2025/07/14
هل بلغت "إسرائيل" نقطة "الذروة" في حرب إيران؟
2025/07/06
العدالة الانتقائية: "إسرائيل" والولاية القضائية العالمية في أوروبا
تقدّم المحامي والنائب في البرلمان الأوروبي
عن إسبانيا خاومي أسينس بالنيابة عن موكله سيرجيو توريبيو أمام المحكمة الإسبانية
بشكوى ضدّ مسؤولين سياسيين وأمنيين وعسكريين إسرائيليين بارتكاب جرائم حرب وجرائم
ضدّ الإنسانية، وذلك خلال الاعتداء والاختطاف لطاقم سفينة "مادلين" التي
كانت تحمل مساعدات إنسانية وتهدف لكسر الحصار عن قطاع غزة.
وتتضمّن الشكوى أوامر اعتقال ضدّ
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بصفته أعلى سلطة تنفيذية والقائد الأعلى
لـ "الجيش" الإسرائيلي، ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بصفته كان
المسؤول الأول عن العمليات العسكرية الإسرائيلية، وقائد سلاح البحرية الإسرائيلية
دافيد سالاما، والمتحدّث الرسمي السابق باسم "الجيش" الإسرائيلي دانيال
هغاري، وكبار قادة وحدة الكوماندوس في البحرية الإسرائيلية، بالإضافة الى كلّ من
يظهره التحقيق متورّطاً.
قانونياً، تمثّل هذه الدعوى فرصة
لكلّ مواطن إسباني من أصل فلسطيني أو لبناني، لديه أقارب أو عائلة في غزة أو لبنان
وتعرّضت للاعتداءات الإسرائيلية، للانضمام إلى الدعوى أو رفع دعوى مماثلة انطلاقاً
من مفهوم الولاية القضائية العالمية.
يُمثّل مفهوم الولاية القضائية
العالمية ركيزة أساسية في السعي لتحقيق العدالة الجنائية الدولية، وهو يسمح لأيّ
دولة بمقاضاة الأفراد مرتكبي الجرائم الدولية الكبرى (جرائم الحرب والجرائم ضدّ
الإنسانية والإبادة الجماعية والتعذيب) بغضّ النظر عن مكان ارتكابها أو جنسية
الجاني. ويعدّ هذا المبدأ استثناءً لمبادئ الولاية القضائية التقليدية المتعلّقة
بالإقليمية (مكان وقوع الجريمة)، وجنسية الجاني، وجنسية الضحية، لكن يجب أن يتقدّم
بها متضرّرون مباشرون أو أقاربهم.
تُلزم المعاهدات الدولية، مثل
اتفاقيات جنيف لعام 1949 (وتحديداً أحكامها المتعلّقة بـ "الانتهاكات
الجسيمة") واتفاقية مناهضة التعذيب، الدول الأطراف صراحةً بمقاضاة أو تسليم
(مبدأ التسليم أو المحاكمة) الأفراد الموجودين على أراضيها والمشتبه في ارتكابهم
مثل هذه الجرائم. كما يُقرّ القانون الدولي العرفي بالولاية القضائية العالمية
لمجموعة أوسع من جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية.
ولكي تمارس محكمة وطنية الولاية
القضائية العالمية، يجب أن تتوافر عدّة شروط، هي:
- أن تكون
التشريعات الوطنية تخوّل المحاكم الوطنية ممارسة الولاية القضائية العالمية على
الجرائم الدولية الكبرى.
- أن تكون الجريمة
ضمن فئة الجرائم الدولية الكبرى الخاضعة للولاية القضائية العالمية.
وكانت الدول الأوروبية، وخاصة تلك
الأطراف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، قد أدرجت مقاضاة تلك
الجرائم الدولية إلى حدّ كبير في أنظمتها القانونية المحلية، مما أدى إلى إنشاء
الإطار القانوني للولاية القضائية العالمية. كذلك، كانت دول مثل ألمانيا وبلجيكا
وإسبانيا وهولندا، تاريخياً، في طليعة الدول التي طبّقت الولاية القضائية العالمية.
تاريخياً، اعتمدت بعض الدول
الأوروبية، ولا سيما بلجيكا وإسبانيا، قوانين أوسع نطاقاً للولاية القضائية
العالمية، سمحت ببدء الدعاوى حتى من دون حضور المتهم شخصياً. على سبيل المثال، في
أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، رُفعت شكوى في بلجيكا ضدّ أرييل
شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بالجرائم المرتكبة في مجزرة صبرا وشاتيلا.
وبالمثل، حقّقت المحاكم الإسبانية في قضايا تتعلّق بالأعمال الإسرائيلية في غزة.
لكن، بسبب الضغوط السياسية
والتداعيات الدبلوماسية، تمّ تعديل القوانين الوطنية لتقليص صلاحية المحاكم
المحلية في تطبيق قوانين الولاية القضائية العالمية. على سبيل المثال، ضيّقت
بلجيكا وبريطانيا نطاق ممارسة المحاكم الوطنية للولاية القضائية العالمية بشكل
كبير بعد ضغوط سياسية أبرزها تلك المتعلقة باعتقال مسؤولين إسرائيليين (شارون في
بلجيكا، وتسيبي ليفني في بريطانيا)، وبدأت بعض الدول الأخرى تضع شروطاً أكثر
صرامة، مثل شرط وجود المتهم على أراضيها أو موافقة مدعٍ عامّ رفيع المستوى.
وتسبّبت الجرائم التي يرتكبها
إسرائيليون، بازدواجية أخلاقية وقانونية للدول الأوروبية في إطار تطبيق القانون الجنائي
الدولي:
1-
تطبيق الولاية القضائية العالمية: في وقت استقبلت
العديد من المحاكم الأوروبية قضايا تقدّم بها مواطنون في قضايا متعلقة بجرائم
ارتكبت في سوريا أو أفريقيا، إلّا أنّ الاعتبارات السياسية والخشية من توتر
العلاقات السياسية مع "إسرائيل" يجعلهم متمسّكين بشروط صارمة خاصة في
القضايا المتعلقة بالمسؤولين الإسرائيليين ومنها اشتراط حضور المتهم شخصياً إلى
المحكمة.
2-
تطبيق الالتزامات بموجب نظام روما الأساسي: بالرغم من
أنّ معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي هم أطراف في نظام روما الأساسي
للمحكمة الجنائية الدولية، والذي يعني أنّ تلك الدول أدرجت جرائم الحرب والجرائم
ضدّ الإنسانية والإبادة الجماعية في قوانينها الوطنية، إلّا أنّ العديد منها أعلن
عن نيّته التملّص من تلك الالتزامات في معرض واجباتهم باعتقال بنيامين نتنياهو
المطلوب للحكمة الجنائية الدولية.
2025/07/01
أربعة سيناريوهات تحدّد مصير نتنياهو
في موقف لافت ويحصل للمرّة الأولى في
تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة و"إسرائيل"، حيث يتدخّل رئيس
أميركي بالقضاء في "إسرائيل"، نشر الرئيس الأميركي دونالد ترامب منشورين
متتاليين على منصة "Truth Social"، اعتبر فيهما أنّ محاكمة نتنياهو هي "مطاردة ساحرات"
سياسية، و"يجب أن تُلغى فوراً أو يُمنح (نتنياهو) عفواً، فهو بطل حربي عظيم".
وفي منشور لاحق، قال ترامب إنّ
"الولايات المتحدة تنفق مليارات سنوياً لحماية إسرائيل، ونحن لن نسمح بحدوث
ذلك" إذا استمرّ الحكم القضائي على نتنياهو.
وبالتزامن مع هذه التصريحات، قرّرت
المحكمة تأجيل جلسات محاكمة نتنياهو لأسباب "دبلوماسية وأمنية".
أثارت منشورات ترامب ردود فعل
متباينة في "إسرائيل"، حيث اعتبرت المعارضة أنّ ذلك يشكّل تعدّياً على
استقلالية القضاء، بينما دعم حلفاء نتنياهو دعوة ترامب معتبرين أنّ الرئيس
الأميركي محقّ وأنّ إلغاء المحاكمة اعتراف بـ "الضرورة الوطنية" لقيادته
البلاد.
وقد تبدو مبادرة ترامب نوعاً من
ملاقاة لطروحات إسرائيلية حصلت في وقت سابق، حيث طرح الرئيس الإسرائيلي إسحاق
هرتسوغ، فكرة "صفقة اعتراف بالذنب، والخروج من المشهد السياسي مقابل إلغاء
المحاكمة" عنه وذلك لتخفيف التوتر الاجتماعي والسياسي والاستقطاب في "إسرائيل".
وكشفت وسائل إعلام إسرائيلية عن وجود
مفاوضات سرية تدور خلف الكواليس بين فريق الدفاع عن نتنياهو، والنيابة العامّة،
بهدف التوصّل إلى صفقة تقضي بإنهاء محاكمته في قضايا الفساد، مقابل انسحابه من
الحياة السياسية. إلّا أنّ نتنياهو لا يُبدي استعداداً للمغادرة بشكل نهائي، بل
يُفاوض على تقديم تنازلات سياسية وأمنية، منها إنهاء حرب غزة وإعلان النصر، مقابل
عفو رئاسي شامل لا يوسم بالعار السياسي ما يعني العودة إلى الحياة السياسية
والترشّح إلى الانتخابات المقبلة مستفيداً من الدعم اليميني الذي يحظى به خاصة بعد
الحرب على إيران.
وكشفت القناة 12 العبرية أنّ القاضي
المتقاعد أهارون باراك، الذي يشغل حالياً منصب ممثّل "إسرائيل" في محكمة
العدل الدولية، يرعى جهود الوساطة بين النيابة وفريق الدفاع عن نتنياهو. وقد عُقد
اجتماع سري في منزل باراك بـ "تل أبيب" الشهر الماضي، لمناقشة صفقة الادّعاء
قبل بدء جلسات الاستجواب المضاد لنتنياهو. باراك شدّد على أنّ أيّ اتفاق يجب أن
يتضمّن خروجاً نهائياً لنتنياهو من الحياة السياسية، بينما يصرّ محامو نتنياهو على
أنّ موكلهم لن يقبل وصمة العار، التي قد تحرمه من الترشّح أو تولّي مناصب رسمية
مستقبلاً.
وفي
ظلّ هذه المعطيات، ما هي السيناريوهات المحتملة؟
1-
السيناريو الأول: الخروج الآمن مقابل إنهاء الحرب
والعفو
في هذا السيناريو يستطيع نتنياهو أن
يحفظ مستقبله السياسي ويعمد إلى التفاهم على صفقة سياسية – قضائية شاملة تُنهي
محاكمته مقابل إنهاء حرب غزة، لكن من دون اعتراف صريح بالذنب أو تحميله وصمة العار
السياسي.
مواضيع متعلقة
فرانشيسكا ألبانيزي.. المقرّرة
الخاصة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة
13
تموز 09:34
"إسرائيل"
الكبرى.. بين الحقيقة والوهم!
13
تموز 09:30
وهكذا قد تتضمّن الصفقة:
وقف الحرب على غزة، مقابل إصدار عفو
رئاسي.
إعلان "نصر" عسكري يعزّز
شرعيّته السياسية أمام الجمهور.
وتبقى له إمكانية الترشّح للانتخابات
المقابلة ومحاولة العودة إلى الحكم.
سوف ترفض المعارضة هذا الأمر، وستصرّ
على خروجه من السياسة كلياً.
2-السيناريو
الثاني: استمرار المواجهة القضائية والسياسية
يفشل
التفاوض بين فريق الدفاع والنيابة العامّة، ويرفض نتنياهو أيّ صفقة تتضمّن إدانة
أو اعتزالاً دائماً من الحياة السياسية. وتبقى حالة الاستقطاب الداخلي الإسرائيلي
والسيف المصلت على نتنياهو بالسجن، وتفتح الباب لإدانته لاحقاً ما ينهي مستقبله
السياسي.
الأخطر في هذا السيناريو استمرار حرب
غزة إلى ما لا نهاية لأنّ نتنياهو سيستخدمها لإطالة وجوده في السلطة، حيث أعلن
مراراً أن لا انتخابات في ظلّ الحرب.
3-السيناريو
الثالث: تجميد المحاكمة وانتظار التسوية
بذريعة الأوضاع الأمنية
والدبلوماسية، يتمّ تجميد محاكمة نتنياهو مؤقتاً، ويبقى الحال على ما هو عليه،
بانتظار ما ستؤول إليه التسويات الإقليمية التي سيقوم بها الرئيس الأميركي دونالد
ترامب في الإقليم.
هذا السيناريو يؤجّل الحسم، لكنه
يُبقي جميع الأطراف في موقع المساومة، مع احتمالات إعادة خلط الأوراق لاحقاً،
وفقاً لتطوّرات إقليمية أو ضغوط أميركية متزايدة.
4-السيناريو
الرابع: إخراج نتنياهو من الحكم لإخراج "إسرائيل" من العزلة الدولية
في ظلّ التصاعد المتواصل للاتهامات
الدولية بجرائم حرب وإبادة في غزة، وتزايد عزلة "إسرائيل" على الساحة
العالمية، يتمّ طرح ربط الانتهاكات والإبادة والحروب بنتنياهو وحلفه اليميني
المتطرّف، وبالتالي يكون الأنسب التخلّص من نتنياهو باعتباره عبئاً على
"إسرائيل".
في هذا السيناريو، يبدأ ترامب، بدافع
الحفاظ على "إسرائيل وصورتها العالمية ومستقبلها" في ممارسة ضغط غير
مباشر على نتنياهو للخروج نهائياً من الحياة السياسية. الهدف "إنقاذ صورة
إسرائيل"، وفتح الطريق أمام تطبيع أوسع وتسوية إقليمية شاملة لا يمكن لليمين
المتطرّف أن يقبل بها.
في هذا السيناريو، يُدفع نتنياهو إلى
القبول بصفقة اعتزال مشرّف مع عفو كامل، لكن بشرط ألّا يعود إلى الحكم مجدّداً.
وبذلك، يُقدّم ترامب نفسه كمن "أنقذ إسرائيل من الانهيار الدبلوماسي"،
وقام بتوقيع اتفاقيات سلام لاحقة في الشرق الأوسط، ما يخدم أجندته السياسية
الداخلية أيضاً.
بالنتيجة، وبسبب الغموض الذي يلفّ القضية، والأدوات التي ما زال نتنياهو يملكها في الداخل، والتطوّرات المتسارعة في المنطقة، تبقى السيناريوهات جميعها مطروحة لغاية الآن.
2025/06/24
الجغرافيا الإيرانية: نعمة أم نقمة؟
في تغريدة لافتة على منصته (Truth Social) بتاريخ 22 حزيران/يونيو
2025 كتب الرئيس الأميركي دونالد ترامب: "قد لا يكون من المقبول سياسياً
استخدام مصطلح "تغيير النظام"، لكن إذا كان النظام الإيراني الحالي غير
قادر على "جعل إيران عظيمة مجدّداً"، فلماذا لا يحصل تغيير في النظام؟؟؟MIGA!!!»
وجاءت التغريدة بعد الضربات الجوية
الأميركية على ثلاث منشآت نووية إيرانية أساسية ادّعى خلالها ترامب وكبار
المسؤولين الأميركيين أنّ الهدف تعطيل البرنامج النووي الإيراني ومنع إيران من
تصنيع قنبلة نووية، ورفضوا الاتهامات بأنّ الهدف هو تغيير النظام في إيران.
وفي هذا الإطار، يخشى الكثير من
الأميركيين أن يكون أولادهم ضحية خدعة جديدة تشبه خدعة أسلحة الدمار الشامل
العراقية، والتي استخدمت مبرّراً لاجتياح أميركي للعراق خارج إطار القانون الدولي.
ومع الإدراك بحجم الاختلاف الجوهري الكبير جداً بين مقوّمات العراق ومقوّمات إيران
من جميع النواحي الديموغرافية والعسكرية والعقائدية والسياسية إلخ، سنبحث تأثير
جغرافية إيران على قوتها الحالية وقدرتها.
منذ الإمبراطوريات القديمة وحتى نشوء
القوى العظمى الحديثة، أدّت التضاريس والمناخ والموقع دوراً محورياً في تحديد قوة
الدولة وقدرتها على الحفاظ على أمنها. وفي هذا السياق، قد تبدو الجغرافيا
"نعمة" تمنح الدول مزايا طبيعية، أو "لعنة" تستجلب تدخّلات
خارجية وتحوّل الدولة الى ساحة تجاذب وصراع. مع العلم أنّ الجغرافيا وحدها ليست
عاملاً حاسماً، فالموقع الاستراتيجي يتحوّل إلى نعمة إذا كانت الدولة قوية ولها
مقوّمات الحفاظ على نفسها، بينما الموقع الجغرافي نفسه يتحوّل نقمة إذا كان الحكم
المركزي ضعيفاً والشعب منقسماً على ذاته.
توفّر الجغرافيا للدولة تحصينات
طبيعية وموارد وفيرة وموقعاً استراتيجياً، فالدول التي تمتلك حواجز طبيعية كالجبال
أو الصحاري الواسعة أو تفصل بينها وبين العالم محيطات (كالولايات المتحدة
الأميركية) تنعم غالباً بأمن أكبر حيث يصعب على الدول التوسّعية غزوها. بالمقابل،
تؤدّي الجغرافيا دور النقمة، حيث تشكّل قلقاً للدول التي لا تمتلك موانع طبيعية
تمنع الغزو خاصة إذا كانت في منطقة مليئة بالتحدّيات والأطماع الاستعمارية.
أما في إيران، فقد شكّلت الجغرافيا
الإيرانية سيفاً ذا حدّين طبع التاريخ الإيراني، فبالرغم من أنّ تضاريس إيران
تشكّل درعاً واقية طبيعية حيث يُوصَف هذا البلد بأنه حصن طبيعي، تحيط به سلاسل
جبلية شاهقة وصحارٍ شاسعة قاسية، شهدت إيران عبر تاريخها الطويل العديد من
الغزوات، ترك كلٌّ منها بصماته التي لا تُمحى على العقل الجمعي الإيراني وإدرامه
للمخاطر والتهديدات. وأدرك الإيرانيون مبكراً أنّ الجغرافيا مهما بلغت من تحصين لا
تحمي دولةً، لذا حرصت النخب الحاكمة، على اختلاف العصور، على تعزيز التماسك
الاجتماعي، وبناء عمق ديموغرافي في قلب الهضبة، وتوجيه التنمية والعمران نحو
المناطق الوسطى بعيداً عن نقاط الضعف الحدودية.
يكمن جوهر القوة الجغرافية لإيران في
أطرافها الجبلية. إذ تمتد جبال زاغروس على طول حدودها الغربية والجنوبية الغربية،
مُشكِّلةً حاجزاً وعراً أعاق تاريخياً الغزوات المقبلة من الغرب. وفي الشمال، تحرس
جبال البرز سواحل بحر قزوين، مما يجعل التوغّلات من الشمال صعبة بالقدر نفسه. أمّا
الهضبة الإيرانية الوسطى، فتسيطر عليها صحراء ملحية شاسعة، هما دشت كوير ودشت لوت،
واللتان تشكّلان كابوساً لوجستياً لأيّ عملية عسكرية واسعة النطاق. وقد جعلت هذه
العوامل، عبر القرون، احتلال إيران بشكل كامل والسيطرة عليها أمراً بالغ الصعوبة،
كما تشهد على ذلك معاناة حتى أعظم الغزاة مثل المغول والعثمانيين.
أما الخاصرة الرخوة الإيرانية فهي
منطقة خوزستان في الجنوب الغربي، وخاصة السهول الخصبة المتاخمة للعراق، والتي كانت
المناطق التي هاجم صدام حسين إيران عبرها. تعتبر هذه المنطقة أقلّ وعورة مقارنة
ببقية إيران، مما جعلها أكثر المناطق ضعفاً، مع العلم أنّ لها أهميتها
الاستراتيجية أيضاً إذ إنها غنية بحقول النفط وتطلّ على الخليج. وقد أدّت
استراتيجية إيران الحديثة، وتحالفها مع العراق بعد سقوط صدام حسين، دوراً كبيراً
في تقليص التهديدات الأمنية على البلاد والتي قد تتأتّى من تلك الخاصرة الرخوة.
وهكذا، إن قدرة إيران على الصمود
اليوم في وجه التهديدات، لا تكمن في جغرافيّتها وحدها، بل في قدرتها التاريخية على
توظيف هذه الجغرافيا ضمن استراتيجية دفاعية مُحكمة تُزاوج بين قسوة التضاريس
وصلابة الإرادة الوطنية، وقوة العقيدة التي تطبع نظامها وقواتها المسلحة ونظام
حكمها.
لقد نجحت إيران، في تطوير عقلية سياسية وأمنية تجعل من تضاريسها الوعرة خطوط صدّ طبيعية، مدعومة بشبكة دفاعية بشرية وعسكرية متجذّرة في الوعي الجمعي للإيرانيين، الذين باتوا يعتبرون الحفاظ على وحدة أرضهم واستقلال قرارهم وردّهم للعدوان على بلادهم، مسألة كرامة ووجود لا تقبل المساومة.
2025/06/17
"الالتفاف حول العلم": دراسة الظاهرة الإيرانية
تصاعدت التوترات الإقليمية ووصلت
المواجهة بين "إسرائيل" وإيران إلى ذروتها بعد قيام "إسرائيل"
بعدوان استهدف مواقع حيوية داخل الأراضي الإيرانية، واغتيال قيادات وعلماء نوويين،
أعاد إلى الأذهان ذكريات الحرب العراقية – الإيرانية، وأثار الخوف والقلق لدى
الشعب الإيراني.
وفي خضم هذا التصعيد، خرج رئيس
الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بدعوة مباشرة للإيرانيين يحثّهم فيها على
الانتفاض ضد حكومتهم وإسقاط النظام، وبدأت الصحف ووسائل الاعلام الغربية تشير إلى
إمكانية «تغيير النظام» في إيران والدعوة للعودة إلى الملكية واستقبال المعارضين
الإيرانيين.
غير أنّ تلك الدعوات لم تلقَ القبول
المتوقع، بل على العكس، فقد أسهمت الهجمات والدعوات الخارجية في إحياء مشاعر
الوطنية لدى شريحة واسعة من الإيرانيين، فتجلّى أمام العالم من جديد مفهوم
«الالتفاف حول العَلَم» الذي يوحّد الشعوب في وجه التهديد الخارجي مهما كانت خلافاتهم
الداخلية عميقة.
ما هي ظاهرة "الالتفاف حول
العلم"؟
في جوهرها، تشير عبارة
"الالتفاف حول العَلَم" إلى ميل المواطنين للاتحاد وإظهار قدر أكبر من
الوطنية والدعم لحكومتهم في أوقات التهديد الخارجي أو الطوارئ الوطنية. يستمد
المصطلح رمزيته من الصورة المجازية للمواطنين الذين يتجمعون فعليًا حول عَلَم
بلادهم كإشارة إلى الوحدة في مواجهة الشدائد.
صاغ "جون مولر" هذا المصطلح
في السبعينات، حين درس كيف أن تأييد الرأي العام الأميركي للرئيس يرتفع عادةً خلال
النزاعات والأزمات الدولية، واعتبر أن فكرة "الالتفاف حول العَلَم"
تجسّد جانبًا أساسيًا من السلوك الاجتماعي البشري: وهو غريزة الاتحاد في مواجهة
التهديد المشترك، ففي أوقات الخوف أو عدم اليقين، يسعى الناس بشكل طبيعي إلى
التضامن وإلى قيادة واضحة.
درس العديد من الخبراء أسباب هذه
الظاهرة؛ إذ نسبها "تاجفيل" إلى "نظرية الهوية الاجتماعية"،
والتي تعني أن الانتماء الوطني يدفع الناس إلى دعم المؤسسات والرموز الوطنية في
أوقات الأزمات. وركز بعض الباحثين على التهديد نفسه، معتبرين أن حاجة الناس لتعزيز
أمنهم تدفعهم إلى الالتفاف والدعم المتزايد للمؤسسات الوطنية.
وتناول آخرون الظاهرة من منظور
عاطفي، موضحين أن الغضب وانعدام الأمان والقلق تؤدي إلى ظهور آثار الالتفاف. وفي
دراسة شملت ما يقرب من 200 حرب شارك فيها الجيش الأميركي، توصلت الدراسة إلى أن
هذا التأثير لا يمكن أن يحدث من دون رسائل مؤثرة تصوغها النخب، إذ توصّلت إلى أن
"مدى قوة تأثير الالتفاف في الولايات المتحدة يعتمد إلى حد كبير على رسائل
النخب ذاتها".
في التطبيق، وبالرغم من أن المبدأ يشير
إلى ظاهرة وطنية صحية، فإن الحال ليست دائماً كذلك.
في بعض الأحيان، قد يستغل القادة
السياسيون هذا الميل، فيندفعون إلى تصدير أزماتهم إلى الخارج والقيام بحروب
خارجية، وذلك طمعاً بتعزيز الوحدة الوطنية بتعزيز القلق الوجودي وتصوير المعارضة
غير وطنية، وبالتالي تمكّن الحكومة من تجاوز حدودها القانونية، أو تُستخدم كوسيلة
لإلهاء الرأي العام عن مشاكل داخلية. هذا بالضبط ما يفعله رئيس الوزراء الإسرائيلي
بنيامين نتنياهو الذي يندفع في سياسة الهروب إلى الأمام، كلما تصاعدت الانقسامات
الداخلية في "إسرائيل" وكادت تطيحه أو تطيح حكومته اليمينية المتطرفة.
دراسة الحالة الإيرانية
وفي إيران، أدت الحرب إلى حالة من
"الالتفاف حول العلم"، حيث رُفِعت الأعلام الإيرانية والرموز الوطنية
بكثافة، وأُقيمت تجمعات التضامن مع الدولة، وعبّر متظاهرون خلالها عن غضبهم،
واعتبروا أن المقاومة والردّ على "إسرائيل" مسألة كرامة وطنية وبقاء.
كما عبّر متظاهرون إيرانيون في مدن أوروبية عن تضامنهم، مستنكرين الأفعال
الإسرائيلية ورافعين الأعلام الإيرانية.
وقوبلت دعوة نتنياهو إلى الإيرانيين
للانتفاض ضد حكومتهم برفض واسع، إذ رفض كثير من الإيرانيين، بغض النظر عن موقفهم
من النظام، خطابه، معتبرين إياه منافقًا، وقال أحد سكان طهران:
"إسرائيل" تستهين بحبنا لبلدنا؛ قصفنا لن يدفعنا للخروج إلى الشوارع ضد
حكومتنا." وفي وسائل التواصل الاجتماعي، عبّر الكثير من الإيرانيين عن غضبهم،
وتحدث معارضون سابقون عن أنهم بالرغم من معارضتهم للحكومة فإن المسألة الآن، هي
مسألة وطن وليست مسألة "نظام".
وهكذا، يتّضح أن مفهوم "الالتفاف حول العَلَم" يظلّ حاضرًا وفعّالًا عند تعرّض الدول لتهديد خارجي، كما شهدنا في الحالة الإيرانية عقب الهجمات الإسرائيلية الأخيرة. ورغم الانقسامات الداخلية والآراء المتباينة تجاه النظام، فإن التهديدات الخارجية وحالة الخطر عزّزا مشاعر التضامن والانتماء الوطني لدى شريحة واسعة من الإيرانيين، فتوحّدوا خلف رمز الدولة وسيادتها.
2025/06/13
الصراع في أميركا: أبعد من قانونَي "التمرد" و"بوسيه كوميتاتوس"
تتحضر التيارات المعارضة لدونالد
ترامب، سواء من الديمقراطيين أو سواهم، لتظاهرات حاشدة بعنوان "يوم- لا
ملوك"، وذلك خلال الاستعراض العسكري الذي سيقام في 14حزيران/ يونيو 2025،
بالتزامن مع ذكرى 250 عاماً على تأسيس الجيش الأميركي. ويهدف هؤلاء من الاستعراض
العسكري (وهو نادر الحدوث في الولايات المتحدة الأميركية) إلى إظهار "النزعة
الملكية الجديدة" لدونالد ترامب، وتحويل رمزية الجيش إلى أداة سياسية تُستخدم
في ترهيب الخصوم وتكريس النزعة السلطوية، وإسكات المعارضين في الداخل.
وتشهد الولايات المتحدة موجة
احتجاجات وإخلال بالأمن، عقب مداهمات نفذتها إدارة الهجرة والجمارك، استهدفت
مهاجرين غير نظاميين، خصوصاً في مدينة لوس أنجلوس في كاليفورنيا.
وفرضت السلطات المحلية حظر تجوّل في
عدد من المدن، ووقعت اشتباكات بين المتظاهرين والشرطة. وقامت إدارة الرئيس
الأميركي دونالد ترامب بنشر قوات الحرس الوطني ومشاة البحرية في لوس أنجلوس، الأمر
الذي وصفه حاكم كاليفورنيا، غافين نيوسوم، بأنه تجاوز سلطوي وانتهاك لسيادة
الولاية.
- الإطار القانوني
للنزاع بين ترامب وحاكم كاليفورنيا:
الإطار القانوني الذي يحكم هذا
الخلاف هما قانونان مترابطان، ولكن مختلفان وهما: قانون التمرد (1807) وقانون
بوسيه كوميتاتوس (1878).
الفرق بين قانون التمرد وقانون بوسيه
كوميتاتوس
من المهم توضيح أن هناك خلطاً شائعاً
بين قانون التمرد (Insurrection Act) وقانون
بوسيه كوميتاتوس (Posse Comitatus Act)،
رغم أنهما قانونان منفصلان ويؤدي كل منهما وظيفة مختلفة تماماً في النظام القانوني
الأميركي.
قانون التمرد، الذي أُقرّ عام 1807،
يتيح للرئيس الأميركي استخدام القوات المسلحة الفيدرالية داخل الولايات المتحدة في
حالات التمرد أو العنف الذي يعوق تطبيق القانون، ويمكن تفعيله حتى من دون موافقة
حاكم الولاية في ظروف محددة.
في المقابل، قانون بوسيه كوميتاتوس،
الصادر عام 1878، وُضع للحد من استخدام الجيش في الشؤون المدنية، ويُعدّ بمنزلة
حامٍ لمبدأ فصل السلطات والحريات المدنية، إذ يمنع القوات الفيدرالية - ولا سيما
الجيش الأميركي- من المشاركة في تطبيق القانون داخل البلاد إلا بموجب استثناءات
قانونية محددة، مثل تلك التي يمنحها قانون التمرد.
وبالتالي، فإن القانونين لا يتعارضان
من حيث المبدأ، لكن استخدام أحدهما (قانون التمرد) هو ما يسمح قانونياً بتجاوز
قيود الآخر (قانون بوسيه كوميتاتوس).
حدود القانون العسكري: قانون بوسيه كوميتاتوس
يحظر هذا القانون استخدام الجيش في
إنفاذ القوانين داخل الأراضي الأميركية. ومع ذلك، يمكن للرئيس تجاوزه عبر:
قانون التمرد.
دعم حماية الممتلكات الفيدرالية، وهو
ما استخدمه ترامب لتبرير نشر المارينز.
وينص قانون التمرد أنه "عندما
يحدث تمرد في أي ولاية ضد حكومتها، يجوز للرئيس، بناء على طلب مجلسها التشريعي أو
حاكمها، إذا لم يتمكن المجلس التشريعي من الانعقاد، استدعاء قوات من ميليشيا
الولايات الأخرى إلى الخدمة الفيدرالية، بالعدد الذي تطلبه تلك الولاية، واستخدام
القوات المسلحة التي تراها ضرورية لقمع التمرد".
وخوفاً على الحريات الفردية التي
يقدسها الأميركيون، يحظر "قانون بوسيه كوميتاتوس" على القوى العسكرية
الفيدرالية – في الأوقات العادية- المشاركة في إنفاذ القانون المدني في الولايات.
وبالرغم من هذا الحظر، فإن قانون "التمرد" استخدم 30 مرة منذ 1807، من
أبرزها:
أ- الحرب الأهلية الأميركية بأمر من
الرئيس لينكولن (1861- 1865).
ب- حماية الطلاب السود في ليتل روك،
أركنساس بأمر من الرئيس أيزنهاور (1957).
ت- حماية مسيرة الحقوق المدنية في
ألاباما بأمر من الرئيس ليندون جونسن (1965).
ث- قمع أعمال الشغب في لوس أنجلوس
(1992) بناءً على طلب حاكم الولاية.
ج-
هدد الرئيس ترامب باستخدامه عام 2020 خلال احتجاجات جورج فلويد، لكنه لم
يُفعّله.
وحالياً، استند ترامب إلى المادة 10 U.S.C. § 12406 التي تخوّل الرئيس نشر
الحرس الوطني (من دون موافقة حاكم الولاية) في حالات تمرد أو تعذر تنفيذ القوانين
بالقوات النظامية.
السياسة
أبعد من القانون
لا شكّ، تعكس هذه التظاهرات
الاستقطاب السياسي الحاد الذي يطبع المجتمع الأميركي، والخلاف الذي بات يتخطى
الانقسام الحزبي التقليدي في الولايات المتحدة، حيث يستفيد ترامب من "الموجة
الحمراء" الساحقة التي حصلت في الانتخابات الأخيرة، لتركيز السلطات في يديه،
ومحاربة خصومه ومنعهم من تكرار ما قاموا به خلال فترته الأولى.
يقوم ترامب منذ وصوله إلى البيت
الأبيض بخطة واضحة لتقليص الاعتراض داخل إدارته، ولتحسين قدرته على فرض أجندته
السياسية، ويظهر ذلك ليس من خلال تحدي حكام الولايات ونشر القوات الفيدرالية من
دون إذنهم فحسب، بل في عملية التطهير الواسعة التي حصلت في المؤسسات الفيدرالية،
وفي اشتباكه مع الجامعات وآخرها جامعة هارفارد، وما تمّ نشره حول إعادة هيكلة مجلس
الأمن القومي، حيث جرت إقالة مستشار الأمن القومي مايك والتز مع عدد من الأعضاء
الذين لا يتفقون تماماً مع أجندته، بمن فيهم من يعدّون من أبرز داعمي
"إسرائيل" وبنيامين نتنياهو.
في المقابل، يتحرك الديمقراطيون
وتيار العولمة، مدعومين بأجنحة من "الدولة العميقة" والمتضررين من
سياسات ترامب، في محاولة لعرقلة هذا التوجه ومنعه من تنفيذ أجندته بالكامل، في
تكرار لما استطاعوا فعله خلال فترته الأولى حين أغرقوه بالدعاوى القانونية
والمظاهرات والاتهامات بالتعامل مع روسيا وغيرها بحيث كبّلوا يديه ومنعوه من تحقيق
أجندته في السياسة الخارجية والداخلية.
وبالنتيجة، تشكّل المظاهرات التي
انطلقت من كاليفورنيا أكثر من مجرد احتجاجات على الهجرة، بل مؤشراً على اشتباك
داخلي حول شكل النظام الأميركي ذاته: هي رأس جبل الجليد في صراع أجنحة داخل الدولة
العميقة، وصراع بين ترامب وتيار العولمة، يتخذ عنواناً إعلامياً: "النزاع بين
النزعة السلطوية الترامبية من جهة، والتعددية والحريات والفصل بين السلطات من جهة
أخرى"، لكنه في الحقيقة صراع أعمق من ذلك بكثير.