسيح"- رسالة بولس الى أهل أفسس(20:5)
[36] التوبة51
[37] الانعام 39
[38] الانفال 70.
[39] الكهف 28.
[40] رسالة بولس الى أهل غلاطية 15: ورسالة يعقوب 251:
[41] انجيل لوقا 23:9
[42] الرمز 6.
[43] رسالة بولس الى أهل روميه 14-12:5

44] آل عمران110 ، النحل 76.
[45] رسالة بولس الى أهل غلاطية 28:3
[46] لوقا 19:27
[47] انجيل يوحنا 15: 5-6
[48] الحجرات 13، القيامة 38
[49] النساء 124
[50] البقرة 228
[51] آل عمران 36
[52] النساء 176- 11
[53] رسالة بولس الاولى الى أهل كورنثوس، 11:3-11
[54] رسالة بولس الى تيموثاوس 12:2
[55] رسالة بولس الاولى الى أهل كورنثوس 14: 33-35
[56] انظر انجيل متى 5: 17-48
[57] وقد جاء حرفيًا في انجيل متى، ان المسيح وعظ تلاميذه على الجبل، فقال:
قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل. ومن قتل يكون مستوجب الحكم. 22 وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلًا يكون مستوجب الحكم. ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع. ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم. 23 فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لاخيك شيئا عليك 24 فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولا اصطلح مع أخيك. وحينئذ تعال وقدم قربانك. 25 كن مراضيًا لخصمك سريعًا ما دمت معه في الطريق. لئلا يسلمك الخصم إلى القاضي ويسلمك القاضي إلى الشرطي فتلقى في السجن. 26 الحق أقول لك لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الاخير. قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن. 28 وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه. 29 فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك. لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم. 30 وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك. لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم. وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق. 32 وأما أنا فأقول لكم إن من طلّق امرأته إلا لعلّة الزنى يجعلها تزني. ومن يتزوج مطلّقة فإنه يزني.3 أيضا سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث بل أوف للرب أقسامك. 34 وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة. لا بالسماء لأنها كرسي الله. 35 ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه. ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم. 36 ولا تحلف برأسك لانك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء. 37 بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا. وما زاد على ذلك فهو من الشرير. سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن. 39 وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر. بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً. 40 ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا. 41 ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين. 42 من سألك فأعطه.ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده. سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. 44 وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم. 45 لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات. فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين. 46 لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم.أليس العشارون أيضا يفعلون ذلك. 47 وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل تصنعون. أليس العشارون أيضًا يفعلون هكذا. 48 فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل.
[58] متى: 37/ 22
[59] أشعيا:13/29، مرقس:6/7
[60] مرقس:27/2.
[61] رسالة بولس الثانية الى تيموثاوس 3:1-3
[62] عظة الجبل، انجيل متى، الاصحاحات الخامس والسادس والسابع.
[63] رسالة يوحنا الاولى.
[64] متى:28/50. – عظة الجبل.
[65] رسالة بولس الى أهل أفسس:28/4
[66] المرجع نفسه.
[67] الشيخ شفيق جرادي، المرجع السابق.

2010/08/31

مستقبل العلاقات الاقليمية بعد انتهاء العمليات القتالية في العراق

يلقي الرئيس الاميركي باراك اوباما اليوم خطابًا هامًا يعلن فيه انتهاء العمليات القتالية في العراق، كما سيحدد النقاط العريضة لاستراتيجيته الجديدة. وبهذه المناسبة ننشر دراسة قٌدمت في مؤتمر عقد في بيروت في 4-5 آب الجاري ونناقش فيها مستقبل العلاقات الاقليمية المستقبلية على ضوء انتهاء العمليات القتالية الاميركية وسحب جزئي للجنود الاميركيين من العراق، وسنركز فيها على دول الجوار الاقليمي الفاعلة كايران والسعودية وسوريا وتركيا واسرائيل.

مستقبل العلاقات الاقليمية بعد انتهاء العمليات القتالية في العراق

ليلى نقولا الرحباني

مقدمة

أعلن الاميركيون نيتهم تطبيق الاتفاقية الامنية التي وُقعت بين الطرفين في حزيران 2008، وقد أعاد الرئيس اوباما التأكيد على التزامه بالاتفاقية وبما وعد به خلال حملته الانتخابية، فاعتبر في استراتيجيته للامن القومي أنه ملتزم الانسحاب من العراق ووقف العمليات القتالية في شهر آب 2010، على أن يتم سحب القوات العسكرية في نهاية عام 2011، مع الإبقاء على وجود مدني قوي في العراق بما يخدم المصالح الإستراتيجية الاميركية.

بداية، أريد أن اعيد التأكيد على اقتناعي بصوابية ما كنت قد تقدمت به في ورقة سابقة حول الانسحاب الاميركي من العراق بعنوان:"استراتجية اوباما للخروج من العراق: القرار والتحديات" وذلك في ايار عام 2009. لذا فأنا عندما أشير الى الانسحاب الاميركي في هذه الورقة فانا انما أعني به انسحابًا أميركيًا جزئيًا كما كنت قد توقعت ولا يجب ان يفهم أنني اتحدث عن انسحاب تام ونهائي.

وبغض النظر، عن شكل الانسحاب الاميركي وحجمه وكيفية تحوّله من عسكري الى مدني أو غير ذلك، يبدو من المفيد التركيز على تأثير الانسحاب الجزئي الاميركي من العراق أو ما أسموه "وقف العمليات القتالية" على وضع المنطقة ككل، وعلاقات دول الجوار مع العراق ، وذلك لما سيشكّله الانسحاب الاميركي من فراغ استراتيجي قد يغري الدول الاقليمية القوية بالتدخل في شؤون العراق الداخلية لتحقيق مصالحها الاستراتيجية الكبرى.

عليه، سنعالج في هذه الورقة، ماهية مصالح الدول الاقليمية الكبرى في العراق وما الذي يمكن أن يدفعها للتدخل سواء عسكريًا أو سياسيًا في العراق، ونختم بتصور لعلاقاتها الاقليمية في ظل الانسحاب. وقد حيّدنا في معالجتنا لهذه المسائل، التدخل الاميركي في الشؤون العراقية، وتصرف الاطراف الاقليمية على أساسه، لأننا نرى أن الانسحاب سواء كان انسحابًا تامًا أو تخفيضًا للقوات الاميركية، فهو لن يؤدي الى تبدل جوهري في امكانية التدخل الاميركي ولو اختلفت اساليبه.ولأن مواقف الاطراف الاقليمية وامتثالها او مقاومتها للشروط الأميركية معروفة وسائدة منذ الآن ومن المتوقع أن تستكمل بنفس التحالفات في المستقبل.



أهداف ومصالح دول الجوار في العراق
لا بد من التركيز على خمسة من دول الجوار الإقليمي للعراق بغرض التعرف على كيفية تأثير الانسحاب عليها سلبًا أو ايجابًا، وتحديد مصالحها الاستراتيجية في العراق، هي: إيران، والسعودية، وسوريا، وتركيا، وإسرائيل. أما وعلى الرغم من أن الأردن والكويت اللتان تجاوران العراق أيضًا، لا تمتلكان القدرة على التدخل في الشؤون العراقية كما هو حال الدول الاخرى المذكورة، وإن وُجدت فهي ستكون بتسيير ولمصلحة الولايات المتحدة الاميركية وليس ضدها.

واقعيًا، تمتلك جميع الدول المذكورة أعلاه الحوافز والرغبة في التدخل في الشأن العراقي لما لدى التطورات العراقية من تأثير مباشر على مصالحها القومية والاستراتيجية، الا ان الدول الأربعة الأولى تمتلك قدرة أكبر على التأثير سلبًا أو إيجابًا في العراق بسبب الحدود المشتركة ولاسباب أخرى سنفصلها في ما يلي.
وعلى الرغم من أن "إسرائيل" لا تمتلك حدودًا مشتركة مع العراق، وليست فاعلاً رئيسيًا في المكونات العراقية لكن تأثير الانسحاب الاميركي عليها، وتبدل الوضع الاقليمي في المنطقة يجعلها تتأثر، فتؤثّر في الانسحاب الاميركي ونطاقه وكيفيته.



أولاً: إيران
لعل البلد الأكثر انخراطًا وتأثيرًا في الواقع العراقي اليوم هو إيران، التي تقارب الملف العراقي من زاوية استراتيجية أساسية في سياستها الخارجية الشاملة لأسباب عدة لها علاقة بمعادلة توزع القوى والصراع في المنطقة، والحفاظ على أمنها واستقرارها.

بعد التطورات التي حصلت في المنطقة منذ أحداث 11 ايلول وما بعدها من غزو أميركي لافغانستان والعراق، وما حصل من تطورات في الملف النووي الايراني، يبدو الملف العراقي بالنسبة لايران جزء أساسي من استراتيجيتها الخارجية الشاملة، والتي تهدف من خلالها ايران الى امتلاك جميع مقومات القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتقنية، التي تسمح لها بحماية مصالحها الاستراتيجية الكبرى.
تتلخص الاهداف الايرانية الاستراتيجية الكبرى، في ما يلي:
1- استقرارالنظام الايراني: تعاني ايران من محاولات مستمرة من الولايات المتحدة وغيرها من الدول لزعزعة استقرار النظام الاسلامي منذ الثورة الاسلامية عام 1979. لذا تسعى ايران من خلال سياستها الخارجية وتجميع الاوراق الاقليمية الضغط للحصول على الاعتراف الدولي بنظامها، والتوقف عن محاولات الاطاحة به، وذلك من خلال تحقيق حد أدنى من الحصانة في مواجهة الولايات المتحدة الاميركية، تجعل النظام الايراني شبيه بوضع النظام الشيوعي في الصين، أي بعبارة أخرى، أن يكون مسموحًا انتقاد النظام الإيراني، ولكن ليس محاولة الاطاحة به[2].

وفي هذا المجال، تحاول ايران في سياستها الخارجية وحركتها الاقليمية في العراق وسواه من دول المنطقة، ابعاد شبح أي تهديد خارجي أو داخلي لنظامها أو لبرنامجها النووي، كما تحاول امتصاص النقمة الداخلية واحتواء المعارضة وعدم السماح بأي دعم خارجي لها.

2- ضمان أمنها وسلامة اراضيها الإقليمية: تقوم ايران ببناء قوة عسكرية هائلة تمكّنها من الدفاع عن سلامة أراضيها وردع أي قوة معادية سواء دولية أو اقليمية من توجيه ضربات عسكرية ضدها. وبفائض القوة العسكرية الذي تسعى الى تحقيقه، تضمن ايران سلامتها الاقليمية وتمنع عن نفسها مصيرًا مماثلاً لمصير جارتيها أفغانستان والعراق.

3- تكريس حقها في الاستفادة من مواردها الطبيعية: من الاهداف الاستراتيجية الكبرى بالنسبة لايران هو ضمان سيطرتها على مواردها الطبيعية ومصادر الطاقة وتكريس حقها في الطاقة النووية السلمية، وتأمين التمويل والتكنولوجيا اللازمة لاستغلال مواردها والحفاظ على قدراتها. وتحاول ايران استغلال مواردها الى أقصى حد بما يعود عليها بفائض مالي يسمح بالتخفيف من وطأة العقوبات عليها، كما تحاول أن تستخدم ما لديها من أدوات قوة ونفوذ في العراق كأوراق في سبيل ضمان سلامة مواردها ومصادر الطاقة لديها.

4- تكريس دورها الاقليمي: تقوم ايران بتبني كل ما يلزم من أدوات القوة الاقليمية في العراق وسواه، التي تؤمن لها القدرة والنفوذ للتأثير على جميع مجريات الوضع الاقليمي، كما يهم طهران أن تستخدم كل ما يمكن لها من أدوات القوة هذه للتأثير على التطورات السياسية الاقليمية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بما يتفق مع مصالحها الاستراتيجية والإيديولوجية.



أما تصدير الثورة الاسلامية الى العراق فيبدو أن ايران- في الوقت الراهن أقلّه- تعتبر تصدير الثورة في درجة ثانية بالاهمية باعتبار أن الأخطار التي تتهددها والتحديات التي تواجهها تجعله هدفًا أدنى مرتبة مقارنة مع أهداف الحفاظ على الوجود، لكن هذا لا يمنع من محاولة التأثير على الشيعة في العراق وفي المنطقة لتبني نظرية "ولاية الفقيه" الدينية.

واقعيًا، لقد أتى احتلال العراق من قبل الاميركيين عام 2003 لمصلحة ايران الاستراتيجية، فقد قضى الاميركيون على حكم صدام حسين المناوئ للسياسة الايرانية والذي أقام معها حربًا امتدت ثماني سنوات، وشكّل حاجزًا أمام امتداد النفوذ الايراني في المنطقة.
بسقوط صدام حسين واحتلال العراق، اختل التوازن الاقليمي الذي كان قائمًا بين بغداد وطهران، ولم ينجح الاحتلال الاميركي في تحويل العراق والقواعد العسكرية فيه الى قوة تهديد حقيقية لطهران، بل بالعكس، استطاعت طهران أن تحوّل الوجود العسكري الاميركي بالقرب من الحدود الايرانية من قوة تهديد أميركية لايران الى قوة تهديد ايرانية لأميركا بأمن جنودها وسلامتهم مقابل أمن وسلامة المنشآت النووية الايرانية.
بعد انتقادات شديدة للاتفاقية الامنية العراقية الاميركية، دعمت طهران الاتفاق الأمني في شكله النهائي، خاصة بعدما وافق العراق على طرد منظمة مجاهدي خلق الايرانية من أراضيه، وضمّن الاتفاقية الموقعة بينه وبين الاميركيين بندًا ينص صراحة على عدم استخدام أراضيه لشن هجوم على أي دولة من دول الجوار.
أما اليوم، وبعد تقليص عدد الجنود الاميركيين في العراق، يهمّ ايران أن يبقى العراق موحدًا ومستقرًا مع سيطرة لحلفائها على السلطة، ومن البديهي أن تتهيأ ايران لسد الفراغ الاستراتيجي ومحاولة استخدام البوابة العراقية الصديقة لتعزيز نفوذها ليس فقط في الخليج، ولكن في المشرق العربي أيضًا.
ببساطة تملك ايران من القدرة والحوافز والنفوذ في الداخل العراقي لعدم السماح بقيام أي حكومة عراقية معادية لها. ومع انسحاب الاميركيين من العراق يهمّ ايران أن تتأكد من ان العراق - في الحد الادنى- لن يتخذ في المستقبل أي سياسات معادية لها، وفي الحد الاقصى، تريده أن يكون جزءًا من التحالف الاستراتيجي الذي أقامته مع سوريا والمقاومة في لبنان والذي كرّسته قمة دمشق.
وبين هذين الحدّين (الادنى والاقصى)، تسعى طهران لتثبيت وتفعيل نفوذها في الداخل العراقي بما يجعلها جزء من معادلة اساسية لا يمكن تخطيها عند تقرير أي شأن عراقي، أو أي شأن اقليمي من البوابة العراقية.
وفي مرتبة أدنى في الاهمية، يهمّ القيادة الايرانية الحفاظ على العلاقات الاقتصادية و تأمين سلامة وأمن الحجاج الايرانيين وزيارات الاماكن المقدسة وغيرها من الأمور الاساسية في النظرة الايرانية لمصالحها في العراق، كما والاستثمارات الايرانية في العراق والتجارة المزدهرة جدًا بين البلدين.

ثانيًا: السعودية

كانت السعودية أول المتحمسين للغزو الاميركي للعراق، لكنها سرعان ما وجدت أن ايران تمتلك النفوذ الاكبر فيه، كما إن حالة التهميش التي وجد سنّة العراق أنفسهم فيها بعد الغزو، حرمت الرياض من عنصر قوة مهم داخل هذا البلد.

تعتبر السعودية العراق ساحة من ساحات التنافس في الصراع الإقليمي الاكبر مع ايران، ولطالما اتهم المسؤولون السعوديون الولايات المتحدة صراحة ب "تسليم العراق إلى إيران" وزيادة نفوذها في المنطقة، وأعربوا عن استيائهم من أن قدوم حليفتهم الولايات المتحدة الى المنطقة جعل ايران دولة اقليمية هامة وفاعلة[3].

تخشى السعودية قيام دولة شيعية على حدودها الشمالية لما في ذلك تأثير على الشيعة داخل السعودية، لذا يبدو وقف انتشار النفوذ الايراني وامكانية تصدير قيم النظام الثوري الايراني الى الداخل العراقي هو أحد الاهتمامات الرئيسية للرياض في الملف العراقي.

تاريخيًا، لطالما خشيت المملكة العربية السعودية من الحركات الايديولوجية والثورية في المنطقة وامكانية تأثيرها على وضع نظامها الملكي. في الماضي، خاف النظام السعودي من الناصرية في مصر وامتدادها في انحاء العالم العربي فحاربها، كذلك الماركسية في اليمن الجنوبية، والتشيع الثوري الايراني والآن تخشى حركات المقاومة الاسلامية في كل من فلسطين ولبنان فتحاربها أو تحاول احتواءها.
في تقييم السعوديين لعراق ما بعد الانسحاب الاميركي، يمكن تلخيص رؤيتهم للمخاطر غير المباشرة للوضع العراقي على السعودية في ما يلي:

عودة العراق القوي: قد ترغب السعودية في عراق مستقر نسبيًا، يمتلك قوات عسكرية قادرة على ضبط الامن، لكنها بالتأكيد لا ترغب في رؤية عراق قوي وقادر على صدّ التدخلات في شؤونه، أو يمتلك من القدرة العسكرية لتشكيل قوة يحسب لها حساب في المنطقة وتهديد جيرانه كما كان خلال حكم صدام حسين.

منذ فترة طويلة، تسيطر على المخيلة السعودية، صورة العراق الذي يشبه بروسيا "الشرق العربي" أي الدولة العسكرية الاستبدادية التي تميل الى تهديد جيرانها بفضل جيشها القوي تقليديًا، وتكنوقراطيته القادرة، وقاعدته الصناعية. لذلك، وبعد الانسحاب الاميركي من العراق ستراقب السعودية بدقة كيفية إعادة بناء قوى الأمن العراقية، لمراقبة التوازن الطائفي داخلها، ومدى النفوذ الايراني فيها، ومدى قدرتها على إسقاط السلطة في المستقبل، ولن تسمح بأي شكل من الاشكال بتمكين الذراع العسكرية العراقية والجيش العراقي وامتلاكه ترسانة عسكرية قوية[4].


تقوية النفوذ الشيعي: برز الصراع السنّي الشيعي الى الواجهة بعد دخول الاميركيين الى المنطقة، وبدأت السعودية باستخدام كل ما يمكن من وسائل وأدوات مشروعة وغير مشروعة[5] لتقوية النفوذ السنّي ومحاصرة ما أسموه "المد الشيعي" في المنطقة بشكل عام وفي العراق بشكل خاص.

يخشى النظام السعودي من أن ازدياد النفوذ السياسي للشيعة العرب العراقيين، سواء من خلال الانتخابات العراقية أو من خلال عودة ظهور النجف كمركز للشيعة، قد يؤدي الى مطالبات بحقوق سياسية وثقافية للشيعة في السعودية.

الفيدرالية: يخشى السعوديون من النموذج الفيدرالي الذي اعتمد في العراق، ليس فقط لأنه قد يمكّن ايران من تعزيز نفوذها في جنوب العراق، ولكن مما قد يؤديه من تأثيرات على وحدة السعودية نفسها.

تخشى السعودية من أن اي تقسيم للعراق قد يؤدي الى مطالبات مماثلة لتقسيم السعودية التي تتكون من المحافظات، المختلفة التقاليد والعادات والثقافات والتاريخ، والتي يعاني بعضها من درجات كبيرة من التهميش والفقر.
هناك خوف حقيقي في الرياض من أن ينتج الحكم الذاتي الإقليمي في العراق اتجاهًا مماثلاً في المملكة العربية السعودية وبالتالي إضعاف قدرة الرياض على الحفاظ على السيطرة المركزية السياسية. وفي هذا الاطار، لم ينسَ السعوديون بعد، السيناريوهات التي وضعها الاميركيون بعد 11 أيلول لتقسيم السعودية بعدما اتهموها برعاية الارهاب وتوليده من خلال تشكيل ثقافة ملاءمة لنموه وبيئة حاضنة له.

التمكين القبلي: تعتبر القيادة السعودية أن مجالس الصحوة التي دعمتها وموّلتها كقوة ضد القاعدة في العراق سيف ذو حدين؛ فهي من ناحية تُعتبر الذراع الامني والسياسي للسعودية في الداخل العراقي، لكنها في المقابل تشعر بالقلق وتسعى الى احتوائها بشكل دائم، لان توسع ظاهرة سيطرة القبائل المحلية في العراق وتقويتها قد يؤدي الى تحريك القبائل في السعودية.

تخشى العائلة المالكة السعودية من أن تقوم بعض القبائل السعودية العريقة التي لديها فروع مشتركة وامتدادات في العراق[6] بتحدي سلطة آل سعود ومطالبتها بمزيد من الامتيازات السياسية والحقوق الاقتصادية في البلد. لذلك دفعت الرياض من أجل إدماج حركة الصحوة في قوات الأمن العراقية وذلك للتخفيف من مبدأ حرية القبائل نفسها.

الارهاب: يخشى النظام السعودي عودة ظهور القاعدة في العراق، وعودة الارهاب الى ضرب السعودية كما حصل في السنوات الممتدة بين 2003 – 2007. لكن، يرى بعض المتشددين في القيادة السعودية، أنه في حال تجدد الصراع الطائفي في العراق، وبالرغم من خشية السعودية من تأثير الفوضى في العراق على أمنها الاقليمي، فان تدفق الجهاديين من السعودية الى العراق قد يخفف الضغط عن العائلة المالكة، وبالتالي قد يكون من المفيد تحمل بعض التداعيات[7].

بعد الانسحاب الاميركي من العراق، من المتوقع أن تعمد السعودية الى تقوية نفوذها في العراق وذلك من خلال الاستمرار في دعم وتمويل بعض الجهات السياسية والميليشيات السنية، ومن خلال الجمعيات الخيرية والمنظمات الدينية، والتوجيه والتحريض الاعلامي[8]، والمعونات الاقتصادية، والفتاوى الدينية غبّ الطلب التي تصدر عن الشيوخ السعوديين.[9]



ثالثًا: سوريا
لا تملك سوريا الوسائل التي تملكها كل إيران أو المملكة العربية السعودية لملء الفراغ الذي سيتركه انسحاب القوات الاميركية من العراق، ولكن بلا شك تستطيع سوريا بما لديها من وسائل ونفوذ في الداخل العراقي أن تؤثر على مستقبل العراق وعلى ما يمكن أن تتخذه الحكومة العراقية المقبلة من قرارات تؤثر على الوضع الاقليمي.

أما الدوافع السورية للتدخل في الشأن العراقي، فستعتمد، بشكل جوهري، على تطور الوضع الأمني الداخلي في العراق، واتجاه النظام في بغداد، وتقييم دمشق لمصالحها السياسية الخارجية الواسعة.



الاهتمام السوري الأبرز سيكون لمنع ظهور عراق غير مستقر تؤدي الفوضى فيه الى تهديد أمن سوريا، أو قادر عسكريًا الى درجة يمكن أن يستخدم لتهديد أمن سوريا نفسها ، كما كان الحال قبل حرب إيران والعراق.

بعد الانسحاب الاميركي من العراق، يبدو المتغير الاهم الذي سيقود الى تدخل سوري في العراق بالاضافة الى الامن، هو التشكيلة السياسية الحكومة العراقية والتوجهات المستقبلية للنظام العراقي.


\بالتأكيد، ستسعى دمشق الى أن يكون لها نفوذ في الحكومة الجديدة، ولكن لن تتوانى دمشق عن العمل ضد الحكومة العراقية التي تربط نفسها بالمخططات الاميركية التي تعتبرها دمشق معادية لها، أو في حال قبلت أن تكون الحكومة العراقية المستقبلية أداة تنفيذية في المشاريع التي تضعها الولايات المتحدة للمنطقة.

المتغير الثاني الذي من شأنه أن يحفّز سوريا على التدخل في العراق هو درجة استيعاب الغرب لمصالح سوريا الاستراتيجية. فاذا كان الغرب وبالتحديد الاميركيين سيسعون لفرض المزيد من القيود على سوريا، أو سيهددون أمن سوريا ووحدتها الاقليمية من خلال العراق أو غير ذلك مما تعتبره سوريا تهديدًا لمصالحها الاستراتيجية الكبرى، فسوف تكون سوريا أكثر ميلا للتدخل في العراق كوسيلة لإظهار أهميتها للاستقرار الإقليمي، ودعوتهم لمفاوضتها وتقديم فرص للتسويات معها في القضايا العالقة.



الأمر الثالث الذي يهمّ السوريين في العراق هو المجال الاقتصادي:

أظهرت سوريا اهتمامًا كبيرًا في إعادة فتح خط أنابيب النفط الذي يمتد من كركوك الى ميناء بانياس السوري. ان اعادة هذا الخط من شأنها توفير وقود منخفض التكلفة الى سوريا بالاضافة الى الايرادات الهامة التي يوفرها للخزينة من جرّاء رسم العبور.

هناك أيضاً ضمان تنفيذ وتفعيل اتفاقيات التبادل التجاري الحر بين البلدين، وتعزيز التعاون بين المنطقة الحرة السورية في اليعربية والمنطقة الحرة العراقية في القائم.


تمتلك سوريا الآليات اللازمة التي تحتاجها لحماية مصالحها في العراق وذلك من خلال 385 كلم من الحدود المشتركة بينهما، وعلاقاتها مع جماعات المقاومة داخل العراق، واستضافتها أهم قيادات العراق المنفيين[10]، بالاضافة الى حجم اللاجئين العراقيين الهائل في سوريا.



رابعًا: تركيا
بلا شك، مثلها مثل باقي دول الجوار تشعر تركيا بأن تطورات الاحداث في العراق وخاصة بعد الانسحاب الاميركي منه، سوف يكون لها تأثير على الداخل التركي، وإن لم تتحسب تركيا لما سيكون عليه عراق ما بعد الانسحاب وتعمل على تشكيله بما يناسب مصالحها، فإنها ستجد نفسها أمام تحديات استراتيجية تهدد وجودها ووحدتها الاقليمية.
شكّل قدوم الأميركيين الى المنطقة واحتلالهم للعراق بعض التحديات والمخاطر للاتراك الذين رأوا أن الاحتلال مسّ بالتوازنات التي كانت مؤاتية لتركيا، حيث ضرب أقوى دولة مركزية في المنطقة، مما شكّل قلقا من احتمال محاولة ضرب الدول المركزية الأخرى ومنها تركيا، كما مسّ بالأمن القومي التركي عندما أنشأ في شمال العراق كيانًا كرديًا رسميًا معترفًا به في الدستور العراقي.

واليوم، وفي ظل استعداد الاميركيين لاعادة الانتشار تطبيقًا للاتفاقية الامنية، يمكن تلخيص ابرز محركات السياسة التركية في العراق، بما يلي:



1- الحفاظ على العراق كدولة موحدة مع حكومة مركزية قوية تمنع ظهور دولة كردية مستقلة.

تريد الحكومة التركية من عراق ما بعد الانسحاب أن يبقى موحدًا، وأن لا يتحول الى عراق غارق في الفوضى والصراع الطائفي بشكل يهدد أمنها، والاهم من ذلك كله أن لا يزداد النفوذ السياسي أو العسكري للأكراد فيه.

يعتبر الاتراك إن قيام دولة كردية مستقلة يشكّل تهديدًا وجوديا للأمن التركي، فوجودها من المتوقع أن يؤدي إلى تفاقم الضغوط الانفصالية للاكراد في تركيا، وتقوية حزب العمال الكردستاني الذي يحصل على الدعم اللوجستي من حاضنته الشعبية في الشمال العراقي.

وفي نفس الاطار، يهمّ الاتراك ضمان أمن الأقلية التركمانية في كركوك، وضمان ألا تسقط كركوك بيد الأكراد خشية أن تتحول ذات يوم بنفطها إلى مصدر دخل للدولة الكردية المستقبلية فيؤدي زيادة تطورها الاقتصادي الى استقلالها السياسي.



2- الدور المستقبلي لتركيا في المنطقة



ترى أنقرة في قضية العراق كما في قضية الصراع العربي الاسرائيلي بوابة لفرض نفسها لاعب اقليمي فاعل في الشرق الاوسط، وتقوم تركيا بمد نفوذها الى الداخل العراقي من خلال البوابة السنّية، واستخدام اسلوب الدبلوماسية المتعددة الاطراف.

كجزء من صورتها الإقليمية الجديدة، تريد تركيا أن تظهر أنها الدولة الوحيدة التي تستطيع إقامة علاقات مع كل الأطراف الفاعلة في العراق من الاطراف المحلية والدولية والاقليمية وغيرها.



بعد الانسحاب الاميركي من العراق، ستقوم السياسة الخارجية التركية في العراق، بالارتكاز الى عنصرين حاسمين:
الأول، إقامة علاقات قوية مع الحكومة المركزية العراقية وجميع مكونات الشعب العراقي، ودعم قيام حكومة مركزية قوية بحيث تصبح قادرة على القضاء على اي أمل كردي بالانفصال، لذا تسعى تركيا كما دول الجوار الآخرين ان يكون تشكيل لها رأي في تشكيلة الحكومة العراقية الجديدة.
الثاني، التعاون الإقليمي مع دول الجوار العراقي والتنسيق معها لاتخاذ سياسات موحدة تجاه أي امكانية لتقسيم العراق وبقائه موحدًا وهو هدف ومصلحة تتشاطر فيها كل من ايران والسعودية وسوريا وتركيا.



3- الاقتصاد



للنفط أهمية كبرى في علاقات تركيا مع العراق، وذلك من خط نفط جيهان كركوك الذي يوفّر لتركيا موارد دخل هام

كذلك يهم تركيا الحفاظ على العلاقات الاقتصادية واستثمارات شركاتها في العراق، فهناك الالاف من الشركات التركية التي تعمل في العراق وبالتحديد في شماله ويعمل معظمهم في قطاع البناء وفي التنقيب عن النفط. ويهم الاتراك أيضًا تعزيز التبادل التجاري بين البلدين الذي تضاعف ثلاث مرات في السنتين المنصرمتين.



خامسًا: اسرائيل
تبدو اسرائيل معنية أكثر من سواها بالتطورات التي ستحصل في العراق بعد الانسحاب الاميركي منه، وبالفراغ الاستراتيجي الذي سيخلّفه خاصة بعدما أثبتت التطورات وحرب تموز 2006 بالتحديد، أن اسرائيل فقدت توازن الردع الاستراتيجي الذي لطالما امتلكته منذ حرب حزيران 1976. ولقد كشفت التقارير الصحفية أن بنيامين نتنياهو عبّر لوزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس خلال الزيارة التي قام بها لواشنطن أن الانسحاب الأميركي من العراق سيعرض تل أبيب لمخاطر كبيرة.

بعد الانسحاب الاميركي من العراق، تخشى اسرائيل من
- تمدد النفوذ الايراني في المنطقة، وهو شعور بالخطر استشعره الاسرائيليون وتزايد لديهم بعدما اعتبروا ان الولايات المتحدة بقدومها الى العراق واحتلالها له واطاحتها بصدام حسين، زادت من النفوذ الايراني وازاحت قوة معيقة لانتشار الفكر الثوري الايراني في المنطقة، وهو بالضبط ما أقلق ملك الاردن الذي عبّر عنه عنه بالتبيه من خطر "الهلال الشيعي"

- عراق غارق في الفوضى وانتشار "الارهاب" الذي يمكن أن يقوّض استقرار الاردن، على وجه الخصوص، وذلك لسببين: قدرة الجهاديين على الامتداد الى الداخل الاردني، والحجم الهائل للاجئين العراقيين في الاردن والذي يقارب مئات الآلاف.
في تقديرها لموقف ما بعد الانسحاب الاميركي من العراق‏،‏ تحدثت وثيقة اسرائيلية[11] عن مكامن الخطر التي ستنجم عنه‏، ويمكن أن نوجزها بما يلي:



1- سينظر الى الانسحاب في العالمين العربي والإسلامي كهزيمة لأميركا‏.‏ وسيؤدي بشكل فوري إلى زيادة هائلة في طاقة الحركات الإسلامية الجهادية‏،‏ حيث ستعمل هذه الحركات على زعزعة أنظمة الحكم العربية المعتدلة في المنطقة‏،‏ إلى جانب تعزيز الأنظمة التي تناصب أميركا العداء‏.‏

2- أكبر ضرر إستراتيجي سيهدد إسرائيل سيكون المسّ باستقرار نظام الحكم في الأردن الذي تصفه الوثيقة بأنه أهم ذخر إستراتيجي لإسرائيل في المنطقة؛ لأنه يمثل الحزام الفاصل بين إسرائيل والهلال الشيعي الذي سيتبلور بعد الانسحاب، إلى جانب موقف النظام الأردني الصارم ضد الحركات الإسلامية‏.‏ ومن شأن إحداث أي تغيير هناك أن يحوله إلى ساحة فعل ضد إسرائيل‏،‏ بما يعيدها إلى السنوات الأولى لوجودها‏.‏
3- الانسحاب سيكون عنصرًا مشجعًا لقوى المقاومة الفلسطينية وحزب الله على توجيه ضربات لإسرائيل‏،‏ وقد يعود العراق ليصبح نقطة انطلاق لتنفيذ عمليات إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل‏.

4- الانسحاب من العراق سيحرر إيران من الضغوط الممارسة عليها حاليًا‏،‏ وسيسمح لها بتطوير برنامجها النووي وصولاً إلى إنتاج القنبلة النووية‏.


غير أن بعض الخبراء الاسرائيليين الآخرين أشاروا إلى أن الانسحاب الأميركي قد يشتمل على تطورات إيجابية بالنسبة لإسرائيل‏،‏ التي يمكن ايجازها بما يلي:

1- أن قادة الجيش الأميركي في العراق هم الذين يرفضون بشدة قيام الإدارة الأميركية بمهاجمة إيران وتدمير برنامجها النووي، على اعتبار أن إيران سترد بشن عمليات انتقامية ضد القوات الأميركية في العراق‏ وهو أمر لفت اليه بترايوس عندما اعتبر ان السياسة الاسرائيلية في الشرق الاوسط تعرّض أمن قواته في المنطقة للخطر.‏ لذا، يرى بعض الاسرائيليين أن الانسحاب من العراق قد يزيل عقبة قوية أمام تحرك أميركي عسكري محتمل ضد إيران‏.‏

2- قد يؤدي الانسحاب من العراق الى فوضى وتقاتل يؤدي الى تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم لكل من السنّة والشيعة والأكراد. وعليه، فإن عملية العزل العرقي من جانب، وخلق تكتلات طائفية على أسس قومية من جانب آخر، في العراق ومن بعده سوريا ولبنان، ستخلق ظروفًا جيدة لأجواء قبول دولة يهودية كجزء لا يتجزأ من المنطقة، بحسب التحليل الاسرائيلي.



احتمالات ودوافع التدخل في الشؤون العراقية


تتحسب دول جوار العراق منذ الآن لمرحلة ما بعد الانسحاب الاميركي من العراق، فتقيّم كل دولة ما هي المخاطر والتحديات التي ستواجه مصالحها القومية وكيف يمكن لها الاستفادة من التطورات، ويرتبط هذا الامر الى حد بعيد بما ستكون عليه العلاقات الاميركية العراقية في المستقبل، وما هي الأوراق التي ستستمر الولايات المتحدة في الامساك بها، ومصير التوازن الاقليمي بعد الانسحاب.

أما في ما يختص برغبة دول الجوار وقدرتها على التدخل في الشؤون العراقية، فالامر مرتبط بالتفاعلات الاقليمية والتطورات السياسية الداخلية العراقية بشكل كبير.


وسنوجز في ما يلي، كيف يمكن أن يكون شكل وأسباب التدخلات المستقبلية لدول الجوار العراقي في الشؤون الداخلية العراقية، ونعطي تصورًا للحد منها.

بداية، تجدر بنا الاشارة الى أنواع عدة من التدخل يمكن أن تستخدم في الساحة العراقية بعد الانسحاب الاميركي كثيرة ومتنوعة، منها الاقتصادي والثقافي والدبلوماسي وغيرها، ولكننا سنقصر حديثنا عن نوعين من التدخلات التي ستستخدمها دول الجوار: التدخل العسكري والتدخل السياسي المباشر.

1- في التدخل العسكري وفيه صنفان:

أ‌- التدخل العسكري غير المباشر (المعتمد حاليًا):

يتجسد هذا الشكل من التدخل بأساليب متنوعة، منها أن تقوم دولة ما أو دول عدة بدعم أحد أطراف النزاع المحليين أو الميليشيات وتزويدهم بالعتاد الحربي، أو تدريبهم على استخدام الاسلحة، أو تقديم المعونات المالية لتمكينهم من شراء الاسلحة وغيرها من المعدات الحربية، وهو ما يحصل في العراق حاليًا من قبل معظم دول الجوار.
من المؤكد أن هذا النوع من التدخل سيستمر في فترة ما بعد انسحاب الاميركيين منه، خاصة إذا لم يستطع العراق أن يشكّل قوات أمن قوية بشكل كافٍ وفي حال تركت القوات الاميركية العراقية بدون تدريب وتجهيز كاف لقوات الامن العراقية، عندها سيزداد هذا النوع من التدخل من قبل دول الجوار الاقليمية في محاولة للسباق بينها على سد الفراغ الامني الذي سيخلّفه الاميركيون بواسطة دعم الميليشيات أو القوى المحلية موالية.
يوازي هذا النوع من التدخل خطورة التدخل العسكري المباشر ولا يقل أهمية عنه. وبالرغم من ان هذا التدخل يبقى سريًا عادةً، واحيانًا كثيرة لا يتم الاعتراف بحصوله، الا انه يبقى تحديًا لسيادة العراق وتهديدًا لاستقراره

للحد من هذه الظاهرة المدمرة للعراق، على الحكومة العراقية تقوية الجيش العراقي والقوى الامنية العراقية وتسلّم زمام الامن بشكل كامل بعد انسحاب القوات الاميركية، وضرب بيد من حديد لكل القوى المخلة بالامن، خاصة وأن المقاومة ينتفي مبرر وجودها في حال انسحاب الاميركيين بالكامل من الاراضي العراقية.

ب‌-التدخل العسكري المباشر
أن احتمالات زعزعة الاستقرار في العراق بعد الانسحاب الاميركي منه، ستؤدي حتمًا إلى تدخل الدول المجاورة للعراق في شؤونه. لكننا نجد أن التدخلات ستقتصر على الجانب السياسي أو العسكري غير المباشر على النحو الذي يحصل الآن. ولا يمكن توقّع تدخلات عسكرية مباشرة علنية إلا من قبل الاتراك، ولسبب حصري وحيد ومعلن هو اجتثاث الخطر الكردي.

أما احتمالات تدخل عسكري مباشر من قبل الايرانيين او السعوديين او السوريين فتبقى بعيدة الاحتمال، لانتفاء الحاجة ولقدرتهم على تحقيق مصالحهم بدون التدخل العسكري المباشر المثير للجدل.

عليه، نجد ان تزايد قدرة البشمركة الكردية وتفاقم رغبتها في الانفصال، ستكون تهديد كبير للاستقرار والأمن العراقي وزيادة رغبة الدول المجاورة بالتدخل في شؤونه. الاسوأ في هذا الامر، هو موقف قوات الأمن العراقية من الموضوع، فإما أن ترفض القوات العراقية الرسمية انفصال الاكراد ويتحول النزاع بينها وبين البشمركة الى حرب أهلية، أو تكون من الضعف بحيث تقف عاجزة أمام تنامي قوة البشمركة وسيطرتها العسكرية، ما يؤدي الى تدخل دول الجوار لمنع تشكّل قوة كردية تؤدي الى الانفصال وتأسيس دولة كردية يهدد وجودها مصالح كل من تركيا بالدرجة الاولى وايران وسوريا بدرجة أقل.

للحد من مخاطر التدخل العسكري المباشر، على الحكومة العراقية المستقبلية منع تنامي الحركة الانفصالية الكردية، لأن جميع الدول المجاورة معنية بهذا الامر وتخشاه، ولن تتوانى عن التدخل لمنعه.

النوع الثاني: التدخل السياسي
وهو تدخل قائم وفاعل وسيستمر في المرحلة القادمة وبقوة. إن التوجهات السياسية المستقبلية للحكومة العراقية وتطور موازين القوى الداخلية السياسية في العراق تبدو أكثر أهمية وحافزًا لتدخل دول الجوار من الآثار المترتبة على الانسحاب بحد ذاته.

ويبدو العامل الأكثر أهمية في تشكيل مستقبل الحسابات الإقليمية تجاه العراق هو كيف يمكن للنظام العراقي نفسه يتطور، وما هي توجهاته السياسية المستقبلية وهل سيدخل في سياسة المحاور المعلنة أم سيبقى مرتعًا لتقاسم النفوذ والحرب بالوكالة بين الاطراف الاقليميين.
بالتأكيد، لن يسمح أي محور اقليمي للعراق بأن يلتحق بالمحور المنافس، لان قوة العراق واهميته الجيوبوليتكية والسياسية تجعل منه قوة وازنة تؤدي الى زعزعة التوازن الاستراتيجي القائم، وقد تحسم الغلبة لأحد المحاور الاقليمية فيما لو تحقق انخراط العراق الكامل في محور من المحاور.

عليه، ان تطور العراق واستقلال قراره السياسي وبروز توجهاته الوطنية بقوة، وتقوية جيشه وقواه الامنية بشكل تتمكن فيه من الحفاظ على الاستقرار والأمن تبدو أمرًا مهمًا لمنع التدخل في شؤونه، والاهم أن لا يظهر الجيش العراقي كقوة تهديد لجيرانه، فمتى شعرت القوى المجاورة للعراق بالتهديد، لن تتوانى عن التدخل لحماية مصالحها من تهديدات محتملة تأتيها عابرة للحدود العراقية.

ان تحقق هذه الامور ستكون أفضل ما يؤدي إلى الحفاظ على التوازن في المنطقة والحد من خطر التدخل الخارجي في شؤون العراق الداخلية.

خاتمة

في كل الأحوال، سيقيّم جيران العراق نتائج الانسحاب الأميركي في ضوء مصالحهم الخاصة، وعلى ما يبدو لغاية الآن، ستتعامل هذه الدول مع الملف العراقي بحسب القضية المطروحة وبالمفرق وليس بالجملة، كأن تتفق مصلحة دولتان على دعم خيار ما، ثم تتباينان في قضية اخرى.
سيبقى الصراع قائمًا بقوة، وسيشتد بين كل من ايران والسعودية وستبقى الساحة العراقية مسرحًا لهذا الصراع.
ستحاول تركيا أن تشكّل قوة ارتباط قادرة على التنسيق مع كافة الاطراف الفاعلة، وسيبقى التنسيق قائمًا بين ايران وسوريا من ناحية استراتيجية، مع امكان بعض ظهور بعض التباينات المضبوطة في بعض الملفات.
ويبدو أن التوافق "غير المعلن" بين دول الجوار سيكون على بعض القضايا الجوهرية واهمها:

- وحدة أراضي العراق: تتشارك الدول المجاورة جميعها في الرغبة بعدم تقسيم العراق، والحفاظ على وحدته لما في التقسيم من أخطار تتهددها، وخشيتها على وحدة بلادها.
بالنسبة لايران، هي تفضل وحدة العراق على قاعدة أن الأفضل لها أن يجاورها عراق موحد تتحكم هي بسلطته المركزية بدلاً من دويلات عراقية ثلاث تتعدد فيها مراكز القرار بما يجعل الأمور أكثر تعقيداً بالنسبة إليها لما يوفره من أرضية لتدخلات خارجية عبر دعم هذه الدويلة أو تلك.

- الجيش العراقي: تريد تركيا جيشًا عراقيًا قويًا قادرًا على حفظ الاستقرار والامن وكبح الرغبة الانفصالية الكردية، ولكن من مصلحة دول الجوار ان لا يتمتع العراق بجيش قوي جدأ يتحول الى أقوى جيش في المنطقة، ويهدد جيرانه كما كان يفعل في السابق. لذلك لن تسمح بذلك وستعمد الى تعطيل امكانية حصول هذا الامر.
إذا، في المدى المنظور واقله لمدة عشر سنوات قادمة، لن يسمح للقوى العراقية بالتسلح واكتساب قوة تسمح بالغزو او تبديل ميزان القوى الاستراتيجي في المنطقة.

- القضية الكردية: تتقاطع كل من ايران وسوريا وتركيا، في موقفها من قضية الاكراد. إن التحدي الكردي المتزايد في شمال العراق أدى في السابق الى زيادة التعاون العسكري بين تركيا وايران ولقد أيدت كل من ايران وسوريا، الجهود التركية لاحتواء والقضاء على هذا التهديد المشترك. بالنسبة للسعودية، قد يؤدي انفصال الاكراد وتشكيل دولة الى مطالبات شيعية بتشكيل دولة في الجنوب، لذا ليس من مصلحتها دعم اقامة الدولة الكردية المنفصلة، وستقف ضده
--------------------------------------------------------------------------------

[1] قدمت هذه الدراسة في مؤتمر عقد حول العراق في بيروت في آب 2010.



[2] للاطلاع على وجهة نظر الاميركيين في كيفية تحديد ايران لأهدافها الاستراتيجية وتعاطي الولايات المتحدة مع هذه الأهداف والمصالح، انظر:



Green, Jerrold D., Frederic Wehrey, and Charles Wolf, Jr., Understanding Iran, RAND Corporation, Santa Monica, Calif., April 9, 2009.



[3] استفاض بعض المفكرين الاميركيين في شرح هذا الخلاف، وقدموا توصيات للادراة الاميركية في كيفية الاستفادة من هذا الصراع لتحقيق مصالح الولايات المتحدة .



للاطلاع على بعض وجهات النظر الاميركية في كيفية استغلال الصراع السني الشيعي في المنطقة ، يمكن الاطلاع على الدراسات التالية:



1-- Wehrey, Frederic, Theodore W. Karasik, Alireza Nader, Jeremy Ghez, Lydia Hansell, and Robert



A. Guffey, “Saudi-Iranian Relations Since the Fall of Saddam: Rivalry, Cooperation, and Implications



for U.S. Policy”, Santa Monica, Calif.: RAND Corporation, March 26,2009



2- Wehrey, Fred, “Saudi Arabia: Shiites Pessimistic on Reform But Push for Reconciliation,” Arab



Reform Bulletin, Washington, D.C.: Carnegie Endowment for International Peace, June 2007.



[4] يمكن الاستدلال الى ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، من الحملة التي شنّها الاعلام السعودي كصحيفة الشرق الاوسط، ضد احتمال أي عقد للصفقة حين أعلنت الولايات المتحدة عن رغبتها في بيع العراق طائرات اف 16 ودبابات وذلك خلال خريف 2008.



[5] باعتراف الاميركيين أنفسهم أن السعودية قد دعمت وموّلت المجموعات الارهابية في العراق، انظر:
Walter L. Perry,”Withdrawing from Iraq, Alternative Schedules, Associated Risks, and Mitigating Strategies”, Santa Monica, Calif.: RAND Corporation, 2009.
[6] من هذه القبائل: شمر، عنيزة ، حرب ، شرارات ، وبنو خالد.



[7] Walter L. Perry,”Withdrawing from Iraq, Alternative Schedules, Associated Risks, and Mitigating Strategies”, Santa Monica, Calif.: RAND Corporation, 2009.

[8] من خلال قناة العربية على سبيل المثال لا الحصر.

[9] منها على سبيل المثال، الفتوى التي صدرت عن احد المشايخ السعوديين بتحريم الجهاد ضد الاميركيين.

[10] بما في ذلك قادة البعث الرفيعي المستوى، وضباط النظام السابق، الذين يمتلكون القدرة على تحريك بعض المجموعات في الداخل العراقي، والتأثير في مجريات الامور هناك.


[11] موجز مترجم عن الدراسة منشور في موقع اسلام اونلاين، على الرابط التالي:

http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1252188228990&pagename=Zone-Arabic-News/NWALayout#ixzz0uEOzKTXE